من رواية “التجمُّع
العدد 138 | 01 حزيران 2012
آنْ إنْرايتْ


    أودُّ أنْ أُدوّنَ ما حدث لمنزل جدَّتي في الصيف الذي بلغتُ فيه الثامنة أو التاسعة من العمر، ولكني لستُ متأكِّدة من أنَّه قد حدث فعلاً. إنني في حاجة إلى إعطاء شهادة على حدثٍ غير مؤكَّد؛ وأشعر بهذا الأمر الذي يمكن ألا يكون قد وقع يضجُّ داخلي – بل إنني لا أعلم ماذا أُسمّيه. أعتقد أنه يمكن تسميته جريمة اللحم، لكنَّ اللحم لا يسقط وأنا لستُ متأكّدة أيُ نوعٍ من الألم يستقرّ في العِظام.

    كان أخي ليام يُحبُّ الطيور، ككل الصِبية، ويُحب عِظام الحيوانات الميّتة. أنا ليس لدي ذكور، لذا كنتُ كلما مررتُ بأي جُمجمة صغيرة أو هيكلٍ عظميّ أتردَّدُ وأفكِّر فيه، وفي كم كان مُعجَباً بتعقيداته. قوائم غُراب قديم بارزة من خلال كتلة من الريش؛ مبتورة وخفيفة ونظيفة. هذه هي الكلمة التي نستخدمها في وصف العِظام: نظيفة.

    أطلبُ من ابنتيّ أنْ تبتعدا، طبعاً، عن جمجمة الفأر في الغابة أو عن الحسّون الميت الذي يذوي عند جدار الحديقة. لستُ متأكّدة من السبب. على الرغم من أننا أحياناً نعثر، على الشاطئ، على عظمة سمكة حبّار شديدة النقاء حتى أني أُضطر إلى وضعها في جيبي، وأواسي يدي بتقوُّسها الأبيض السرّي.

    أعتقد أنه لا يمكن التشهير بالموتى، بل فقط مواساتهم.

    إذن أنا أُقدِّم هذه الصورة لليام: صورة ابنتيّ وهما تركضان على الحافّة الرملية للشاطئ الصخري، تحتَ سماءٍ بطيئة، مضطربة، وأكتاف معطفَيهما يهتزّان خلفهما. ثم أمحوها. أغمضُ وأتدحرج مع ضجيج البحر الهادر. وعندما أفتحهما من جديد، فذلك لكي أنادي على الفتاتين كي تعودا إلى السيارة.

    “ريبيكّا! إميلي!”

    لا يهم. أنا لا أعرف الحقيقة، أو لا أعرفُ كيف أُخبر الحقيقة. كل ما لديّ قصصٌ، أفكارٌ ليليّة، قناعاتٌ مُفاجئة يبذرها الشك. كل ما لديّ، بالأحرى، هذيان. أقول، لقد أحبّته ! لا بد أنها أحبّته ! وأنتظرُ ذلك الإحساس الذي يُولّده الفجر، عندما يُجافيك النوم. أبقى على الدَرَج بينما العائلة تتنفّس فوقي وأنا أدوِّن هذا، أصوغُ عِظامي البيضاء، النظيفة كلها، بجُملٍ جميلة.

ـ 2 ـ

    في بعض الأيام لا أتذكَّر أمي. أنظرُ إلى صورتها الفوتوغرافية وتفرُّ مني. أو أراها في يوم أحد، بعد تناول الغداء، ونُمضي وقتاً ممتعاً بعد الظهيرة، وعندما أغادر أجدُ أنها جَرَتْ داخلي كجريان المياه.

    تقول، بعد أنْ تتلاشى، “الوداع. الوداع يا طفلتي العزيزة”، وترفعُ يدها إلى وجهها العجوز الناعم، لتُرسل قُبلة. لا يزال يُغضبني، عندما أدير وجهي بعيداً عنها، كيف تختفي، وعندما أنظر، لا أرى إلا الحواف. أعتقد أني سأمرّ بها دون أنْ ألاحظها، إذا اشترتْ معطفاً مختلفاً. إذا ارتكبتْ أمي جريمة لن يكون هناك شاهد – إنها النسيان مُجسَّداً.

    عندما كنا أطفالاً صغاراً كانت تقول عادة “أين كيس نقودي؟” – أو مفاتيحها، أو نظاراتها. وسؤال “هل رأى أحدكم كيس نقودي؟” يُصبح، خلال تلك اللحظات القليلة، حاضراً تقريباً، أثناء انتقالها من الصالة، إلى غرفة النوم، إلى المطبخ والعودة من جديد. حتى عندئذٍ لم نكن ننظر إليها بل إلى أي مكان آخر: كانت هياجاً يُلاحقنا، نوعاً من الشعور الجماعي بالذنب، ونحن نفتش في أرجاء الغرفة، ونعلم أنَّ عيوننا سوف تصادف كيس النقود، البُني والممتلئ، حتى وإنْ كان موجوداً هناك بكل وضوح.

    لكنًّ بيا تعثر عليه. هناك دائماً طفل واحد قادر، ليس فقط على البحث، بل أيضاً على الرؤية. الطفل الهادئ.

    “شكراً لكِ، عزيزتي”

    للإنصاف، إنَّ أمي شخصية غامضة جداً، ومن الممكن أنها لا تعرف نفسها. من الممكن أنْ تُمرَِّر أطراف أصابعها على رتلٍ من الفتيات يظهرن في صورة فوتوغرافية قديمة ولا تميِّز نفسها بينهنّ. ومن بين أولادها كلهم، أنا الأشدّ شبهاً بأمها، جدَّتي أيدا. لابد أنَّ الأمر مُربك.

 

    قالت وهي تفتح باب الصالة، يوم سمعتُ عن ليام، “أوه مرحباً”

    “مرحباً عزيزتي”. كان يمكن أنْ تقول الشيء نفسه للقطة.

    قالت “ادخلي، ادخلي”، وهي تقف في ممر الباب، ولا تتحرّك لكي تفسح لي مجالاً للمرور.

    طبعاً هي تعرف مَنْ أنا، كل ما في الأمر أنَّ اسمي يغيب عن ذاكرتها. عيناها تنتقلان بسرعة من طرفٍ إلى طرف وهي تمحو واحداً بعد آخر عن لائحتها.

    أقول “مرحباً، ماما”، فقط لأعطيها تلميحاً. وأتابعُ طريقي متجاوزة إياها إلى الصالون.

    المنزل يعرفني. إنه دائماً أصغر مما ينبغي أنْ يكون عليه ؛ الجدران أضحت أكثر تقارباً وتعقيداً من تلك التي أتذكّرها. المكان دائماً أصغر مما ينبغي.

    خلفي، تفتح أمي باب غرفة الجلوس.

    “هل ترغبين في تناول شيء؟ كوب من الشاي؟”

    لكني لا أريد أنْ ألج غرفة الجلوس. أنا لستُ زائرة. هذا بيتي أنا أيضاً. لقد كنتُ داخله، أثناء نموّه ؛ أثناء اندماج غرفة الطعام بالمطبخ، أثناء ابتلاع المطبخ للحديقة الخلفية. إنه المكان الذي لا زالت أحلامي تولد فيه.

    هذا لا يعني أني أودّ أنْ أعيش هنا من جديد. المكان لا زال امتداداً فقط ولا منزل. حتى في الزاوية الضيّقة خلف باب المطبخ هناك باب آخر خلفه، لذا عليك أنْ تبذل مجهوداً لشق طريقك بين المعاطِف والمكانس الكهربائية لتصل إلى مرحاض الطابق السفلي. أحياناً أقول لنفسي، لا يمكنكِ أنْ تبيعي المكان، إلا كموقع. اهدميه وابنِ من جديد.

    رائحة المطبخ لا زالت كما هي – إنها تؤثِّر على أسفل جمجمتي، شديدة الغموض ومُثيرة للاشمئزاز، من تحت الدهان الحديث العهد والأصفر كزهرة الربيع. الخزائن ممتلئة بالملاءات القديمة ؛ هناك شيء مطبوخ ومُغبرّ متخلِّف حول السخّان الكهربائي ؛ والكرسي الذي كان والدي يجلس عليه، ذو الذراعين اللامعين والباردين بفعل المخلّفات الإنسانية على مدى سنين عديدة. إنه يدفعني إلى الضحك المكبوت قليلاً، ومن ثم لم أعُد أشمها بعد ذلك. إنها فقط موجودة. إنها رائحتنا نحن.

    أمشي حتى النضد وأرفع الإبريق، ولكن عندما أعود لأملأه، يعلق سِوار معطفي بالحنفية الجارية ويمتلئ كُمّي بالماء. أهزّ يدي، ثم ذراعي، وعندما يمتلئ الإبريق وأقفلها أخلعُ معطفي، وأقلب الكُم الرطب نحو الخارج وأنفضه بقوة في الهواء.

    تتابع أمي هذا المشهد الغريب، وكأنه يُذكّرها بشيء. ثم تتقدم نحو الأمام إلى حيث تستقر أقراصها في طبق صغير، على النضد القريب. تتناولها، واحداً بعد ’خر، بلسان مترهّل وشارد. ترفع ذقنها وتبتلعها جافة بينما أُدعك أنا ذراعي بيدي، ومن ثم أُمرِّرُ يدي الرطبة خلال شعري.

    يدخل آخر قرص أخضر فمها ثم تسكن حركاتها، وتتحرك حنجرتها. تطلّ من النافذة برهة. ثم تلتفتُ نحوي، بارتخاء.

    “كيف حالك، عزيزتي؟”

    “فيرونيكا!” شـعرتُ برغبة في الصراخ في وجهها. “أنتِ سمّيتني فيرونيكا!”

    قلتُ في نفسي، ليتها تُصبح مرئيّة. عندئذٍ سأستطيع أنْ أمسك بها وأفرض عليها حقيقة الوضع، وجاذبيّة ما فعلت. لكنها تبقى ضبابيّة، بعيدة المنال، ومحبوبة إلى أقصى مدى.

    توصلتُ إلى إبلاغها أنه تمّ العثور على ليام.

    “هل أنتِ على ما يُرام؟”

    “أوه ماما”

    آخر مرة صرخت في هذا المطبخ كنتُ في السابعة عشرة من العمر، وهو عمر متقدم لا يليق فيه الصراخ، ولكن ليس بالنسبة إلى عائلتنا، حيث كل فرد يبدو أنه في كل الأعمار، دفعة واحدة. أُمرّر ساعديّ الرطبين على طول طاولة الصنوبر الأصفر، بسطحها اللامع البلاستيكي السميك. التفتُ نحوها واستعددتُ للقول التقليدي (لاحظتُ أنَّ هناك شيئاً مرحاً فيه، أيضاً) ولكن، تقول، فجأةً ” فيرونيكا ! ” وتتحرك – بشبه اندفاع – نحو الإبريق. تضعُ يدها على المقبض البلاستيكي مع ازدياد الفقاعات على معدن الكروم، وترفعه، ولا زال مُغلقاً، وتُريقُ بعض مائه لتسخِّن وعاء الشاي.

    إنه حتى لم يُحبّها.

    هناك شرخ في الجدار، فوق الباب، حيث رمى ليام سكيناً على أمّنا، وضحك الجميع وصرخوا فيه. إنه هناك بين الانبعاجات والعلامات. إنه شهير. الثقب الذي أحدثه ليام، بعد أنْ تفادته أمي، وقبل أنْ يبدأ الجميع بالصخب.

    ماذا كان يمكن لها أنْ تقول له؟ أي تحريض كان يمكن لها أنْ تقدّم له – تلك المرأة العذبة؟ حينئذٍ كان إرنست أو موسي، أحد المُقتحمين، يُصارعه خلال الباب الخلفي ومن ثم على العشب حيث يتبادلان الرفس. كنا نضحك على هذا أيضاً. وأخي الفقيد، ليام، ضحك: رامي السكاكين، الذي كان يُرفَس، ضحك أيضاً، وقبض على كاحل أخيه الأكبر لكي يوقِعه على العشب. وأنا أيضاً – أنا أيضاً كنتُ أضحك، حسب ما أتذكَّر. أمي تقهقه قليلاً، على ذلك المشهد، ومن ثم تستأنف عملها من جديد. وكانت أختي ميدج تلتقط السكين وتهزّها خارج النافذة في وجوه الفتية المتقاتلين، قبل أنْ تُسقِطها في المغسلة المملوءة بالغسيل. لقد كانت عائلتنا تعرف المرح، أكثر من أي شيء آخر.

    تضعُ أمي الغطاء على إبريق الشاي وتنظر إليّ.

    إنني كتلة مرتجفة من الردف إلى الركبة. حرارتي مرتفعة جداً، وأشعر بارتخاء في أحشائي يجعلني أرغب في ضرب قبضة يدي بين فخذَيّ. إنه شعور مُشوِّش – يتراوح بين الإسهال والجنس – هذا الحزن يكاد يكون تناسلياً.

    لابد أنَّ آخر مرة بكيتُ فيها هنا كانت من أجل حبيب. الدموع المعتادة، العائلية لم تكن تعني أي شيء في هذا المطبخ ؛ كانت مجرد جزء من الضجة السائدة. الشيء الوحيد الهامّ كان، ” لقد اتّصل ” أو ” لم يتّصل “. إنها كارثة. إنه من نوع الأشياء التي تدفعك إلى الخربشة على الجدران بعد شرب خمس قنانٍ من عصير التفاح. ” “لقد هجرني”. وتنحنين على نفسك، وتقبضين على جذعك ؛ تصرخين وتتقيّئين. “إنه حتى لم يمرّ كي يستعيد وشاحه”. الفتى ذو العينين الفيروزيّتين.

   ذلك أننا أيضاً – بالتخمين – عشاقاً عظاماً، أعني آل هيغارتي. كل ما بيننا نظرات حالمة ومُضاجعة مفاجئة وحياة إلى الأبد. بعيداً عن أولئك العاجزين عن الحب. أي مُعظمنا، بصورة ما.

   معظمنا.

   أقول “الأمر يتعلَّق بليام”

   تقول “ليام؟ ليام؟”

   لدى أمي اثنا عشر طفلاً بالإضافة إلى – كما كانت قد أخبرتني ذات يوم صعب – إجهاض سبع مرات. الحُفر التي في رأسها لا ذنب لها فيها. ومع ذلك، لم أسامحها أبداً على أي منها. لا حيلة لي في ذلك.

   لم أغفر لها ما حدث لأختي مارغريت التي ندعوها ميدج، إلى أنْ توفيت، وهي في الثانية والأربعين، متأثّرة بمرض سرطان البنكرياس. إنني لا أغفر لها إنجابها أختي الجميلة، المندفعة، بيا. لا أغفر لها إنجابها أخي الأول إرنست، الذي كان كاهناً في بيرو، إلى أنْ أصبح كاهناً مرتداَ في بيرو. لا أغفر لها إنجابها أخي ستيفي، الذي هو ملاك صغير في السماء. لا أغفر لها من أجل السلسلة المملة كلها المؤلفة من ميدج، وبيا، وإرنست، وستيفي، وإيتا، وموسيس، وليام، وفيرونيكا، وكيتي، وأليس والتوأم، إيفور وجِم.

   يا للأسماء الملحمية التي أعطتنا – لا تشبه في شيء أسماء جيمي، وجو أو ميك، التي تستعملونها. كان يمكن خلع أرقام على الأطفال الذين أجهضتهم، مثل 1962 أو 1964، على الرغم من أنها أعطتهم أسماء أيضاً، في سرّها (سيرينا، وإيفريك، وموغ). إنني لا أسامحها أيضاً على أولئك الأطفال الذين ماتوا ؛ ولأنها لم تحتفظ بدفتر ملاحظات، لكي تتعرّف على النوائب التي نزلت بها في حياتها. هل أنا المرأة الوحيدة في أيرلندا المُعرَّضة لخطر الإصابة بشلل الأطفال ؟ لا أحد يعلم. إنني لا أغفر لها الأشياء الرخيصة، وقليل من الدمى، وميدج وهي تضربنا لأنَّ أمي رقيقة جداً، ومنشغلة، أو غائبة أو حبلى بحيث لم تكن تأبه.

   أمي الحبيبة. فتاتي الأبدية.

   كلا، عندما يتعلَّق الأمر بهذا، لا أغفر لها الجنس. حماقة الكثير من المضاجعة. الصريحة والعمياء. العواقب، يا أمي. العواقب.

   أقول، بقوة شديدة “ليام”. ويهدأ الشغب في المطبخ أثناء أدائي واجبي، وهو أنْ أُخبر كائناً بشرياً واحداً عن كائن بشري آخر، عن التفاصيل الدقيقة حول كيف لقيا نهايتهما.

   “أخشى أنه قد مات، يا أمي”

   “تقول “أوه”، وهو بالضبط ما توقعت سماعه منها. وهو بالضبط الصوت الذي توقعت خروجه من فمها.

   تقول “أين؟”

   “في إنكلترا، يا أمي. حيث كان. لقد عثروا عليه في برايتن”

   تقول “ماذا تعنين؟ ماذا تعنين بـ “برايتن”؟”

   “برايتن التي في إنكلترا، يا أمي. إنها بلدة في جنوب إنكلترا. قريبة من لندن”

   ومن ثم تضربني.

   لا أعتقد أنه سبقَ لها أنْ ضربتني. أحاول أنْ أتذكَّر لاحقاً، ولكن أعتقد حقاً أنها تخلّتْ عن الضرب للآخرين: لميدج طبعاً، التي كانت دائماً تمسح شيئاً ما، وهكذا ترمي الممسحة نحوك، أثناء مرورها، لترتطم بوجهك، أو عنقك، أو خلفية ساقيك، ولطالما رأيت أنَّ رائحتها أسوأ من اللدغ. موسي، المجنون. إرنست، المستغرق في التفكير.

*****

خاص بأوكسجين