من رواية “أنتكيند”
العدد 260 | 04 تشرين الأول 2020
تشارلي كوفمان


 

لوصوله وقع هائل… يأتي من لا مكان، من لا زمان، من لا سياق… يُرمى عليك من المستقبل، وربما من الماضي، لكنه يستقر هنا، في هذا المكان، في هذه اللحظة، التي قد تكون أي لحظة، وهذا يعني، كما يمكن أن تخمن الآن…

لحظة لا يلحظها الزمن.

يبدو أنه فيلم.

 

 

هربرت ودنهام على دراجتين هوائيتين (1896)

أنا وهربرت نقود دراجتين هوائيتين في طريقنا إلى جزيرة أناستازيا. لديهم ذلك الجسر الجديد الآن. اليوم هو الثلاثين من نوفمبر من العام 1896، ويوشك الظلام أن يطبق علينا، لكنه لم يحكم سيطرته بعد. لا أعلم تماماً ما هو حال الطقس لأنهم لا يحتفظون بسجلات تعود لذلك التاريخ. لكننا في فلوريدا، والجو دافئ على الأرجح، أينما كنت فيها. على أي حال، ها نحن نهلل ونصيح ونصرخ ونفعل كل ما يفعله الفتيان، بحكم كوننا في ريعان الصبا، ولدينا من الصحة ما يكفينا لننفق ونبذّر مما لدينا من فتوة مفرطة. أنا على وشك أن أسرد على هربرت قصة طويلة عن الأشباح كوني أعرف أنه سريع الخوف ومن الممتع دائماً محاولة إخافته. أنا وهربرت التقينا معاً عند الراهبات اللواتي تولين رعايتنا عندما كنا لا نزال في اللفّة، فقد كنا رضيعين يتيمين ثمة من عثر عليهما في مقبرة تولوماتو، وتلك ليست كذبة أو قصة من الخيال، وهو أمر مفزع بحد ذاته إذا ما تأملت فيه قليلاً. هكذا انتهى بنا الأمر تحت رعاية الراهبات، وهكذا التقينا، وها نحن الآن متبنيان من الأرملة بيركينز، العجوز الوحيدة التي أرادت أن تحيط نفسها بفتيان صغار لتشعر بأنها شابة من جديد، وتخفف من وطأة الوحدة عليها، هذا ما تقوله هي. لكن ما لنا وما لهذا الآن، فنحن نقود دراجتينا في اتجاه شاطئ كريسينت الذي يقصده الجميع لصيد سمك النعاب. لم يحل الظلام بعد. نمسك بصنارتي الصيد ونترك دراجتينا ونشق طريقنا عبر مياه البحر.

 

“ما هذا الذي هناك؟” يقول هربرت.

لا أعرف مطلقاً ما هو، لكن بما أنني أخطط لإخافته على أي حال، أقول “ربما شبح يا هربرت.”

الآن، عند سماعه هذا، يريد هربرت أن يطلق ساقيه للرياح عائداً إلى المدينة، لذا أقول له إنني أمازحه وحسب، وإن الأشباح لا وجود لها في الحقيقة، ويبدو أن هذا يهدئ من روعه قليلاً ويقنعه بأن الأمر يستحق الاقتراب قليلاً من ذلك الشيء للتحقق من ماهيته.

يوافق هربرت ببعض الريبة والخوف، ونشق طريقنا في اتجاه تلك الكتلة، فهذا ما كان يبدو عليه ذلك الشيء… كتلة.

للأمانة، يا سادتي الكرام، كانت كتلة ضخمة! أنا لست خبيراً في الأحجام والمقاييس، لكن أغلب الظن أنها تبلغ عشرين قدماً طولاً، وعشر أقدام عرضاً. لها أربع أذرع. لونها أبيض وملمسها مطاطي قاسٍ شبيه بملمس نعل حذاء كولشستر الرياضي الذي قدمته لي الأرملة بركينز كهدية في عيد ميلادي الأخير عندما بلغت العاشرة. هربرت يرفض أن يلمس ذلك الشيء، لكنني عاجز عن رفع يدَي عنه.

“ما هذا برأيك؟” يسأل هربرت.

“لا أعرف يا هربرت.” أجيبه. “ما هذا الذي رمانا به البحر الجبّار؟ من الذي يمكنه أن يدرك ماذا يكمن في تلك الظلمة الحالكة لأعماق البحر القدير؟ تشعر بأنه، كيف يقولونها… محاكاة لما يضمره العقل البشري بكل مجاهله ودهاليزه العصية على الفهم.”

يهز هربرت رأسه. يبدو عليه الملل. فقد سبق له أن سمع كل هذا. بالرغم من أننا مقربين لبعضنا وكأننا أخوة بالفعل، إلا أن الاختلاف بيننا كبير. هربرت غير مهتم بقضايا الروح والعقل.

 

قد يقول قائل إنه براغماتي لتوخي الدقة والحقيقة. لكنه يتقبل ميلي إلى التأمل وأنا أحب فيه مجاراته لي. لذا أواصل حديثي: “الكتاب المقدس الذي كانت الراهبات تدرّسنا إياه في ملجأ اليتامى يفيض بالصورة الرمزية المتعلقة بالسمك، ومما سمعته من هنا وهناك، ثمة ذكر للسمك في معظم التقاليد الميثولوجية، سواء تلك القادمة من الشرق أم غيرها. في الحقيقة، مما قيل لي، ثمة شاب سويسري يُدعى كارل يونغ يعتقد أن السمك يرمز للاوعي – هل تُلفظ unconscience، أم unconscious؟ لا يمكنني أن أتذكر أبداً.”

يرفع هربرت كتفيه.

“على أي حال،” أواصل، “يجعلني هذا أفكر في قصة ذلك الفتى الذي اسمه يونس من كتاب اليهود المقدس. يترك يونس سمكة عملاقة تبتلعه ليتملص من فعل ما أمره الله به. وبعد مدة من الزمن، يأمر الله تلك السمكة بأن تتقيأه وتطرحه على الشاطئ. والآن لدينا هذه السمكة التي ثمة ما تقيأها على شاطئنا. أنحن أمام القصة المعاكسة لقصة يونس؟ هل جعل الله كائنا بشرياً عملاقاً يبتلع هذه السمكة ليرميها هنا؟ أعرف أنه لا ينبغي قراءة الكتاب المقدس حرفياً أو أخذ المعنى الظاهري من كلماته، بل تجب قراءته، كيف يقولونها… نعم، بصورة مجازية وما إلى ذلك. لكننا هنا أمام كائن ضخم يشبه السمك. له أربع أذرع. كائن أشبه بسمكة كلب. أو نصف أخطبوط. إنه شيء غامض!” أنظر إلى هربرت، أراه يلكز ذلك المخلوق بعصا. “هيا بنا،” أقول “دعنا نربطه بدراجتينا ونثبته بحبال نجدلها من أعشاب البحر ونجره وراءنا إلى البلدة.”

الآن، تروق الفكرة لهربرت وتعجبه هذه المهمة. تلمع عيناه وننكب على العمل معاً. وما إن نتأكد من أننا قد أحكمنا ربط ذلك المخلوق، نمتطي دراجتينا ونحاول أن نشق طريقنا عائدين. لكن تتقطع حبال أعشاب البحر بسرعة، ما يتسبب بسقوطنا أنا وهربرت عن دراجتينا في حفرة، وهذا ما  ينبئني بأن ذلك المخلوق أثقل مما تصورنا في البداية. أنا لست خبيراً في المقاييس والأورزان كما أسلفت لكم.

 

يقترح هربرت أن نذهب إلى المدينة لنأتي بدوك ويب، وهو الرجل الأعلم والأكثر ثقافةً في سانت أوغستين، والخبير في ممارسات الطبيعة وخفاياها. هو أيضاً طبيب في مدرسة الصم وفاقدي البصر، حيث قمنا نحن وهو ذات مرة بقياس درجة حرارة صبيين بلا عيون.

 

“كيف الحال ياشباب؟” يسأل، يسألنا نحن، وليس الصبيان فاقدي البصر، والذي أظن أنه سؤال يعرف جوابه.

“اعتقدنا أنك قد ترغب في معرفة أننا اكتشفنا وحشاً بحرياً للتو في شاطئ كريسينت.” أقول نافشاً ريشي.

“هل هذا صحيح يا هربرت؟” دوك ويب يسأل هربرت.

يهز هربرت رأسه ويضيف قائلاً، “نعتقد أنه من كتاب اليهود المقدس وما إلى ذلك.”

هذا ليس دقيقاً تماماً، لكنني متفاجئ من أن هربرت قد سمع كل هذا القدر مما رويته له.

“عظيم، لكن لا يمكنني ان أتحقق من الأمر إلا غداً. هناك عنبر كامل من الأطفال فاقدي البصر يحتاجون إلى قياس مؤشراتهم الحيوية وتدوينها. ناهيك عن الأطفال الصم في كامل الحرم.”

وما إن يمضى دوك ويب مستعجلاً لتأدية واجباته في العمل، تخطر لي فكرة غريبة، غريبة لدرجة أوشكت أن تطرحني من هولها أرضاً.

“هربرت،” أقول “ماذا لو كانت كومة الأشياء تلك هي نحن؟”

“كيف يعني؟” يسأل هربرت.

“فلنقل إنه كان هناك الكثير من أمثالنا…”

“أنا وأنت؟”

“نعم. أنا وأنت. لكن الفرق الوحيد هو أنهم صغار من صلبنا قادمين من المستقبل، تكدسوا كلهم معاً أثناء رجوعهم في الزمن إلى الوراء، ليصلوا إلى الآن، تكدسوا كلهم معاً في كل واحد، في سمكة دنسة لها مظهر وحش غريب. لذا قد لا يكون هذا الشيء من وحوش البحر التي لُفظت إلى الشاطئ، بل نحن، نحن ولا شيء آخر؟”

“أنت وأنا؟”

“هي مجرد فكرة. لكنها كفيلة بأن تدفع المرء للتساؤل.”

 

*****

خاص بأوكسجين