من أين يأتي كلُّ هذا الغبار؟!
العدد 195 | 25 تموز 2016
فتحية الصقري


حين يسألك أحد ما  في محادثة سريعة: (كيفك) يحدث،فجأة، أن تغيب مدة لا تستطيع تحديدها، ولا تستطيع البقاء في وضعيَّة (متصل) أو (يكتب الآن) تغيب، وتتوقف عن الكلام،  دون أن يعلم محدِّثُك أنه قد تسبَّب في توقُّف حركة السيارات، وازدحام الشوارع في رأسك، وقد يواصل حديثه وأسئلته، فيما أنت تهوي بكلِّك الممتلئ بضجيج البشر والمعدات، ومكائن الخردة إلى قاع سحيق، وتواصِل نغمات الرسائل في التدفُّق، فيما أنت تهوي بصرختك التي تبدو  مثل حيوان أليف، متناهي الصغر،  يقطع صحراء شاسعة، و يركض بكامل قوَّته، ثم في آخر التعب يسقط ميتًا (ربما سيمرُّ أحدٌ ما، بعد زمن طويل، ليجد في هيكل مغطَّى بالرمال موضوعًا مثيرًا للدراسة والاكتشاف ) تتصوّر، وتتمتم، ثم تعود لترتيب الأشياء المعلقة والعالقة؛ كي لا تسقط على دماغك، وتقتلك.  تعود لمحاولة تثبيت نفسك بمجموعة من المسامير الموجودة حولك، تريد أن تُوقِف الغليان والهلع الذي يحمل جسدك، هبوطًا وصعودًا،  آلاف المرَّات، ولسنوات مضت، أقلعتَ عن عادة الذهاب إلى السينما، مكتفيًا بمشاهدة ما يحدث حولك ( مراحل تطور حياة الحشرات الزاحفة، صور معارك حيَّة بين الأحذية باختلافها وتنوُّعها، كوميديا الفائزين والخاسرين في سباق البراميل الفارغة، عروض الهياكل السكراب في إدارة شؤون الغابة، تشاهد وتصمت، ويحدث أن تصاب بوعكات صحية مفاجئة، تعلن عنها لنفسك، عندما تعود إلى البيت، وبين يديك صمتك المتوحش، يرتعش ويتقيأ

صيف  2016

الساعة الثانية ظهرًا

 
-تدخل مكتب ما، وقُلْ، مثلاً، مكتب (التنسيق) تجد نفسك في (كراج) مزدحم بالسيارات المعطلة والهياكل المهترئة والغبار في كل مكان، تتصوَّر أحيانًا، وأنت تنفض ما علق في وجهك وثيابك، من أين يأتي كلُّ هذا الغبار؟! تتتبَّع الأثر؛ لتكتشف أن هناك مخزنًا صغيرًا لغرفة تضمُّ صحراء صغيرة تمارس ألعاب الخِفَّة، وتلقي بمنحوتاتها الرملية من النوافذ، ثم تتساءل: لماذا لم تفكر الشجرة الكبيرة،  حتى الآن، بنقلها إلى موقعها الحقيقي، وتضع مكانها حديقة صغيرة، مثلا -مع وجود حدائق جميلة بالجوار- ترشُّ الحاضرين بالماء الذي يتدفق من نوافيرها، وبالضوء الذي يشرق من وجنات أزهارها، وعندما يهمُّون بالمغادرة تفتح لهم طريقًا جديدًا، يذهبون إليه بملامح مستريحة، وأيادٍ مفتوحة، وعندما يغلقون سمّاعة الهاتف، بعد انتهاء المكالمة،  تتحوَّل قلوبهم إلى شلال مبتهج، يتدفق بحنان مهذَّب من أعلى الجبال .تسترسل في سرد مقترحاتك لنفسك، والدبابير تقرص أصابعك، تسترسل، و تتدحرج مع الشظايا التي تناثرت؛ جرَّاء تكسُّر  صخرة، بفعل الطَّرْق المتواصل:(كيف تختار الصحراء كيف تختار الحديقة). 

لا تستطيع المغادرة، تنظر بإسراف، متنقِّلا في المكان، إلى أن توقفك يدُ ذلك الميكانيكي الذي يمسك معدَّاته بالمقلوب، مشيرة للجثة التي تجلس بجوارك، أنْ تلتزم الصمت، بعد أن صرخت في وجهه: أنت ميكانيكيي فاشل جدًا، لا تعرف معنى المشي في شارع مزدحم،  ودرجة الحرارة بين 45-48 لن تكون ماء أو ليلاً حقيقيًا، النباتات تموت، والأسرار تطير، ماذا تفعل هنا؟

 

صيف 2016

الساعة الواحدة والنصف ظهرًا

– ينبغي أن تكون على استعداد تام للعمل الشاق  

حين تقرر أن تفتح باب غرفتك، وتخرج إلى الشارع، إلى مدينة، تجلس رغمًا عنها عارية، تحت شمس تنفث نيرانها بنشاط زائد، عبر فم لا تريد إغلاقه. 

تجري عمليات تنفُّس صناعي، تعقِّم جروحاً، تعمل جامع قمامة، تشغل مكنستك الكهربائية من الصباح، حتى وقت متأخر من الليل؛ لتكنس كلَّ التُّرّهات التي يتفوه بها الفارغون من جامعي الشهادات والألقاب.

حسنًا أخبرني، ماذا فعلت؟ هل يمكنك أن تقول لي ماذا فعلت؟ ماذا حقَّقت على الواقع؟ ماذا استطعت أن تغيِّر؟ كل ما تركض وراءه لاهثًا، لا تستخدمه لشيء مهم، تستخدمه للزينة فقط أليس كذلك؟

بصراحة، أنت لست سوى كومة من اللا شيء، كومة جامدة لا تتحرَّك، فقط تشير بيديها، بشكل مستفز، وتفتح فمها كثيرًا؛ لتتفوَّه بالترهات، كومة من الخشب الفاسد الذي لا يصلح لبناء أيِّ شيء، ولا يصلح حتى أن يكون موقدًا للتدفئة، كومة من اللاشيء، تحجز مقعدًا مهمًا، بلا أدنى نتيجة، أو فائدة، هل تعتقد أن الشهادة الحقيقية هي تلك التي تحصل عليها في الجامعة-بالألقاب الطويلة التي تليها-وتوزعها في كل مكان، مثل إعلان تجاري، دون أن تحقِّق أيَّ شيء يمتُّ لها بصلة، في صوتك، وعملك، وتعاملاتك اليومية؟
أعتقد، مكانتُك يمكن أن يمنحها لك الناس  بأفعالك الحقيقية على الواقع، بحركتك المستمرة لإنقاذ شيء ما، لتغيير شيء ما، لابتكار شيء جديد .

بالنسبة لي، هذا ثقل لا أقوى على حمله، أتصوُّر الأمر هكذا، أدخل السجن، وأمتثل لنظامه القاسي سنوات طويلة، ثم أخرج؛ لأحمل كيسًا ضخمًا على كتفي، أحمله معي، أينما ذهبت، لا أفعل شيئًا آخر في الحياة، يسلِّم عليَّ الناس؛ لأنني أحمل كيسًا ضخمًا على كتفي، لا لا، لا أستطيع. 

أنا بالكاد أحمل نفسي، ولا أريد احترامًا، من أحد، يأتي بسببه، كواجهة ملمَّعة، احترامًا لم يصدر عن ردَّة فعل حقيقية نابعة بصدق، لا أحتمل نظامًا يشكِّلُني كيفما يريد،  يضعني تحت تصرُّفه؛  لأخرج من أجل صورة، أو صوت متضخِّم بالأنا، وممتلئ بالبارانويا، لا أحبُّ أبدًا ذلك النوع الذي يمشي أمامي كالعالم، أو الفيلسوف، وهو في حقيقة الأمر ليس كذلك. أحب التعب والإرهاق الذي يصيبني، وأنا أقطع الطريق مشيًا على الأقدام،  أجرُّ كرسيًّا لرجل مُقْعد، أحبُّ ذلك الإحساس المخلوط بالفرح  والتعب الذي ينتابني، بعد إنجاز مهمة أسعدت 10 أطفال، أحبُّ الأشياء الصغيرة التي أخترعها، وتأخذ منِّي وقتًا طويلا، من أجل العثور على ابتسامات سريعة، تظهر فجأة في وجوه من يراها، أحبُّ أن أمشي في الطرق الوعرة وحدي، أسقط وأنهض وحدي، أعمل ليلا ونهارًا، من أجل شيء لا أفهمه، فيما ينام مَن عليه القيام بالمهمات الكبرى. أنا ذلك البسيط المهم المتجاهل الذي لا يقف في أيِّ طابور، ولا يطلب شيئًا لنفسه من أحد.

*****

خاص بأوكسجين


شاعرة من عُمان. صدر لها: "جمهور الضحك"" 2016، و""أعيادي السرية"" 2014، و""قلب لا يصلح للحرب"" 2014، و""نجمة في الظل"" 2011."