منصور
العدد 203 | 29 تشرين الثاني 2016
رضوان آدم


شبح القنابل المتطورة يهاجمهم كالجرب. يهرشون بطونهم كعازفي كمان في فرقة موسيقية. يفركون أعينهم من عاصفة ترابية صغيرة أثاروها بأقدام خيول مرتجفة. لم تبتلعهم الأرض وإن بدوا أقصر من طولهم الطبيعي.

أي نوع من القنابل يمكن أن يردع؟. أي عدد من المقاتلين تستلزمه الخطة الجديدة؟. هل نسلك الشوارع القديمة أم نتسلق البيوت؟. ماذا عن أفخاخ الشِق الشرقي المُريبة؟. كانت ألسنتهم تصرخ بأسئلة ثقيلة أبطأت من شجاعتهم. تتحلق أرواحهم حول منصور الذي يجلس فوق لوح من التراب. لا تظهر منه سوى الكسوة التي تغطي عموده الفقري وطاقيته الحمراء التي تخفي تحتها كواكب تلمع ونجومًا تتنبأ وأرقامًا تتجول. أما خرائط مواقع القتال فكانت في عُهدة ذاكرة فولاذية.

أوقع منصور قلوب المقاتلين في قعر بطونهم عندما مال منه الخط. كاد يقع على جانبه الأيمن. التوتر بان على عصا الصفصاف الذي كان يخط به منصور على لوحة مربعة من التراب. الساعة تقارب الخامسة عصرًا ووجودهم بعد ساعة من الآن في الناحية الشمالية من البلدة يُعّرضهم للقنص من جانب الذئاب الجبلية التي افترست غيرهم. تنزل في قطيع من أماكنها المُحصنة لالتقاط الغنائم. لا تفارقهم صورة حربي عبد الجليل الذي جرجرته الذئاب إلى كهفها الضيق. لم تتبق منه إلا ساعته الأورينت الزرقاء. ومع أن حربي بطل كبير في تاريخ جيش الشِق الغربي إلا أن شبحه ينعق ويلقي قنابله على الجميع ومن كل ناحية إذا دخل الليل.

لم يكن منصور بطيئًا رغم الخلل الذي يسيطر على حركات يده اليمنى. لم يُخطط تحت ضغط عصبي شديد كتلك الليلة. تحدثت عيون رفاقه. هضم منصور الرسالة لكن رفض تمريرها إلى جهازه العصبي. لم يتوقع أن يكون حماسهم في حده الأدنى. كل خططه تعتمد على مقاتلين لا يخافون فرضية الاقتحام إذا لزم الأمر. لا يريد أن يضع خططًا دفاعية. يخلو تاريخ الغربيين من هذا النوع. يهاجم منصور رفاقه بعينين حادتين فيخترق قلقهم. ينتصبون في لمح البصر. يفرك ذقنه قبل أن يطمئن قلبه ويتوارى ظنه. يبدأ في تجهيز خطة جديدة دخلت من بين أسنانه عندما ضحك في صمت. الخطة متماسكة لذا يشد منصور ملامح وجهه بجدية الحرب.

تخلى منصور عن البطء الذي تعمده قبل دقائق كجزء من الخطة. ينظر المقاتلون في الأرض من الخجل. يُرّقص هو عينيه فيميلون يمينًا ويسارًا. يبتسم فيقهقون للمرة الأخيرة في اليوم الطويل. دقت الطبول: يجمعون التراب من تحت الأشجار ومن فوق الجسور الترابية وحواف الترعة. كانت حجور جلابيبهم المنتفخة مؤشرًا على فظاعة ما سوف يجري على أرض أبو منّاع القبلية.

بينما يرسم منصور الخطة “ب” جهز المقاتلون سبعًا وخمسين قنبلة يدوية كبيرة، ومثل هذا العدد من القنابل الصغيرة التي احتوى بعضها على حصى مُسنّن وحجارة تخترق الأدمغة وتجرح الجبهات والآذان وتفقأ العيون إذا صوبت من مسافة قريبة. علاماتها باقية على أجساد عواجيز الحرب في الجبهتين اللدودتين.

 قبل غروب الشمس بثلث ساعة ساد اضطراب كبير ظنه الغربيون في البداية هجومًا من جبهة الجبل. اختبأت الفرق المقاتلة خلف أشجار نخل على الطريق. عندما هدأت العاصفة الترابية تقدم محمود، أصغر المقاتلين الغربيين، واعتذر لأنه لم يتمكن من ربط إحدى القنابل الصغيرة جيدًا. لمزيد من الحذر، طلب ريّان، قائدهم الميداني، إعادة إحكام كل القنابل، وبدأ بقنابله دقيقة الإحكام.

لأن الخطأ غير وارد، حرّك منصور دماغه موافقًا على استبعاد محمود من كل الخطط القتالية طبقًا لاقترح ريّان. سيناريو الانسحاب الذي يرسمه منصور الآن يفاجئ الجميع. بدوا فيه كرؤوس قمل تهرب من أجساد عملاقة. لم يضع في كل خططه السابقة مثل هذا النوع من الخُزعبلات. ينظرون إليه بحنق شديد. شعروا أن منصور يحط من تاريخهم ويشكك في صلابة قلوبهم.

 “ده اللي أنا قاصده بالظبط.. أخليكم توّلعوا عشان تاكلوهم قبل ما ياكلوكم”. أُثيروا إلى أقصى حد. يطلقون سهام اللوم على أنفسهم واحدًا تلو الآخر. حفظوا أدوارهم جيدًا في الخطة الأساسية والبديلة. قبل أن تطوي رأسه الخطط الدقيقة يشطب منصور بقدميه كل رسم عسكري مخافة أن يمر مقاتلو الجبهة الشرقية من هذا الطريق في أي وقت.

قبل التحرك بثلاث دقائق تدرب كل خمسة على خطة اقتحام. يلجأون إليها إذا غطى الغبار سماء البلدة كلها ، وهي خطة جربوها من قبل. بينما كانوا يتوقعون تنفيذ مناورة سريعة كشف لهم ريّان أن القتال لا يستلزمها في الغالب كما أن الوقت لا يسمح. تنفس المقاتلون الصعداء. مشوا في مجموعات شديدة الانضباط. كل واحدة سلكت طرقًا متعرجة للوصول إلى نقطة رئيسية متفق عليها. رغبتهم في الحسم السريع سهّلت مهمة عبور الحقول التي بدأ تغزوها عتمة مربوطة في خيوط أولها عند قمة الجبل. قبيل انتهاء المقاتلين من العبور هرب الدم من وجوههم وانحبست أنفاسهم. استعد كل فرد لخطة الطوارئ. المجموعة الثالثة ترسل إشارة استغاثة من نقطة غير معروفة في الحقول. بدا أن المعركة ستبدأ مبكرًا. صوت بكاء يرتفع فيرتفع معه القلق والحذر. يُمسك منصور قلبه ويسند قنبلتين على صدره. يتلفت ريّان حوله ويطلب من أفراد مجموعته الاختباء في مكان قريب وإنتظار تعليماته.الإشارة التي أصدرها وأبلغها مقاتل ناضورجي إلى كل المجموعات حذرت من تعرض أحد للأسر على يد الجبهة الشرقية قبل بدء المعركة فينهار كل شيء.

انحشر منصور بين دائرتين عملاقتين من أعواد قصب السكر. بينما يحّرره ريان أصيب منصور بخدوش دامية في يديه وخده الأيمن. مصّ الدم النازف ثم توقفا نصف دقيقة. استرد منصور وعيه وأعاد غلق قنابل وقعت منه فوق النجيلة المبلولة. زادت أوزان بعض القنابل فحملها اثنان يتأخران دائمًا للتأمين. بينما تواصل المجموعة الرئيسية السير ناحية الهدف المُربك تقيأ مقاتل مرافق. أصدر صوتًا عاليًا فلكمه ريان بعنف وحرمه من المشاركة في أية معارك مقبلة. تجهزوا للانقضاض على الحقل الرابع الذي خرج منه البكاء. عندما وصلوا إلى الهدف كانت باقي المجموعات تضحك بطريقة أغضبت المجموعة الرئيسية قبل أن تشارك هي الأخرى في الوصلة.

“البومة تاني !”. قال ريّان فالتصق محمود بعيدان الذرة التي شدّته إلى الأرض.

“قم وخد قنابل يا منتول”. لم يتحرك محمود من مكانه خشية أن يضربه ريّان الذي يتوارى خلف سَرَابات من العيدان الشاهقة.

 “خُد قنابلي أنا. إحنا مش فاضيين لدلعك النّي”.التمعت عينا محمود بشرارة غريبة أطفأها تحذير منصور له بعدم التباطوء في التأمين.”اقفل البوابة الكبيرة زين. لا يهزمونا يا خّيي”.

قبل أن يصل الغربيون عبر سراديب وأنفاق قديمة إلى أول البلدة كانت القنابل الترابية تغطي سماء الشِق الغربي. أُغلقت كل الأبواب والنوافذ وحاصرت البهائم والناس في البيوت.

بعد انطفاء أعمدة الكهرباء في الشوارع تعكز المُنادي كمال الأشلم على ذاكرته. اشتم أن قتالاً يدور بين الشرق والغرب. طلب من المتحاربين التوقف حتى لا يموت الأطفال المرضى والبهائم من الغبار. “الحرب حرام يا أولاد الحلال. حرام يا شرقي. حرام يا غربي. الرسول والسيدة زينب يغضبوا علينا أكتر”.

يضيع صوت الأشلم مع توالى ضربات الجبهة الشرقية. كأنهم سيتعاركون مع كائنات فضائية، ارتعب عدد من مقاتلي الجبهة الغربية لكنهم استعادوا شجاعة القتال بسرعة. كأنهم كانوا بانتظار صدمة كبيرة، بدأت كل مجموعة تنفذ الدور الذي رسمه منصور في الخطة الأولى. أغلق ريان ومحمود البوابة المحاذية لبيت الشيخ عبد الوهاب الذي كان يكُح بصوت عال كأنه يرسل إشارة. عرفت البلدة أنواعًا من إشارات الكحّة بعضها لتحذير الجيران من الغرباء و”حرامية” الجبل الذين كانوا يهجمون ويسرقون البهائم من البيوت غير المُسلحة أو تلك التي مات رجلها.

إشارة الشيخ عبد الوهاب، رئيس عائلات الشِق الأوسط، لم تتوقف حتى بعد إغلاق بوابة الشِق الغربي. هذا يعني أن المقاتلين الشرقيين ربما يتسلقون البيت الذي يجاوره أو ربما كانوا فوق أسوار بيته. يقلق ريَان ويضع أذنه اليمنى على خُرم قديم في البوابة الكبيرة. لا يسمع شيئا كأن الشيخ عبد الوهاب رآه. يعتقد منصور أن هناك فخًا كبيرًا ينفذه الشِق الأوسط لصالح مقاتلي الشِق الشرقي. لا يتجاهل منصور أن يقوم عبد الوهاب بدور البصّاص على الجبهة الغربية استنادًا إلى الموقع الاستراتيجي لبيته واستحالة الشك فيه بعد رعايته لأكثر من هدنة ناجحة بين الجيهتين. 

لا ينتظر منصور إجابة على افتراضاته. قبل أن يُرسل ريان إشارته مشى منصور في خط رفيع عبّده ضوء قمري صغير. اشتم قلقًا أكبر من النسبة المألوفة. قبل أن يضع خطة طويلة المدى، تحولت الفرقة الثالثة لحراسة البوابة الجنوبية بينما انتشر ثلاثة مقاتلين مُحّملين بقنابل كبيرة فوق أسطح عدد من البيوت لكشف الطريق الطويل الذي يخرق قلب البلدة كثعبان. بينما يُنصت المقاتلون لحديث ريان ومنصور عند البوابة الكبيرة ضربت القنابل مواقع الفرقة الثالثة وأصابت أحدهم في رأسه. وابل القنابل الترابية الذي لم يتوقف لثلاث دقائق عزل حُرّاس البوابة عن باقي الخطوط. أفلت ريّان ومنصور من القنابل وزحفا لتأمين مركز العمليات. لم تستسلم الفرقة الثالثة وتولت رمي القنابل على بيوت الشق الأوسط بشكل عشوائي. صاح أفرادها كمجانين.

على الجبهة الشرقية، يركز المقاتلون على تسديد ضربات أكثر دقة ووحشية فوق رؤوس المذعورين في الجبهة الغربية. الهجوم الشرقي تحرك عبر ثلاثة خطوط: الشق الأوسط وناحية الشرق وثغرة صغيرة في الناحية الغربية. لم ينطلق أي هجوم باتجاه الأسطح التي وزع منصور فرقة مقاتلة عليها. كانت الخطة تُلزم هذه الفرقة بالكشف المبكر عن أي هجوم قبل وقوعه والتصدي بالقنابل الكبيرة لأي اقتحام حتى تتمكن القوات الغربية على الأرض من تنفيذ خطة إعادة انتشار سريع أو تنفيذ هجوم مضاد كثيف.

الحرب طاحنة عند البوابة الرئيسية التي كانت تهتز. دوي القنابل حرّك أعمدة السرائر في البيوت وهزّ الأبواب. تخشّب مقاتل غربي عند البوابة. نزف رأسه ثم تورم رأسه بحجم كرة مضرب. ضربته قنبلة ثانية في ظهره. وقعت بقاياها على صدر مقاتل آخر، وقع في قبضة العجوز بدرية محجوب التي خرجت من هول القنابل التي ضربت بيتها الطيني. أمسكت برأس بكر رمضان. تعاركا وصرخت هي. أدخلها بكر بعنف وأغلق عليها الباب الخشبي ثم زحف على بطنه، فاتحًا ثغرة في غابة التراب التي قسمت الشارع نصفين. يتنفس بكر رائحة دمه ويقبض على كيس بلاستيكي يحوي بقايا قنبلة شرقية. شظايا قنبلة طائشة أعمت عينيه. وضع يديه فوق رأسه وأغلق عينيه ثم واصل الزحف بسرعة نحو مركز العمليات في جنوب الشارع.

في الطريق اصطدم بكر بقدم كانت متجهة شمالاً لتعزيز موقف فرقة البوابة الرئيسية. “يا مراري. عفريت!”. صرخ المقاتل الغربي فرد عليه المقاتل الهارب: “أنا بكر يا يتيم. بكر أبو رمضان. ماتخافش”. مؤشرات الخسارة والقنابل التي تنهمر الآن على بيوت الشِق الغربي لم تؤثر على معنويات مقاتليه. يعرفون أن الجبهة الغربية لا تُهزم، وهي حققت ثلاثة انتصارات كاسحة مقابل نصر واحد للشرقيين في مائة عام وزيادة. يجز جنود المنطقة المركزية على جلابيبهم كأنهم سيركضون في سباق عدو. كانوا يتهيأون لتنفيذ خطة استثنائية، انتهى منصور منها للتو. لم تعُد الجلابيب إلى مكانها الطبيعي لأن بكر كان يزحف كتمساح نحوهم.

 

جيش كبير وكنابل واعرة. يكشف بكر خطورة الموقف.
صُح يا يتيم؟. يرتجف ريان.
أيوه. كنابل واعرة. مليانة نمل ودود وأبراص. ينكمش بعض المقاتلين. يُسكت منصور، ريان، الذي يقترح الاستسلام. في زاوية صغيرة، بعيدًا عن الجنود الأصغر، يُجرده من سطوته الميدانية.
أنت جبان. يُنهي منصور الموقف.
أنت شفت اللي شافه بكر؟. بيقول أبراص ونمل.!
عارف. لكن اثبت. أنا هاتصرف واركن أنت خالص. !
ماشي بس أفهم.
مش شغلك. خليك بعيد. نفذ اللي هاقولك عليه وبس.
حاضر يا منصور.

لم يتوقف بكر عن الهمس في أذن المقاتلين الخائفين على أرواحهم. كانوا أقرب إلى الاستسلام. بدا ريان الخائف أكثر صمتًا من باقي المقاتلين الذين كانوا يتلفتون لبعضهم وينتظرون معجزة يمكن أن تخرج من الدوائر التي يخطها منصور الآن.

توقف المقاتلون الغربيون في الخط الأمامي عن طلب العون. بدوا كأشباح صغيرة. تمكنت خطوط الإجهاد والهلع من وجوههم. حركة التراب المخلوط بروث البهائم وعيدان الذرة القديمة تزيد الموقف سوءًا. مع القنابل البيولوجية تتمكن الأبراص من حفر خنادقها تحت التراب تاركة أسراب النمل تتسلق سيقان المقاتلين. الخوف من العض رفع من مستوى الهيستيريا لدى المقاتلين الذين ترتفع تتسارع دقات قلوبهم. شك بعض المقاتلين في مركز العمليات أن منصور كان على علم بتجهيزات الشرقيين عندما رسم خطة الانسحاب التكتيكي.

بدأت عيونهم تتحدث إلى بعضها البعض قبل أن تسكت نهائيًا. انزوى منصور في أحد أركان الشارع فوق لوحة من التراب منذ ربع ساعة. وضع أصبع السبابة ولم يرسم شيئًا حتى الآن. بدا كأن أصبعه غرس في حفرة. الحقيقة أنه كان على وشك التوصل لخطة دقيقة تفتح أكثر من ثغرة في خطوط الجبهة الشرقية وتطوقها في أقل وقت ممكن.

أوقات عصيبة. بوادر انفلات خططي وقتالي تظهر في الصفوف الغربية. بكر يمسك رقبته ويضرب وجهه لإسقاط الأبراص الوهمية التي تمص دمه. الهيستيريا انتقلت إلى مقاتل كان يجاوره. ركض عشرة أمتار هربًا من الأبراص قبل أن يوقفه منصور. سادت ضجة أكبر بعد سقوط أول قنبلة ترابية بالقرب من المنطقة المركزية. يخلع منصور جلبابه فجأة. يرميه إلى جوار سور متهالك لسبيل مياه قديم تحتله ثعابين وسحالى كبيرة. يضع رأسه على خد حائط بيت عمه عبد الرحيم. يتمتم بكلمات ويرسم بعدها إشارات في الهواء ثم يغلق عينيه قبل أن ينجح في استمالة حربي عبد الجليل. كان لمنصور أصدقاء خياليين من كل الأعمار لكن حربي كان أقربهم على الإطلاق.

قبل يومين زاره حربي في المنام وحكى له جانبًا من المعارك الصعبة التي خاضها الجيش الغربي مع الشق الشرقي. يكشف له الآن عن أخطر الأسرار الحربية فيقبض منصور على كل نَفَس وحرف. طلب حربي منه أن لا يشارك في أي معركة إلا إذا كانت تتعلق بشرف الحرب. من دون أن يكشف له عن مأزق مقاتليه، فتح منصور عينيه فانكشفت أمامه كل خطوط القتال الشرقية.

لا يخبر منصور رجاله بخطته الناجعة حتى لا تنفد القنابل على دكّ المواقع الشرقية تحت تأثير الأنفعال.

يمتص منصور صدمة المسؤولية رويدًا رويدًا. يتوصل الآن إلى حل سوف يقضي على تكتيكات الشرقيين كلها. كانت خطته تعتمد على تطويق بيوت الشِق الشرقي من ناحيتين وحرقها. بعدها يُجري انسحابًا تكتيكيًا لمجموعة الإقتحام عبر مسارات تشبه الخنادق، تمر في اتجاه بيوت الشِق الأوسط. بعد الإنسحاب يبدأ الهجوم الكثيف بفتائل غاز على المقاتلين الشرقيين المختبئين بالقرب من البوابة الرئيسية. عندما يهرعون من الغاز إلى النار، التي تحرق بيوتهم، يجري قنصهم بطريقة سريعة وثابتة.

يصطف المقاتلون الغربيون فيجري توزيعهم على المهام المُحددة. يُكلف منصور الفرقة الأولى بأسر أي متسلل إلى المدخل الجنوبي لشارع الشِق الغربي. كلّفهم بربط الأسرى أيا كان عددهم إلى جذوع النخيل، على أن تقوم الفرقة الثالثة، عند عودتها من مهمات الاستطلاع، بتمشيط طريق العودة للفرقة الثانية من نقاط غير مرئية.

النار. يوجه منصور حديثه إلى صف المقاتلين الذين يقفون أمامه مباشرة.
 النار؟. رد أحدهم نيابة عن بكر الذي لم يُسرحه منصور.
أيوه النار !
يا منصور. أنت مجنون. يتحدث ريان للمرة الأخيرة.
النار تغلبهم وتخوفهم. يروحوا بيوتهم زي البِسس 
طيب. لو!. أسكرتهم الفكرة. لمعت في رؤوسهم. استعاد بكر ذاكرة القتال. اتسعت صدورهم كأن ولدوا لتنفيذ هذه الخطة. 
بعد ما تحرقوا بيوتهم، احرِقوا بيت عبد الوهاب. لما يهربوا منه تكتفوهم بحبال. 
لكن الشيخ عبد الــ…… !
خاين. الضرب بدأ من فوق بيته. من فوق بيته، اسمعوا آخر كلام. انتهى منصور.

خمسة من المقاتلين دهنوا وجوههم بالطين وغطوا رؤوسهم بأكياس أسمنت قديمة. سلكوا الطريق القديم الوعر في البلدة. قابلوا حشائش كبيرة تعيش على المطر. سمعوا فحيح ثعابين كبيرة فمشوا بسرعة وتفادوها. أمسك كبيرهم بفتيل عريض وعلبة كبريت وأمسك الأربعة بفتائل أصغر حجمًا.

يبتهج منصور لكنه لا يفهم سر الخطوات والأصوات المتداخلة بالقرب من البوابة الرئيسية. بدأت الأصوات تتضح الآن. كانت صوتًا واحدًا: كمال الأشلم يتجول ويطرق كل الأبواب التي يصادفها نور القمر. يطرق على البوابة الرئيسية للشِق الغربي لكنها كانت مُغلقة ومؤّمنة بثلاثة مقاتلين.

انتظر منصور دقيقة فاختفى الصوت تدريجيًا ثم انسحب صوت القنابل الشرقية ناحية الجبل. كلف منصور ريّان بجمع معلومات عما يجري في البلدة.

شيخ الخفر عبد الأول بيزعق ناحية بيت عبد الوهاب. قال ريّان.
معاه بندقيته؟. لم ينتظر منصور الإجابة لأن قلبه انخلع على الفور.

قبل أن تتغلغل داخله خيبة الأمل، اصطدم منصور في طريقه إلى البوابة بفرقة الاستطلاع. الصراخ الذي يغطى سماء البلدة أنساه أن يسأل مقاتليها عن سر اختفائهم المُريب. كانت الفرقة تلهث وكأن كارثة تجري تحت أقدامهم. ظن منصور أن مكروهًا وقع لفرقة الفتائل. عندما يزداد القلق يرى شبحًا يتسّحَب باتجاه البواية ويتسلقها. بلع منصور ريقًا ترابيًا وفتح خديه لصفعات أبيه وأعمامه الذين كانوا يبحثون عن مصدر الصراخ المُخيف.

عند عتبة بيت الشيخ عبد الوهاب كان جميع الأطفال المتقاتلين يتراصون في صف واحد كمجرمي حرب. نفضوا عنهم غبار الذنب وحدّقوا في منصور الذي كان يحاول الهرب من نظرات الأشلم.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر. من أعماله مجموعة قصصية بعنوان "جبل الحلب"" 2013"

مساهمات أخرى للكاتب/ة: