ما الذي دفعني إلى موافقتكَ في كل ما حدث؟ في البداية كنا في قلب السيارة تحت المطر الكثيف الذي تشقه إنارة الطريق الخافتة. قلتَ لي أنّ أخي نائمٌ وهو يقود السيارة، لم أكن قد انتبهت وحين نظرت إليه وجدته نائماً فعلاً خلف المقود. أوقفتَ السيارة وأنزَلتهُ منها وأنا أراقبك، وضعتَهُ على الطريق ومددته هناك. لم يستقيظ وبقي غافياً على الصورة التي وضعته بها ليبتل قميصه الأبيض بثوانٍ تحت المطر ملتصقاً بعظام صدره البارزة. بدا لي وأنت تضعه على الرصيف، بتلك الثقة والتلقائية أنّ هذا هو التصرف البديهي في مثل هذه المواقف: أن يتم إخراج النائم خارج السيارة ويُمدد في الطريق ليتمكن الباقون من إكمال سيرهم. حتى أنّني لم أذكر الموضوع أصلاً ونحن صامتين نقطع الطريق الموحشة في السيارة التي استلمتَ أنت قيادتها. فقط خفق قلبي قليلاً إذ لمع ضوء الشارع على ورقة كبيرة خضراء لشجرة بدت غامقة ولامعة بفعل المطر. في هذه الصورة وألوانها يدرك المرء جوهر الليل بشكل أوضح: العتمة والإحباط والمصائر المجهولة لأشخاص مثل أخي الأصغر الممدد وحده الآن نائماً في مكانٍ ما خلفنا.
في الصباح، كان ينبغي أن أذهب لأتفقده وأعرف ما جرى له. كان من الواضح أين يجب أن أتوجه: سأهبط التلة المشمسة المرصوفة بحجر لأصل إلى مكان عمله. أظن أنني ضللت الطريق أو هو مكان عمله نفسه، ولكنّه مختلف الآن. بدا أنّ في قلبه فسحة تحوطها ستائر بيضاء بلاستيكية يجلس فيها الناس متلاصقين. إنّي أراه بينهم هناك، شققت طريقي لأصل إلى المكان. وصلت إليه. كان جالساً بين الآخرين ولكن بلا ملابس سوى سروال داخلي قطني أبيض فقط يبدو عريضاً عليه كأنّه لشخص آخر. تمكنت من الدخول بسهولة لم أتوقعها إلى الحجرة التي علمت فيما بعد أنّها سجن مؤقت أقيم هناك. جلست بقربه وعندما فكرت بالموقف وحقيقته فعلاً ظننت أنّ قلبي سيتوقف حالاً من القهر، لا أعلم بعد إن كان يعرف أننّي السبب في وجوده هنا على هذا النحو، كنت أريد أن أعرف ماذا يتذكر تماماً عما جرى ليلة البارحة. قال لي أنّه استيقظ ليجد نفسه في الشارع واقتادته الشرطة إلى هنا “طبعاً سرقولي محفظتي” قال بتسليم، ولم يأت على ذكر أية أوراق ثبوتية كانت معه في المحفظة. أغمضت عيني ونجحت في تذكر محفظته تماماً كأنّي أراها الآن: كان يحمل فيها ثلاثة أوراق من ورقة العشرة آلاف ليرة لبنانية الصفراء وربما خمسة آلاف أيضاً، أمسكت يده البيضاء النحيلة كأيدي البنات وقلت له أنّني سأعطيه نقوداً أكثر مما سرق منه. لقد كنت صادقة فعلاً فيما قلته إذ كان من الواضح بالنسبة إلي أنني أستطيع أن أسرق وأقتل لأعطيه نقوداً بدل التي أضاعها. كان ذلك جلياً للغاية. خرجتُ لأعرف من أحدٍ ما كيف يمكنني أن أخرجه، سألت رجلاً يجلس في مكتب أمام الحجرة كما لو أنّه يجلس في صدر قهوة يديرها. دلني على غرفة أخرى دخلت إليها وسألت رجل شرطة عما يمكنني فعله من أجل أخي، فقال لي أنّ علينا الانتظار أكثر ربما للغد. خرجتُ من الغرفة لأتحدث مرة أخرى إليه لكنّ ازدحاماً من البشر كان قد احتل المسافة أمام غرفة السجن، مددت رأسي بين المتدافعين ولم أتمكن من رؤيته.
في المنزل الكثير من الناس، لم أكن أريد أن ألاطفهم بعد أن عدت مطرودة من السجن ولم أر أخي. كانوا يمرحون في كل حجرة مع أطباقهم وأكوابهم، نظرت إلى باب الشرفة فوجدت أنّ الغسالة القديمة تسد بابها وقررت أن أزيحها لأخرج وآكل لوحدي هناك. أزحتها وخرجت بفنجان قهوة لأشربه قبل الغداء وأرتاح قليلاً، خرج ورائي اثنان أو ثلاثة منهم. كان ذلك مدعاة للضيق فعلاً، فقد أزحت الغسالة وخرجت كي آكل وأشرب وحدي فقط. لم أستطع أن أتحمل ذلك فأنا يجب أن يكون لي الحق بأن أكون وحدي على الشرفة الآن بعد أن طردوني من السجن ولم أستطع رؤية أخي مرة ثانية، وجدت نفسي أصرخ وأشتم ورميت الفنجان على الأرض لينكسر وتركت الشرفة عائدة للداخل وأنا أوبخ نفسي قليلاً لأني تصرفت هكذا أمام الناس غير المذنبين فيما حدث لي ولأخي.
_______________________________
كاتبة من سورية
الصورة من أعمال الفنان التشكيلي السوري طلال معلّا
*****
خاص بأوكسجين