مكان وزمان وسيّدتان
العدد 220 | 14 تشرين الأول 2017
محمد فطومي


لا تعرف كلتاهما الأخرى.

الصّدفة شاءت أن تقطن السيّدتان مدينتين متجاورتين حيث تبدّد كلّ منهما حياة رائقة راسخة من النّوع الذي لا تنفذ إليه المجريات المُخيّبة. أو واحدة من تلك المسرحيّات الواقعيّة ثقيلة الظلّ التي تقول على الدّوام إنّ شيئا لن يلبث في موقعه بسلام. عموما هي حياة مُندفعة كلّ ما فيها يزداد وحسب.

صدفة أخرى لا صلة لها بالأولى مُعدّة فقط كي تكون صدفة. جمعت السيّدتين ذات ضحى جميل في محلّ لبيع الملابس والعطور.. يُفتَرض أن تكون كلتاهما في مكتبها الآن. لكنّهما هنا خاليتي البال تجيلان البصر  وتداعبان المعروضات بأطراف الأنامل في محلّ لبيع العطور والملابس. إحداهما هناك لأنّها صاحبة مصنع والأخرى هناك لأنّها ليست صاحبة مصنع. في ذلك اليوم حدث لقاء خاطف بين السيّدتين.

 

***

الأولى:

 تعمل في مدرسة حكوميّة للملاحة. تشغل خطّة مكلّفة بثقافة دمج النّشاطات. لها جفنا ناقة. تمشي كأنّها على ظهر حصان رغم نحافة ساقيها وسمنة جزئها العلويّ. تعتقد أنّ الفاتنات هنّ فقط اللاتي لم تنكرن ذلك على أنفسهنّ وأنّ هذا صعب للغاية. خُلقت كي لا تقوم بشيء حتّى لا تتعثّر  فيشمت النّاس. تضحك حسب ما يقتضيه الوضع فمرّة – وهي الأوفر حظّا – على طريقة فتى ذي جثّة ضخمة لا مهمّة له في المدرسة سوى أن يرعب رفاقه. ومرّة على نحو  يجعلك لا تشكّ لحظة أنّها تخوض حكايات شبقيّة لها علاقة برعونة الأزواج وعبادتهنّ للجنس. وأخرى تُشعرك فورا أنّ بنطال أحدهم يسقط فجأة أثناء مسيره أمامها. تسخر من الجميع ومن كلّ شيء يقع عليه بصرها؛ من زملائها من رئيسها من العانس والعاقر من العجوز والطّفل من المعتوه والمعوق من هيآت الرّجال والنّساء، حتّى هندسة المدرسة ومعدّاتها فإنّها تعثر  في شأنها على ما يناسبها من عبارات التهكّم. تحبل كلّ سنتين. تمضي أشهر الحمل تتقيأ أو نائمة على سطح مكتبها متوسّدة ذراعها. المكالمات التي تجريها لا تقلّ عن السّاعة. تترك الأغراض تصدر ضجيجها بصورة طبيعيّة وهي تعالجها. لا تنفكّ تمضغ اللبان ولا تجد غضاضة في فرقعته كأنّها بمفردها. إذا أمسكت بالقلم فلسببين؛ إمّا لتلعب أو لتحرّر مكتوبا ترفعه للوزارة تطلب فيه إقالة رؤسائها لفسادهم المُطبق. والحقّ أنّهم مسالمون ويرون أنّهم غير مضطرين للتعرّض لها بسوء ماداموا لا ينقدونها راتبها من قوت عيالهم. فيما عدا ذلك فإنّها لا تقوم بأيّ عمل خلاف كتابة التّعاليق على الـ«فايس بوك» والاستماع إلى الموسيقى ومشاهدة مقاطع الفيديو. خلال الدّقائق التي تظلّ فيها ساهمة تنظر فقط أمامها فإنّها ستبدو كطفل أكل أخيرا قطعة الحلوى التي ظلّ طيلة اليوم يبكي لأجل الحصول عليها. تتمتم بوقاحة بعد كلّ حوار يدور بينها وبين أيّ كان حتّى لو كان والدها. إذا وقفت خلفك فإنّها حتما بصدد القيام بحركات مُضحكة. تنادي من بعيد لحاجة لها. إذا حضرت يومين فإنّها تتغيّب يومين. في المرّات النادرة التي تلقت فيها ملاحظة أو كُلّفت فيها بمهمّة بسيطة أقامت الدّنيا صراخا بذريعة أنّهم دائما يستهدفونها دون سواها. لم تر العلم يُرفع يوما منذ وطئت قدماها المدرسة. المرّة الوحيدة التي تحتّم عليها ذلك وضعت سماعات الجوال في أذنيها واستغرقت تستمع إلى الأغاني. لا أحد يسبقها في سحب راتبها. لا تهتمّ على الإطلاق لشيء لا نفع من ورائه. تصبغ شعرها بالأصفر وتغرق معصميها وأصابعها بالذّهب. أيّام الجرد تتغيّب تُفسد كلّ يقع بين يديها ولا تنطق إلاّ لتغيض أو تطلب خدمة. ثمّ إنّها ستبدو لك دائما غير معنيّة بالموت والمرض والأزمات والكآبة.

المهمّ في الأخير أنّك إذا كذّبت أحد الذين سرد لك القليل من كلّ هذا فقد ألحقتَ به أذى كبيرا.

الثّانية:

المدام. صاحبة مصنع للأعلاف المُركّزة. لا أحد يجرؤ على نطق اسمها. ثمّة بين عمّالها من يظنّ أنّ عبارة «مدام» تخصّها دون سائر البشر. لا تقبل بأقلّ من المثالي. العمل المتقن وحده لا يحوز رضاها. قادرة على شمّ الخطإ حيثما وُجد في أيّ وقت ومن أيّ مسافة. في الجناح الإداري حيث مكتبها لا صوت يعلو فوق نقر الأصابع على لوحات المفاتيح. سبق أن أطردت كاتبة لأنّها أصدرت في يوم واحد ولثلاث مناسبات احتكاكا بأسفل حذائها على الأرضيّة. على كلّ موظّف أن يسجّل ما قام به طيلة اليوم في دفتر لضبط الأعمال اليوميّة. لكلّ منهم دفتره الخاصّ. تجمع المدام الدّفاتر بصورة فجئيّة لقراءتها من حين إلى آخر. التّأخير  يعني الطّرد. الغياب مع المحافظة على الوعي غير مسموح سوى في حالتين: كسور أو وفاة فرد من العائلة. في هذه الحالة تُكلّف المدام أحدا للقيام بهمّة تفقّده عن كثب. لديها أربعة محامين. أحدهم موظّف قارّ  مُكلّف بمسك قسم النّزاعات. عاقبت أحد الموظّفين بخصم يومين من راتبه وأسبوعا كاملا جعلته يشعر  فيه بأنّه غير موجود لأنّه لم يحرص على أن يكون شعار المصنع مثاليّا في واحدة من المراسلات الروتينيّة. كان يومها محموما و يتلوّى ألما جرّاء ضرسه. عاقبت الكاتبة لأنّها قالت “انتظرها” عوض “انتظر المدام”. تُصافح كما لو أنّها تتيح فرصة لمعرفة كيف يكون الإحساس حين تُلمس مقدّمة أصابع المدام. النّظرات التي تقطر خيبة ظنّ هو أفضع ما يمكن أن يحدث لمستأجريها. استعصى يوما فكّ مجرورة عن إحدى الشّاحنات. وقفت أمامها. سلّطت على المجرورة نظرات خيبة الظنّ فتمّ الأمر  بيسر. تشترط استخدام هواتف غير ذكيّة. الحواسيب ليست مجهّزة سوى ببرنامج المحاسبة والفوترة. يكون المرء في حالة هيجان وغضب شديدين لكنّه ما إن يخطو خطوة واحدة داخل مكتبها حتّى تبرد أطرافه ويصبح وديعا كأرنب. يُقال إنّ السرّ يكمن في ممسحة الأرجل التي في عتبة المكتب. حاول أحدهم استبدالها لكنّ محاولاته باءت بالفشل وانتبهت المدام لذلك. لم تطرده لكنّها سلّطت عليه عقوبة خيبة الظنّ مدى الحياة. ليكون بذلك العامل الوحيد الذي تخلّى عن العمل. العمّال والموظّفون فقدوا الإحساس بأنّهم يشتغلون لأجل الحصول على راتب يكفل لهم العيش وصاروا مع مرور الوقت يعتقدون أنّهم خُلقوا كي لا يُخيّبوا ظنّ المدام.

***

دار بين السيّدتين حوار لطيف. بدأ بإبداء  كلتيهما إعجابها بذات القميص. بعد ذلك اتّفقا أنّ زيت عبّاد الشّمس أكثر صفاء من زيت الذّرة. تكلّما أيضا عمّا إذا كانت علبة المسحوق ذات الخمس كيلوغرامات أفور سعرا من ذات الثلاث كيلوغرامات أم لا. ثمّ أخيرا تحدّثا عن آلة محمولة في حجم مجفّف للشّعر لتنظيف السّتائر دون الحاجة إلى انتزاعها.

حيّت كلتاهما الأخرى. أشرق وجه المدام بابتسامة ودّ. وافترقتا.

في طريقها إلى المصنع حدّثت المدام نفسها قائلة: بعد كلّ هذا العناء. كم هو مُريح أن يلتقي المرء من حين إلى آخر أناسا جديرين حقّا بالاحترام.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وقاص من تونس. من اصداراته "زبد رخام"" 2013،و""جلّ ما تحتاجه زهرة قمرية"" 2017"