لويس كارول هو الاسم المستعار الذي اختاره تشارلز لودفيج دودسون، لينشر به أعماله. بدأ شـغـفُ كارول بالعمل مع الأطفال مع أخوته وتسـليتهم منذ صغره، ثمّ تنامى نتيجة عدة ظروف منها ما يقال عن معاناته من الثأثأة والتوتّر عند الحديث إلى الكبار، لذلك توجه للعمل مع الأطفال وكتابة الحكايات لهم، خاصة مع بنات عميد الكليّة التي كان يعمل بها مدرسًا للرياضيات وبنات عميد الكنيسة التي كان يرتادها. تروي سيرته الذاتية التي ألّفها ابن عمّه (كما سيأتي لاحقًا)، أنّه في مساء الرابع من يوليو/تموز 1862 اصطحب تشارلز دودسون، البنات الثلاث الصغيرات للدكتور ليدل، عميد كنيسة المسيح، في جولة لركوب القوارب لثلاثة أميال على نهر التايمز انطلاقًا من “فوللي بريدج”. حينها نقطت الفتيات الصغيرات:”احكِ لنا حكاية”، لتبدأ أكثر الحكايات الخيالية إمتاعًا في تاريخ الأدب، “آليس في بلاد العجائب”.
ولد تشارلز دودسون، المعروف باسم لويس كارول في قرية “ديرزبيري” في إنجلترا، وكان الابن الأكبر لعائلة مكونة من أحد عشر أخًا وأختاً لوالدٍ كان يعمل قسيسًا. درس تشارلز دودسون في” ريتشموند سكول”، وتفوّق في الرياضيات مما جعله يحصل على منحة دراسية في عمر العشرين للدراسة في Christ College، كما عمل محاضرًا لمادة الرياضيات ومصوّرًا وكاتبًا لمقالاتٍ وكتيبات سياسية بالإضافة لكتابة الشعر. تخرج كارول في كلية “كريست تشير” بجامعة أكسفورد في عام 1854، وبدأ في تدريس الرياضيات في الكلية نفسها في سنة 1855، وقضى معظم حياته في هذه المهنة، حتى وفاته سنة 1892.
بعد وفاته بثماني سنوات، أي سنة 1898 ألّف ابن عمّه، رجل الدين والمعلم ستيوارت كوللنجوود كتابًا عن عمّه بعنوان “لويس كارول: حياته ورسائله”. صدر الكتاب للمرة الأولى في ديسمبر 1898 في 474 صفحة من القطع المتوسّط. يقّدم كوللنجوود في هذا الكتاب صورة بانورامية لحياة الأديب الكبير الخاصّة، ومختارات من دفاتر يومياته، التي قدّمت صورة كاشفة لعبقرية كارول في خلق عوالم خيالية، تفوق في صدقها ووصفها لمشاكل الإنسان وطبيعته، حقائقَ الحياة اليومية.
في مقدمة الكتاب، وفي الصفحة الأولى يقّر كوللنجوود بعجزه عن امتلاكه عقلًا يضاهي عقل كارول، يُمكّنه من تحليل جوانب شخصية عمّه الغامضة الحالمة، ويقول أنّه سيقدّم عرضًا للجانب الأكبر من يومياته ورسائله، معتذرًا عن أي تقصير غير متعمّد في تحليل جوانب من شخصيته الثرّية، ومُـعــوّلًا في الوقت ذاته على حبّ قراء لويس كارول له. الكتاب مُكّون من أحد عشر فصلًا، يسبقهم ثبتُ بأهمّ الصور فوتوغرافية لمراحل حياة كارول. يضم كل فصلٍ مرحلة زمنية بعينها من حياته، تبدأ من تاريخ ميلاده في 27 يناير 1832، وحتى وفاته في 14 يناير 1894، وذلك في ترتيب زمنيّ مُحكم، لا يتجاوز الفصل الواحد مدةً تزيد عن عشر سنوات، يقّدم خلالها وصفًا دقيقًا لكل مرحلة من مراحل حياة الكاتب الكبير. إلى جانب التفاصيل البيبلوغرافية، وتنوير جوانب غير معروفة من شخصية لويس كارول، وتفسير سِـرّ انجذابه للكتابة إلى الأطفال، يحوي الجزء الأكبر من الكتاب عددًا هائلًا من الرسائل، أرسلها كارول إلى صديقات ابنته في المدرسة، وهي من أهم ما ورد في كتاب كوللنجوود.
من بين هذه الرسائل قضية حُبسة الكتابة، والاختلاف بين عملية القراءة وعملية الكتابة. ففي رسالةٍ كتبها كارول في سنة 1885 إلى إحدى صديقات ابنته، وهي شابة تُدعي إيديث ريكس، يقول:
“..عزيزتي .. حين تكونين قد بذلتِ جهدًا هائلًا ومُضنيًا في فهم شيءٍ ما وتحليله، ثمّ يتنابكِ شعورٌ بالحيرة والتبلبل، توقّفي على الفور، لإنّكِ باستمراركِ في التفكير في حلّ المسألة، تؤذينَ نفسكِ. أجّلي الأمر إلى الغد، وإذا استمرّت المشكلة ولم تجدي أحدًا يحلّ لكِ الأمر، اصرفي النظر عن الأمر برمّته، وارجعي إلى الجزء الذي تفهمينه، لكن لا تتركيه إلى الأبد. سأضربُ لكِ مثلًا، حين كنتُ أدرس الرياضيات في الجامعة، وأعمل على كتاب جديد، قد يستمرّ العمل عليه أسبوعًا أو أسبوعين، ثمّ أواجه مسألةً رياضية معقّدة، أشعر وكأنني قد انزلفتُ إلى مستنقع من اليأس لعدم حلّها، ويظلّ الأمر معقدًا من صباحٍ لآخر”.
يواصل كارول نصائحه إلى صديقه ابنته قائلًا:
“كانت القاعدة الذهبية عندي: أن أبدأ إعادة الكتابة من جديد، وكنتُ حين أفعل ذلك، أجدني مدفوعًا بزخمٍ طازجٍ محفّز لتجاوز الحُبسة، وربما لا، ولكنني كنتُ أحاول. الحقيقة أنني كتبت عددًا من الكتب التي جرّبت فيها بدايات جديدة”.
“…ملاحظة ثانية، لا تتركي أبدًا مسألةً رياضية دون حلّ، أقصد لا تستمرّي في مراجعة دروس الرياضيات دون حلّ مسألة رياضية توقّفتِ أمامها، ولكنّ تنبّهي جيدًا أنّ الأمر مختلف تمامًا في القراءة وفي عالم الأدب. سأضرب لكِ مثلًا آخر؛ لنفترض أنكِ تقرأين كتابًا باللغة الإيطالية، وصادفتِ عبارةً معقّدة، لا تهدري وقتًا طويلًا أمامها، اتركيها وواصلي القراءة”.
يلاحِظ كوللنجوود أنّ النصيحة السابقة مثالٌ واضح على الـفرق بين عملية القراءة وعملية الكتابة، فالمسألة الرياضية شأنها شأن الكتابة، تتطلّب منطقًا ورؤيةً واضحيْن كي يتمكّن الكاتب من حلّ المسألة الرياضية، أو بالأحرى من صنع حـبـكة مُقنعة، في حين لا تقتضي عملية القراءة ذلك؛ ففي وسع القارئ شقّ طريقه وسط أحراش العبارات الغامضة، دونما تأثير على فهم حبكة القصّة.
وكأنّ لويس كارول وهو يُسدي نصائحه كأبٍ إلى صديقة ابنته بعدم الوقوف أمام العبارات غير المفهومة، فإنّما يبعثُ-في الوقت ذاته- برسالةٍ إلى “الروائي الشابّ”، مفادها ألا يقف أمام أول عقبة تصادفه، مُستلهمًا خبرته الطويلة كأستاذ للرياضيات، فالروائي إن لم يواجه أولًا بأول أية مشكلةً تتّصل بمنطق بناء الأحداث في أثناء كتابة القصّة، وقرّر تـجـاوزَها من دون معالجة أو حلّ، فسوف تظهر هذه المشكلة/الثغرة إن عاجلًا أم آجلًا، وستصير صداعًا مُزمنًا.
أما النصيحة الثالثة التي يقّدمها كارول في رسالته إلى إيديث:
“..عليكِ مواصلة العمل طالما كان ذهنكِ رائقًا وصافيًا، وفي اللحظة التي تشعرين فيها باضطراب أفكاركِ وتشوّشها، فعليكِ التوقّف على الفور، وأخذ قسط من الراحة، وإلا لن تتعلمّين الرياضيات على الإطلاق”، ربما قاصدًا بذلك تعلّم الكتابة.
*****
خاص بأوكسجين