مشروع السيجارة اللامتناهية
العدد 271 | 18 حزيران 2022
زياد عبدالله


 

الكلمات التي لم نقُلها

تشبه زهرةً

اختنقت في كتاب

والدموع التي مرت

دون أن نلفظها

كلّفتنا أبجديةً من الحزن

وعدداً لا يحصى

من فناجين القهوة والشاي

ورغبةً

في سيجارةٍ لا تنتهي.

 

أبدأ بهذا المقطع من قصيدة مطولة كتبتها عام 1994 وكانت بعنوان “خط بداية سرعان ما ينتهي”، أهديتها إلى صديقيّ أسامة إسماعيل وأسامة شعبان.

الآن وبعد مرور 18 سنة على كتابتها يتضح لي على الأقل أن السيجارة لم تنته، وأن الأمر يتعدى الرغبة إلى ما صار واقعاً حيث أن جلوسي إلى طاولتي والنظر إلى المنفضة التي تكون دائماً على يساري (لا أعرف لماذا) يؤكد لي يومياً أنها رغبة محققة بلا أدنى شك، بحيث تصير السيجارة تلو الأخرى سيجارة متصلة لا تنتهي إلا عند النوم، وما إن أبعث منه حتى أعاود العمل على مشروع السيجارة اللامتناهية.

وجراء انهماكي بهذا المشروع المترافق والمتناغم تماماً مع مشاريع كتابة لا متناهية، فإن احتمالية الإصابة بنوبة قلبية ليست رغبة بل واقعاً أيضاً، وهكذا أصبحت منذ سنة تقريباً مواظباً على الرياضة، شرط ألا تكون صباحية، في أي وقت غير الصباح! وأكاد أجزم أن من يمارسها في الصباح له أن يكون رجل أعمال أو سياسياً أو مديراً تنفيذياً أو محاسباً أو…إلخ من وظائف يستدعي النجاح فيها النشاط والتركيز الخاليين من الإحساس، والخيلاء المشيّدة على أعمدة من تراب وهراء. نعم واظبت على الرياضة غير الصباحية التي درجت على اتباعها بسيجارة تكون لذتها مضاعفة والرئة متعطشة لكل ذرة دخان، وهذا يمتد ليشمل مباريات كرة القدم الأسبوعية التي كان ينظمها صديقي وابن عمي أدهم عبدالله في ملاعب تكون على أطراف دبي النائية والبعيدة، وتستدعي مني ما يشبه السفر إليها، وكنت أتساءل على الدوام ما الذي يدفعني لقطع تلك المسافات لخوض غمار مباراة كرة قدم؟

في البداية قلت إنه ابني ورد الذي دائماً ما يرافقني ويمتعني بلعبه الجميل وقد كنت حريصاً  أن نتشارك هكذا متعة، لكن مباريات كثيرة ذهبت إليها وحدي، لأكتشف أيضاً أن متعة التدخين في طريق عودتي أمر عظيم، فما أن انتهي من المباراة حتى استقل سيارتي وألجأ لأقرب محطة بترول لأشتري اسيريسو وأدخن ثلاث إلى أربع سجائر ،يا لها من لذة بعد ساعة من الركض والحماس والأهداف الضائعة والمسجلة.

وهنا يتوجب علي أن أخرج عن موضوع التدخين لأقول إنه وحين عودتي إلى البيت وسؤال سوسن لي ما إذا فزت أم خسرت؟ فإن إجابتي في حال فوز فريقي تكون بالقول لقد فاز أدهم وهذا حقيقي فهو حين يكون في مزاج جيد يسجل عشرة أهداف أو أكثر .. لا أقل، ألا اللعنة يا له من لاعب!

 وبعيداً عن الملاعب والرياضة فإنني اكتشفت مع الزمن أن التدخين وقاية من الكوابيس، وهذه حقيقة توصلت إليها حين كانت تلح عليّ الرغبة بالتدخين بينما أقرأ في السرير استعداداً للنوم، فحين كنت أستجيب لها فلا كوابيس ولا هم يحزنون، وحين أتجاهلها فإن نسبة تسرب الكوابيس إلى نومي تتزايد، وفي مواسم الكوابيس التي نجحت في حصرها بين نيسان/أبريل وتموز/يوليو فإنها تصل إلى مئة بالمئة، وهكذا توصلت إلى أنها كوابيس “ربيعية-صيفية”، ويمكنني أن أستثني من الصيف آب اللهّاب الذي لا تداهمني فيه الكوابيس، لكنني وعلى كل حال بت أجعل النسبة صفرية بتدخين سيجارة قبل النوم تأتي بعد تفريش أسناني وليتحول هذا الطقس إلى إعلان عن نهاية يومي وتحصين نفسي ضد الكوابيس.

أعود إلى المقطع الذي بدأت به، لتستوقفني فناجين القهوة والشاي، وإيغالاً أكثر في التوثيق فالقصيدة المأخوذ منها هذا المقطع كتبتها وعمري 19 سنة، أي لم أكن قد أُخذت تماماً بالكحول، وهنا يحضر “الطائر الأزرق” في قصيدة بوكوفسكي التي ترجمتها مع قصائد أخرى له عن التدخين خصيصاً لهذا العدد، وأجد أن إيراد هذا المقطع كفيل بتوضيح ما صار إليه التدخين بعد بضع سنوات على كتابتي هذه القصيدة: “ثمة طائر أزرق في قلبي/ يريد الخروج/ فأغمره بالويسكي/ ودخان السجائر…” ولعلي أستطيع كتابة قصيدة أعارض فيها هذه القصيدة بأن أجعل هذا الطائر مدمنا على الدخان والويسكي فلا يرغب أبداً في الخروج من قلبي، فكلنا في النهاية نحتكم على طائر أزرق في قلوبنا، منا من ينتف ريشه ويمزقه ويتجاهله لا بل لا يعرف أنه موجود أصلاً، ومنا من يعذبه ويحرّم عليه الطيران ولو في نطاق القلب والشرايين، ومنا من يدلله بالدخان ممتزجاً بالويسكي ويدع له أن يطير في أعماقه، فيسمو ويضيء ويتغنّى بمجد هذه الحياة.

وهنا أنتقل بالمشروع ليصير إلى المشروع الروائي للسيجارة اللامتناهية، ولإيضاح ماهية هذا المشروع فإنني أجدني متصارعاً بين رواياتي وما هو حولها وحيالها من حيوات عشتها فيها ومعها، وخاصة أنني ارتكبت حماقة العودة إليها ووضعت كلمة “سيجارة” ويحثت كم مرة وردت في كل واحدة منها، وكم كان حضورها كثيفاً في بر دبي وديناميت وكلاب المناطق المحررة.

لن أخوض في ذلك، نعم لن أفعل، فيا لها من تفاهة أن أعدّ كلمة “سيجارة”! الأفضل أن أعود إلى عام 2007 حين كنت غارقاً بكتابة “بر دبي” في صيف قائظ، وعلى طاولة صغيرة في المطبخ لتفادي أن يتنشق ابني ورد دخان سجائري وهو لم يتجاوز الثلاث سنوات، وحينها لم يكن لدي غرفة خاصة بي، ودرجت على تنظيم أوقات الكتابة بعكس أوقات ورد التي نظمتها سوسن بحنان حبيبة وأم، بحيث بت أبدأ بالكتابة على طاولتي في صالون البيت بعد منتصف الليل إلى السادسة صباحاً وأواصل عملي الصحفي لأنام في الثانية ظهراً وكثيراً ما كنت لا أنام لأشارك ورد اللعب والنزهات وما إلى هنالك. أتذكر ذلك جيداً، بينما لا أجد معضلة التدخين حاضرة في كل الروايات التي كتبتها بعد “بر دبي” حيث أصبح لدي على الدوام غرفة معزولة جيداً وتحت سقفها تتجول سحب الدخان بحريتها، وهذا شمل بيوت كثيرة تنقلت بينها مع عائلتي.

يمكنني القول إن غالبية الشخصيات في “بردبي” و”ديناميت” و”كلاب المناطق المحررة” مدخنة حتى لا أقول جميعها، هكذا اكتشاف وقعت عليه الآن، وسجائري التي رافقتني في كتابتهم/ كتابتهن دخناها سوية، لا بل إن سلمى في “ديناميت” تعمل في “الريجي” (المؤسسة العامة للتبغ في اللاذقية)، وها هي مقاطع كثيرة تتوارد أمامي. وإن كان لي أن أستخلص منها واحداً، فهذا المقطع من “بر دبي”، ربما من شدة شوقي لصديقي أسامة إسماعيل، وفيه ما فيه من “أعزم”، ما لم يكن هو، وقد أخذت اسمه منه، أسامة الذي في أول زيارة له للّاذقية بعد عمله في دبي أهداني ولاعة Zippo وفي علبتها قصاصة مكتوب عليها هذا المقطع من أغنية زياد الرحباني، “باقي مجة صغيرة بآخر سيجارة لآخر الغدا…إذا بدك خدا…يا خي خدا”:

“ظل أعزم يرافقني ويثني على سعادتي، لم يعترض، صار لا يتلفظ بحرف واحد يسيء لفرحي بالوجبات السريعة، بالحب السريع، بالسيارات السريعة، بالمصاعد، وظل يحتفي في الوقت نفسه ببطء البراحة، وازدحام ميدان ناصر، وديرة التي هجرناها إلى بر دبي، باحثاً معي عن بر أمان، له أن يتركني فيه ويمضي، وهذا ما فعله، وبلا مقدمات غاب شهراً أو شهرين لا أعرف أين، وحين عاد فاجأني أدخن في الممر الصفراوي، اعتصرني بقوة، لم أتمالك نفسي، دخلت في نوبة بكاء عارمة راحت تغسلني، تعقمني بمرارة، اعتصرني بقوة ودخل نفق البكاء معي، قلت له أنت الأجمل هنا، أجمل الكائنات، خارج الكائنات الحية والجوامد والتوافه، لا تفارقني أرجوك، لكنه كان قد حزم أمره، سأتفقدك، سأطل عليك دون أن تراني، لا حاجة لك بي، أنت تتأقلم، الكتشاب لا بأس به، لا ضرورة للدم لتحيا، أقبل على الحياة كوجبة سريعة، لكن لا تدع لهم أن يبقوك كذلك، تحول إلى مصاص دماء، وحوّل هذه الحياة إلى وليمة.

بدا غامضاً تماماً، وعيناه أشبه ببوصلتين لا تستقران على اتجاه، أراني جرحاً طويلاً في صدره، وصفه بأنه آخر الأخاديد، لم يدعني أسأله كيف ومتى؟ أرادني أن أعرف أنه من هواة السكاكين المشحوذة جيداً، وأنني لم أعد قاطعاً، ولا حادا،ً ولا هم يجرحون! خرجت منه عبارة عن طريق الخطأ أوضحت كل ذلك، صرت ملعقة.. تجاهلها على الفور وانتقل مباشرة إلى قوله أشياء مثل: لم يبق لي من شيء أفعله هنا، سأرسل بعضاً من رمادي، ولك أن تفعل به ما تشاء، لم يبق لي من شيء أفعله ما دامت الحرية مقتصرة على الاختيار بين استعمال السكر الأبيض أو الأسمر غير المكرر، وبين الكولا و”الدايت كولا”..

لم يكمل، توقف فجأة وابتلع مئات الكلمات التي كانت تسبح في جوفه، أدار لي ظهره، ولوّح لي من دون أن يلتفت، بينما دخان سيجارته يتزايد من خلفه كما لو أنه خارج من قطار بخاري.

مرّت سنوات على وداعي أعزم، ولولا رسالة وصلتني من لا مكان، ومن لا عنوان أو تاريخ لما عرفت عنه أنه حي، رسالة غائمة، معلقة تقول كل شيء ولا توضح شيئاً أبداً، مدعاة للبكاء الذي يحشد دموع حياة كاملة.. كتب فيها:

نشعل السيجارة من دون أن ندري. ثم نحتار أين سنطفئها!

آخر مطافئي كانت لديك

أنحن اللذين لا نضحك كثيراً؟

أنظر من الهواء إلى الهواء الموحش، أراك جيداً

وحيداً أطير فيه

للوحدة أجنحة لها أن تصير إلى سياط

ماذا عنك

أيصلك البريد أحياناً؟”

*****

خاص بأوكسجين

 


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.