فتح الحافظة البلاستيكية التي يحملها بين يديه وبدأ بمراجعة أوراقه؛ رخصة السيارة، صورة منها، رخصة قيادة شخصية، الأصل وأكثر من صورة، شهادة إبراء ذمة المخالفات المرورية الخاصة بالعام الماضي، أوراق الملكية الخاصة بالسيارة، فاتورة شراء الملصق الإلكتروني الخاص بإدارة المرور. عدّ كل تلك الأوراق وتفقدها أكثر من مرة، ثم تنهد وهو يلهج بالدعاء طلباً لتيسير الأمور التي من المفترض أن تسير بسلاسة لو طُلب منه أي من تلك الأوراق في نقطة تفقد مرورية، أما الآن فلا يُشترط ذلك، وقد جاء إليهم بقدميه حاملًا تلك الحافظة ليستفسر عن سبب سحب السيارة بعد إرسالهم رسالة نصية على هاتفه المحمول كُتب فيها: “تم سحب سيارتك الخاصة من نوع هيونداي-إلينترا 2016 التي تحمل لوحة معدنية رقم (…..) على يد دورية المرور يوم الأربعاء الموافق 23/11/2022، يرجى التكرم بالحضور إلى إدارة المرور لمعرفة الأسباب وانهاء الإجراءات القانونية اللازمة لاستلام السيارة.”
وكانت تلك الرسالة لتبدو منطقية لو تبادر إلى ذهنه ما ارتكبه بتلك السيارة من مخالفات تستوجب سحبها. حتى المكان الذي سُحبت منه كان الموقف الخاص بمكان عمله الذي يقع أمام مصلحة حكومية في التجمع الخامس، أي أنه يعرفه جيدًا، ويصفُ فيه سيارته يومياً دون حدوث أي مشكلة، وإن صدر قرار بمنع وقوف السيارات في ذلك المكان، فليس من المنطقي أن يُطبق القرار على سيارته هو تحديدًا دوناً عن بقية السيارات التي اتخذت وتتخذ المكان نفسه موقفاً لها.
انتهى من تقليب الأوراق، ونظر إلى الرقم المدون في الورقة التي تلقاها عند دخوله، كان رقمه 63، والرقم على الشاشة 47، إذن فعليه انتظار 16 شخصاً يسبقونه في الأدوار، تنهد من الضيق واستعوض الله في اليوم الذي ضاع هدراً، لكنه عاد وقال لنفسه إن نظام الأرقام الذي استحدثوه هذا أكثر بركة وتنظيماً من لا نظام الطوابير القديمة التي تُسبب الكدر الباعث على استجلاب ذكريات طوابير طويلة مماثلة لم تُفضِ لشيء في نهايتها.
استعان بهاتفه المحمول ليعينه على انقضاء الوقت، دخل ليعاود قراءة التعليقات التي كتبها له أعضاء المجموعة التي ينتسب إليها ملاك السيارة “الهيونداي” من نفس النوع “الإلينترا” لتسهيل الوصول لقطع الغيار وأفضل الخدمات، قرأ تعليقاً كتبه أحدهم يقول “لا حول ولا قوة إلا بالله استعوض الله في السيارة” ، وآخر يقول “لا تقلق المسألة بسيطة إنه مجرد خطأ في الإجراءات”، وثالث صاحب خيال أكثر جموحاً وصدامية يقول “لعل إرهابيين نفذوا عملًا إرهابياً بسيارة مماثلة وأرقام مماثلة ركبوها لطمس ملامح سيارتهم، منهم لله أولاد الكلب الكفرة” .
تعرق وهو يقرأ آخر تعليق، رفع عينه عن شاشة المحمول ورأى أمامه اللافتة الإلكترونية بإضاءتها الحمراء التي تشبه إشارات المرور، يتقدم الكلام المكتوب فيها من اليسار إلى اليمين لتظهر عبارة “الشرطة في خدمة الشعب” وتثبُت للحظة، ثم تدخل عبارة أخرى لتحل محلها “الشرطة والشعب في خدمة الوطن”.
لم يركز على محتوى تلك العبارات التي تتكرر كثيراً على الشاشة بشكلها الممل الجاذب للعين باستفزاز، فقد كان يفكر في التعليق الذي قرأه، لكنه عندما قلّب السيناريو في رأسه، تخيل أن ذلك لو –لا قدر الله- حدث، لما سحبوا السيارة من الشارع وأرسلوا له رسالة نصية تبلغه بذلك وتطالبه بالتكرم بالحضور وإنهاء الإجراءات، بل لأخذوه قبل السيارة، أو لوصلوا إليه عن طريق تتبع هاتفه المحمول، أو على أقل تقدير لكان اللقاء به في مكان آخر لا توجد به أرقام أو شاشة تتبنى هذه الشعارات. تنهد مرة أخرى، وكبح اطمئنانه الجزئي فضوله الهائج، حتى ظهر رقمه على الشاشة وتقدم إلى شباك أمين الشرطة المنوط بخدمته.
ناوله الورقة الخاصة برقمه، هزَّ أمين الشرطة رأسه، ثم طلب منه رخصة القيادة الشخصية، قرأ اسمه الثلاثي بصوت عالٍ:
-عادل أمين زكي.
وهزَّ هو رأسه مؤكداً على صحة الاسم.
قال بلهجة – نصف آلية نصف ودية – وهو يطالع شاشة الكومبيوتر:
-المبلغ المطلوب من سيادتكم يا سيدي لسد الغرامة واستلام السيارة هو 50 ألفاً.
وكاد ينطق فمه لولا الذهول الذي اعتراه من هول المبلغ الذي يُمثّل ما يقارب ربع القيمة التي اشترى بها السيارة منذ سنوات، وصوت أمين الشرطة يتابع:
-بالإضافة إلى 150 مصاريف فك الكلابات، و53 نظير المحضر، و4 جنيهات ونصف دمغات، بذلك يصير الإجمالي…
وقبل أن ينطق المبلغ الذي تجاوز حد خيال الأستاذ عادل، قال بصوت حرص على إبقائه خفيضاً كي لا يتكبد مبلغاً إضافياً نظير رفع الصوت على موظف حكومي يؤدي عمله بإخلاص في البحث عن حق الدولة من المخالفين:
-حسناً، دعنا من الإجمالي الآن، وأفهمني، لمَ كل هذا؟! ما هي المخالفة التي ارتكبتها؟ ولماذا وضعتم 150 مقابل فك الكلابات والسيارة مسحوبة؟!
هز أمين الشرطة رأسه وقال بحزم يليق مع السؤال:
-لقد كُبِّلت قبل سحبها.
-لماذا؟
-والله هذا هو العرف المُتبع، وإذا أردت معرفة تفاصيل أكثر عن الغرامة وأسبابها، بإمكانك الدخول لمكتب الباشا الضابط، أما انا فالمكتوب عندي على الكمبيوتر هو “مخالفة إساءة استخدام المركبة”.
أخفض الأستاذ عادل صوته أكثر مع أمين الشرطة الذي يبدو أنه فاض به كيل إضاعة الوقت المخصص لخدمة المواطنين في نقاش لا طائل منه، وقال:
-نعم، أتفهم موقفك، وسأدخل للباشا الضابط، لكن ينوبك ثواب، أخبرني بخبرتك ما هي “إساءة استخدام المركبة” المكتوبة تلك؟!
قال أمين الشرطة بتلقائية من توقع هذا التساؤل:
-صدقني والله لا أعلم، هذا هو المكتوب أمامي، عادة تُفرض تلك الغرامة على السيارات التي تُستخدم في بيع البضائع مثل الأحذية والملابس، أو التي يتخذها أصحابها كنصبة للشاي والقهوة..
-نصبة شاي وقهوة؟! حسناً سأدخل للباشا الضابط وأمري لله.
هزَّ أمين الشرطة رأسه بطريقة آلية وضغط على زر تغيير الرقم على اللوحة لاستقبال صاحب الرقم التالي، بينما مشى الأستاذ عادل تجاه باب مكتب الضابط، وبحث بعينيه عن الساعي الخاص بالمكاتب، الذي ظهر حاملًا صينية في يده ومرتديًا بذلة المُنقذ، الذي لا يمانع من التوسط للمواطنين لدى الباشا ليقابلهم في مقابل جنيهات بسيطة لا تساوي ثمن الخدمة.
-أي خدمة؟
-أود الدخول لمقابلة الباشا.
وأعطاه عشرة جنيهات دسها الآخر في جيبه على الفور، وقال وهو يهز رأسه:
-ثوانٍ وآتيك.
ثم عرض عليه الضيافة ليُضفي صيغة الحق على الجنيهات التي دخلت جيبه منذ لحظات:
-أآتيك بشيء تشربه؟
وجاء الرفض السريع الذي توقعه لعرضه السخي برفع كف يده في وجهه كتعبير عن الشكر، فطرق طرقتين على مكتب الباشا ودخل، ثم خرج بعدها بثوانٍ يقول:
-تفضل.
دخل الأستاذ عادل وحرص على إعادة الباب لوضعه، مُغلقًا إياه بعد دخوله، نظر بخجل تجاه المكتب ليجد الباشا الذي كان ينظر في تلك اللحظة تجاه الباب، بأسنان لامعة تُزين ابتسامة غريبة على هذا المكان الذي لم يبتسم في وجهه فيه أحد سوى الساعي، إذا اعتبرنا ابتسامته بعد تلقي ورقة بعشرة جنيهات من باب الترحاب.
أشار الباشا بيده نحو الكرسي الذي سيجلس عليه الأستاذ عادل، وتابع حديثه مع الرجل ذو الهيئة الغريبة الذي كان يجلس معه. جلس الأستاذ عادل على المقعد الجلدي المريح وتفقّد الرجل بعينين فضوليتين؛ هذا الرجل هو النقيض التام لصورة الباشا، ملابس تبدو قيّمة أو كانت ذات قيمة عندما اشتراها الرجل منذ سنوات، لكنها رثة تحتاج للغسل بماء النار قبل تعليقها في متحف للملابس القديمة، لحية غير مشذبة يُخلِّف التقاء البياض مع السواد فيها نشازاً مريعاً لا يكتمل سوى بصفين من الأسنان المتنافرة ذات الألوان المتعددة، وفوق رأسه طاقية صوف مناسبة للشتاء، لكن لشتاء عام 1882 وليس هذا الشتاء، لكن لا بد أنها تُخفي تحتها تتمة التنافر، إنها الجزء الخفي المُتخيل من هذه اللوحة التشكيلية غير المكتملة.
قال الباشا للأستاذ عادل:
-تشرب إيه؟
وضع الأستاذ عادل يده على صدره بأدب، وقال الباشا:
-ثواني، انتهي من هذا اللقاء معه وأتفرغ لك.
فقال في نفسه: “هذا الباشا متواضع حقًا، يا ليت كل أصحاب المناصب أمثاله!” ولمح لافتة خلف المكتب كُتب عليها بخط النسخ، “الشرطة والشعب في خدمة الوطن”.
قال الباشا للرجل غريب الهيئة:
-هه ما رأيك إذن؟!
-قُلت “لا إله إلا الله” 90 ألفاً مبلغ كبير عليَّ، لكن تلك الإشارة هي رزق العيال المساكين كما تعلم.
حاول الأستاذ عادل التركيز فيما يقال، 90 ألفًا على هذا الرجل أن يدفعها؟! حتى لو كان الأمر كذلك، فكيف لا يزال جالساً يتفاوض على هذا الرقم الكبير عليَّ لا عليه فقط؟! من البديهي أن يموت فور سماعه إياه…يبدو أن هذا الباشا طيب إلى الحد الذي يُمكن فيه التفاوض معه على مبلغ 90 ألفاً ليصبح 9 آلاف. لعلها بشرى!
-مبلغ كبير إيه يا رجل يا طمَّاع؟ 90 ألف مبلغ كبير عليك؟! جرى إيه يا عبيد إنت فاكرني نايم على وداني ومش عارف من زمايلي العيال المساكين اللي بتقول عليهم دول بيطلعوا بكام في اليوم من الإشارة والعربيات اللي بتقف فيها؟! مش كفايه نزلتلك المبلغ من 120 لـ 90!
-أيوه يا باشا، بس تصليح إشارات المرور العطلانة لمؤاخذة مش شغلنا، بس احنا حابين نخدم!
-والتسول في الإشارات مش شغل حد يا روح أمك، بس احنا حابين نعمل مش واخدين بالنا!
صمتا للحظة، ثم قال الباشا:
-قلت إيه؟
-قلت لا إله إلا الله..ساعتين والفلوس تكون موجودة هنا عند سعادتك.
-ساعة زمن واحدة، مش كفاية الإشارة عطلانة من الشتا بقالها أسبوع.
-اللي تأمر به سعادتك.
ثم نهض عبيد، الذي بات من غير المنطقي الآن وصفه برثاثة الهيئة، وخرج من المكتب. عاد الضابط للهجته الأولى التي استقبل بها الأستاذ عادل عند دخوله عليه وقال:
-معلش يا أستاذ عادل خليتك تستنى كتير أنا عارف، بس أديك شايف المشاغل.
-الله يكون في عون سيادتك.
-أأمرني أقدر أخدمك ازاي؟
-بستفسر من حضرة الأمين برا على مخالفة “إساءة استخدام المركبة” اللي عملتها ميعرفش، قُلت أفهم من سيادتك.
هز الضابط رأسه، رفع هاتف المكتب وأجرى اتصالاً، مرت لحظات وقال:
-عايز أعرف العربية رقم (قرأ الرقم من الملف) عملت إيه بالظبط؟!
لحظات أخرى ثم نظر نحو عادل نظرة لا تشي بشيء، رغم ذلك تصاعد الدم إلى رأس الأستاذ عادل.
أنهى الضابط المكالمة وهو يقول لمحدثه:
-تمام..تمام.
ثم وضع السماعة وقال:
-سيارتك الملاكي حسب ما ورد إلينا، كانت تمشي في المحور الذي أنشأناه حديثاً، في أثناء المطر، خلال الأسبوع الماضي، أليس كذلك؟
قلق عادل وقال:
-صحيح.
هز الباشا رأسه وقال:
-رصدت كاميرا الرادار المُثبت هناك أن مواطناً أشار لك بيده طالباً منك التوقف وتوصيله في المطر…
قال عادل كمن تذكر:
-حدث ذلك ولم أفعل، إنها سيارة ملاكي كما ترى سيادتكم.
نظر إليه بشفقة من لا يد له في شيء وقال:
-أعرف أعرف، صدقني أرغب في مساعدتك، لكن كما ترى، هذه المنطقة لا يوجد بها خط للمواصلات، ولم يكن أمام من أوقفك في هذا الطقس السيء حل آخر سوى محاولة استيقافك…
فكر عادل، للحظات شعر خلالها بالندم، في مصير السيارة التي قد تُصادر منه لتتحول لعربة تنقل العالقين في الطقس الطارئ، وقال:
-أنا تحت أمركم!
12-12-2022
*****
خاص بأوكسجين