مانيفستو البكاء
العدد 285 | 1-4-2024
بسنت أحمد


أطفو بين الناس كسحابةٍ مُتحرِّكةٍ تقطر دمعاً. أتأمّل البكاء، أجمع المعلومات عنه كصديقٍ جديد، أسأل أصدقائي عن خصوصية انفعالاتهم، متى خنقهم البكاء، فأحياهم بعدما أماتهم، ومتى آخر مرةٍ توسّلوا الدمع ولم يستجب.

عندما أستعيد ذكرياتي مع البكاء، أرى أمي التي تستعيذ بالله في صلاتها من عينٍ لا تدمع، تحملُني على كتفها كلّما شرعتُ بالبكاء، وتدور بي أرجاء المنزل تهدهدني، تغني لي بكائيةً تصدح من صدرها يوم بكتْ أمَّها التي لم ترها، ويتعالى صوتها في النحيب فأغفو، تقايض دموعي بدموعها، تساوم العالمَ النهم للدماء بدماء حماماتها المفضلة بشرط أن يترك لي دموعي، تروي الأرض العطشى للأحزان بنغماتٍ رثائية، تنقطع أنفاسها وهي تردد “هووووووووو” في تكرارٍ رتيب، الحركة الآلية التي يتبعها جسدها تصيبني بالدوار، فأنام مؤجلةً أحزاني ليومٍ آخر. تلك الأحزان المؤجَّلة تهاجمني دفعةً واحدة. أنا الآن امرأةٌ مُغلَّفةٌ بالبكاء، حروفي تنزّ دمعاً، وفقيدي لا يُعوّض. ما عادت الأرض النهمة تشبع، وأنا أتفجّرُ دمعاً لأني لا أملك حماماً، ويدا أمي متعبتان.

أبكي في أوقاتٍ غير مناسبة، وأستجدي الدمع حيناً دون أمل. اليوم أهديتُ صديقتي الأثيرة في ذكرى عيد ميلادها رسالةً مبللةً بدموع الامتنان، ذابتْ بين يديها قبل أن تفتَحها، تركتُها تتمنى أمنيتها بسلامٍ لأعبّر لها عن حبي في وقتٍ لاحق. أنا التي انفجرتْ عيناي في وجه العروس الحسناء فأفسدتُ مكياجها، غير مرحبٍ بي في قاعات الأفراح، كما خيّبتُ أمل حبيبي حين اكتشف أنه يحب جسداً مثقوباً، فما الفرق بين أن أذوبَ بين يديه كشمعةٍ أو أن أذوبَ في قصيدة، وهو ينتظر أن تتفجّر مني سوائل الألم واللذة في كل مرة يعتصرني بين يديه، ولكنْ عيناي تخذلانه، أنا التي أمطرتُ كلَّ ليلةٍ لأرويَ صدره الجاف فتنمو بين قِفاره القبلات، يلومني اليوم كلّما جرَحتْه شظايا انكساري مع كل عناق.

يقول صديقي إنه لا يبكي أبداً، ورغم حشرجة البكاء التي تذبح صدره فهو لم يبكِ حبيبته السابقة، يقول إنه لن يتزوج أبداً بينما يتغزّل بكوب قهوته، وأنا أحتسي الشاي بالنعناع، قلت له إنني إذا تزوّجتُ فلن أتزوجَ ذلك الذي أحببتُه حدَّ الألم. لا أريد أن يكون فطورنا كل صباحٍ مرثيةَ حزنٍ، ونبيذُنا دموع المرار والاشتياق، لا أريد أن نحيا بلا إدراكٍ لأن عذابات النشوة تُغلّف عقولنا، بل سأتزوج من سأبكيه للمرّة الأولى عند موته حين أدرك أن من مات للتوّ هو نفسه حبيبي، وأُصبحُ بعدئذٍ تلك العجوز التي تؤلّف حكاياتِ حبٍ لأحفادٍ متخيّلين كل مساءٍ أو في حفلات انقطاع النور وتخفيف الأحمال، فيخلط عقلي الخرِف التفاصيل، ويخلط الزهايمر الحروف الأولى لجميع من أحبوني، فأدعو جدهم في قمة التجلي “أمنحتب”، وأبقيهم ثملين بنشوة أساطير الحب يتمنّون العشق فلا يطولونه سوى بعد الموت.

لا أجيد التصرّف أمام الباكين رغم أنني أبكي كثيراً، أحتار بين أن أتجاهل دموعهم أو أفتح يديّ ليصبّوا فيها المزيد والمزيد حتى يتطهروا. أتردد كثيراً قبل أن أضع يدي على كتف صديقتي المتألِّمة لأنها تكره أن يلمسها أحدٌ، فتزيح يدي المرتعشة وترتمي بأحضاني، تبللُ ملابسي بإثمٍ لم ترتكبه. عندما تركتُها فكّرتُ بعدد المرات التي تحطّمتْ دون أن يلملمها أحدٌ لأنها تدّعي أنها تكره اللمس. عندما عدتُ إلى البيت خلعتُ ملابسي التي تحمل آثام شخصٍ لم أره ولا مرّةً في حياتي ولن أفعل.

وضعتُ العِناق، الذي ترددتُ فلم أمنحه، في خزانة العناقات المؤجلة، فأنا بجسدي الذي يحتضن العالم أخاف أن أبتلع أحبتي أو أن أغضب الله بعناقٍ حار. سيأتي اليوم الذي تخنقني فيه تلك العناقات حين تتراكم في الخزانة.

أجلس في حوض الاستحمام لا أفرّق بين دموعي ودموع صديقتي والماء الذي يعادل ملوحةً كل ذلك، ويتركني مع دمعِ سُكْري أنتشي في كل مرّةٍ أصلّي فيها. أبكي كلّما حدّثتُ الله رغم أني أجددُ توبتي بين الخطيئة والأخرى بانتظام، ولكنني أشعر بالجدران الصُلبة التي تقيّد روحي تنصهر كلّما أغرقتها بدموعٍ ساخنة، تلك الحرارة من الجحيم تُفتت خدودي، أشعر أني معلَّقةٌ قرب السماء، وهذا الوجه المليء بالأخاديد قد أصبح الآن مدسوساً في وسادة الله الناعمة.

أحياناً نبكي بحرقةٍ حتى نبلغَ الرضا والنشوةَ من لذّة الدمع الزاحف على صفحات صدورنا أو فقط حتى يبلغَنا اليأس من عودة الأرواح التي نبكيها، ولا نعلمُ متى يدركنا اليأس، فالأسى يتجدد باستمرارٍ كلما نزعتْ منّا الحياةُ قطعةً.

ليس من المعتاد أن أبكيَ دموعاً كريستاليةً متلألئة، ولكني عندما أفعل أقف أمام المرآة أتأمّل اللوحات الفنية التي تركها البكاء، لو ظهرتْ على لوحة بيكاسو The weeping  woman لأعدْتُ تشكيلها بوجهٍ يشبهني أكثر، ولجدّدتُ إيماني بأن الموسيقى وُجدتْ لتُخلِّدَ سيمفونيات النحيب التي ظلّ صداها يتردد في آذان العازفين.

يفحصني طبيب عيوني مهدداً بإزالة القنوات الدمعية إنْ لم أقتصد بها، فأتوسل إليه ألا يفعل قبل أن أؤلف كتاباً عن تاريخ صراخ الأرض، كلّما وضعتُه في مكتبتي أذابَ الرف.

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من مصر

مساهمات أخرى للكاتب/ة: