ماكيت القاهرة
العدد 266 | 01 آب 2021
طارق إمام


 

ليست اللغة المشتركة ما ننطق به، فاللغة تبدأ بالظهور عندما نصمت.

قرأت نود هذه العبارة في كتاب لكاتب يُدعى “منسي عجرم”، وقد بدا صمت تلك المرأة غير المفهوم، والأعمق من صمت الغرفة الساكنة، ترجمةً لعبارته، حتى أنها شعرت للحظة أن ذلك الصمت منبعثٌ من كلماته.

لم تنزعج نود، فمنذ زمن بعيد أصبح صمتها هو طريقتها الوحيدة للوجود. ترجمته إلى واقع حتى في أشد السلوكيات ابتعاثًا للصوت، مُمّرِّنةً نفسها ألا تُخلِّف حتى صوتًا لخطوها على الأرض، إلى أن باتت تمشي بصمتِ حافية في الأحذية عالية الكعب. وبالطريقة نفسها، لم تُخلّف أبدًا صوتًا لمضغ طعام أو لتحريك ملعقة في صحنٍ فارغ، لا صوت لبابٍ يُفتح أو يُغلق، حتى لو كانت ضوضاؤه الإجبارية جزءًا من عيوب صناعته. كانت نود على وشك أن تؤسس عالمًا كاملًا لم تعد فيه بحاجةٍ للصوت، لكن بقيت الكلمات عائقًا وحيدًا قوّض أملها. وأقصى ما استطاعت فعله أنها مرَّنت نفسها على تقليص كلماتها إلى حدها الأدنى، مكتفيةً من اللغة بمعجمٍ محدود من مفردات متقشفة وجُمل اضطرارية، أخذ يتقلّص بدوره يومًا بعد الآخر، مع اقتصادها في إنفاق مفرداته حد الاستغناء الكامل عنها كلما استطاعت. وهكذا أصبحت كلماتٌ قليلةٌ جدًا من الأبجدية تؤلف كل ما يمكن لنود أن تعتبره لغتها، ليس فقط عندما تتحدث للآخرين، لكن وقبل كل شيء، عندما تُكلِّم نفسها.

ثمة أشخاصٌ يعبرون العالم دون أن يُنفقوا سوى كلمات قليلة، وكأنهم يملكون مخزونًا محدودًا منها سينفد إن هم لم يقتصدوا في استخدامه. ينتهي الأمر بهؤلاء إلى الموت وقد خلّفوا وراءهم عددًا هائلًا من الكلمات التي لم تُقل. غير أن صمت نود كان، فوق ذلك، احتجاجًا. كان احتجاجها الأخير على عالمٍ مرهون بالنطق، دون أن تنجح الكلماتُ مرة في أن تقي شخصًا من الوحدة أو الشيخوخة أو الموت. حتى وهي تمسك بمصحفها الصغير في مراهقتها، مُهتزةً للأمام والخلف، كابحةً الخصلة التي تتململ كي تنزلق على جبهتها من تحت الحجاب الذي ستقتلعه بعد ذلك، لم تكن نود تردد الكلمات، أو تهمسها، لم تكن حتى تحرك شفتيها، كأن الكلمات الأكثر قداسة لم تعد أكثر من موضوعٍ للنظر.

أخيرًا خرج صوت المسز. لم يتبدَّل، ولم تستطع نود التحديد إن كان ذلك يزيد من الغرابة أم يقلصها. بدأت تُكمل حديثها بعادية، وكالعادة كأن ما حدث لا يستدعي التوقف، أو ربما _ فكرت نود _ لا تعرف المسز أصلًا ما جرى لوجهها، فنحن لا نرى وجوهنا إلا بالنظر في مرآة، وحتى هذه الأخيرة _ وفي حالة نود بالذات _ لم تكن تصلح دليلًا على أن ما يراه شخصٌ ما هو بالضرورة انعكاس للواقع.

قالت المسز، مقتربةً أكثر من جوهر المشروع الذي أتت نود من أجله:

_ الشرط الأهم في أفلام كايرو كام هو الارتجال.. فالمشروع لا يعتد بسيناريوهات جاهزة أو مكتوبةٍ سلفًا أو سابقة التحضير.. يجب أن تنبع القصة داخل الجاليري وتطوّر نفسها بنفسها بمنطق أقرب لمنطق الحياة.. وعبر هذه الآلية يجري تطوير المشاريع إلى أن تصبح جاهزةً للعرض.. وهو، حسب تقديرنا، المفهوم الأقرب للتوثيق كفعل اكتشاف.

تجرأت نود لتستفسر بحذر:

_ لكنه في النهاية فيلم يسرد سيرة وقعت بالفعل..

_ إذا ما قُدّر لأي سيرة أن تُحكى مرتين.. فلن تكون أكثر من حكايتين متضاربتين. صدقيني، إن حياة أي شخص هي حكاية مختلقة.

كالعادة أومأت نود ولم تنطق. عادت تستعرض المصغرات المتراصة على محيط المكتب بخيال لقطة بانورامية. يبدو أن المسز لاحظت، فالتقطت طائرة مصغرة. قلّبتها قليلًا بين يديها قبل أن تقول: هذه طائرة حقيقية.

أدخلت إصبعًا في كابينة قيادتها، ثم تركتها من جديد على سطح المكتب. ظنت نود _ غير المصدّقة _ أن هذا هو كل شيء، لكن الطائرة بدأت تتحرك على السطح الشاسع وكأنه مهبط فسيح في مطار. سمعت نود صوت الاحتكاك الرهيب لعجلاتها ورأت شظيات شرر صغيرة تنبعث من تلك العجلات قبل أن تبدأ بالاختفاء تدريجيًا لتُدفن في جسد الطائرة التي تهيأت للإقلاع. بدأت الطائرة تدريجيًا في الارتفاع، باعثةً صوتًا مدويًا أجبر نود على إغلاق أذنيها قبل أن تُصاب بالصمم. رعب نود واجهته المسز بأن فردت ذراعيها وأخذت تؤرجحهما كجناحين متمايلين بطفوليةٍ طارئة، حتى أن نود المرتجفة شعرت أن طفلة الصورة تنظر معهما _ مأخوذةً _ لأعلى.

ما هي إلا لحظات حتى ارتفعت الطائرة في هواء الغرفة، قبل أن تتخذ مسارًا عموديًا، ثم تغادر النافذة إلى الخارج، إلى سماء المدينة الحقيقية. نود التي ظلت ترقبها، انتظرت سقوطها، لكنها أكملت علوّها وظل صوت تحليقها يبتعد حتى اختفت بين السحب.

حل الصمتُ مجددًا. عادت نود تتأمل جميع الموجودات المصغرة _ التي ظنتها في البداية لعبًا أو دُمى أو ماكيتات مصمتة _ تحت ضوءٍ جديد، متخيّلةً رعب أن تدب الحياة فيها جميعًا بالتزامن.

يبدو أن المسز أدركت أنها يجب أن تعود للسيطرة على نفسها كمديرة للمكان، وهنا قلّبت نظرها بسرعة في سيرة نود الذاتية المطبوعة أمامها، وسألتها دون أن ترفع عينيها عن الأوراق:

_ لماذا اخترتِ العمل بالسينما الوثائقية؟ ألم تجتذبك السينما الروائية مثلًا؟

_ كنت أبحث عن حكايات يستحيل تكذيبها.. كونها حدثت في الواقع.

_ وهل كل ما يحدث في الواقع قابل للتصديق؟

_ على الأقل يستحيل إنكاره. لقد حدث وهذا يكفي، يكفيه. لا أحد يستطيع تكذيب الوقائع حتى لو لم يصدقها. التصديق شيء شديد الفردية أما الواقع فهو ملك الجميع للدرجة التي يصبح معها غير مملوكٍ لأحد.

صمتت نود. لكن إشارةً من يد المسز أجبرتها أن تُواصل، كأنها تسترد منها كل ما ادخرته من كلمات منذ دخلت الغرفة.

_ عندما لا تُصدِّق أمٌ موت ابنها، هذا حقها المجازي، لكنها لا تستطيع تكذيب ذلك الموت حرْفيًا في العالم الواعي لأن ذلك يعني تلقائيًا أنها انتهكت حق الواقع في تأكيد وجوده وحق الجميع في تصديقه. إن إنكار موت شخص لا يساوي أبدًا الادعاء بأنه حي، وإن فعل شخص، فسيعبُر ببساطة إلى الضفة الأخرى من الواقع، وهذا هو تعريفي للجنون.

_ الجنون.

قالت المسز الكلمة كأنها سؤال في ذاتها، تاركةً لنود حرية منحه أداة الاستفهام المناسبة.

_ نعم. إننا نخشى الجنون لأنه ذلك النوع من الإعلان عن الفردية الذي لا يكتفي بنفسه، بل يغدو في لحظة تهديدًا للجميع، أو لنقل إنه يطالب الجميع بتبني منطقه فيما يُفترض أن يخضع هو لمنطقهم. اللحظة التي يقرر فيها شخصٌ ما تكذيب الواقع: هذا هو تعريفي للجنون.

_ لكن المتخيّل أيضًا قادرٌ على أن يمنح حتى للجنون منطقه فيجعله مقبولًا في واقعٍ فني.

 _ لأن المتخيل نفسه تكذيبٌ للواقع، ليس بنفيه أو إنكاره هذه المرة، بل بإعادة تشكيل بنيته ومن ثم منطق علاقاته. لقد وُجد المُتخيّل بالأساس ليمنح المبرر لما لا تبرير له في الواقع، ليُضفي الدلالة قسرًا، وفق شروطٍ جديدة تنبع من داخل الخطاب لا الحياة. عندما تضع سيارةٌ مسرعة حدًا لحياة شخصٍ في الواقع فإنها تخلق النهاية الأكثر مأساوية، بينما إن أنهت نفس السيارة حياة نفس الشخص في فيلم فإن ذلك يكون مدعاة للاستخفاف بل وقد يكون مثيرًا للضحك لأنه غير مبرر دراميًا. ليس من حق أحد أن يموت دون سبب في نص بينما يموت جميع الناس دون سبب في الواقع.

تنظر نود للمسز بخفر، متمنيةً أن تتسلم منها ناصية الكلام، لكن وجه العجوز هذه المرة هو من اهتز لأعلى وأسفل آمرًا إياها أن تُكمل.

_ .. والأسوأ أننا نعتبر موتًا مثل ذلك في الفن حلًا غير معقول، باعتباره حلًا غير منطقي. لماذا تُدمِّرنا واقعةٌ في الحياة وتصبح نفس الواقعة مدعاةً للاستهزاء إذا ما نُقلت بحذافيرها للفن؟ لماذا يؤكد هذا حقيقة عبثية الموت تمامًا في المُعاش وينفيها تمامًا في المتخيّل؟ إن السبب يكمن في ذلك المبرر غير الموجود أو لنقل المختلق الذي لم يكتف الفيكشن بجعله شرط معقوليته، إنما أعاره للواقع نفسه، وللأسف، فقد انتقلت هذه الشروط تدريجيًا، بتسلل لص، من الوهم للحقيقة.. فلم نعد نصدق في الواقع إلا ما نصدقه في الفن.

_ وهكذا أمكن للتخييل أن يصبح مرجعًا للواقع.. وليس العكس.

للمرة الثانية لم تُلق المسز سؤالها بنبرة استفهامية، وللمرة الثانية رأت نود علامة الاستفهام الافتراضية في نهاية العبارة تتجوّل بين عينيها الزرقاوين.

_ أقسى ما في المتخيَّل أنه يمنح كل شخص نسخته من الواقع، مثل ماكينة هائلة تصنع مفاتيح مختلفة تفتح جميعها بابًا واحدًا. هل يمكن أن ندخل جميعًا البيت نفسه، كُلٌّ بمفتاح مختلف؟ إن هذا يعني ببساطة أن لا وجود للباب.

_ لكن بالاستناد لهذا التعريف بالذات للواقع، فإن ما يملكه الجميع يصبح بالتدريج غير موجود.. لذا يمكنني أن أقول بالمقابل _ من داخل منطقك نفسه، مسز نود _ إن الواقع الوحيد غير القابل للإنكار هو الواقع الذي لم يحدث.. هل من الممكن نفي واقعة لم تقع؟ وإن كان بمقدور شخص أن يُكذِّب الواقع فيصبح مجنونًا، ماذا لو كذّب الخيال؟

صمتت نود، بينما يتردد في أذنيها لقب مسز الذي منحته المسز لها بأريحية، وكأنها تخلع رداءً ضاق عليها لتلبسها إياه، رغم أن بياناتها لم تُشر لحالتها الاجتماعية، لكنها ربما عزت ذلك للدبلة الذهبية في بنصر يدها اليُسرى.

_ ألا تعتقدين أن فيلمًا وثائقيًا يمكن أن ينتمي للتخييل؟

شفعت المسز سؤالها بنظرة، شعرت نود أنها تكذيبها الصامت لكل ما قالته. في أعماقها كانت نود تعرف أنها تكذب، كمن يدفع بمبررٍ مدروس ليخفي فضيحة. لو كان ثمة فيلم تطمح نود لعمله حقًا فهو قصة الرجل الذي يظهر في المرايا لامرأةٍ ما، ومن أجله قررت أن تدرس السينما، لكنها لا تعرف إن كانت فكرة كهذه تدخل في خانة التوثيق لأنها تسرد قصة حدثت في الواقع، أم تنتمي للتخييل لأنها قصة يستحيل أن تُصدق، خاصةً مع استحالة ظهور بطلها. ومن أجل ذلك فضّلت نود الإنكار المتطرف لكل ما تؤمن به في داخلها، ليُصبح معتقدها الحقيقي عقيدةً سرية وخطرة يعني اطّلاع الآخرين عليها عقابًا لا يُحتمل. كان ذلك الإنكار وقايةً وحيدةً لها من اتهامها بتكذيب الجميع، أي بالجنون، الذي تحدثت عنه قبل لحظات بتأفف شخصٍ لم يجربه.

عادت نود تنقل عينيها في محيط الغرفة، ليس في المناطق الظاهرة، بل عند التقاء محيط الحائط المدوّر بالأرض، وكأنها تبحث عن صوتها الذي عاد للاختفاء في إحدى البقاع، لكنها لم تعثر على كلمة واحدة ترد بها على سؤال المسز. ويبدو أن العجوز أدركت ذلك فقررت أن تبادر هي بمواصلة الكلام.

_ لو افترضنا مثلًا…

صمتت المسز للحظات، محدقةً في السقف هذه المرة، كأنها ترتجل فكرة من العدم، قبل أن تكمل:

_ لو افترضنا مثلًا أنني مخرجة.. ويُلح عليّ عمل فيلم عن شخصٍ لا وجود له سوى في مرآة شخصٍ آخر.

رعدة الرعب التي عبرت جسد نود هذه المرة كانت أضعاف رعدتها حين تغيَّر وجه المسز. بالكاد ابتلعت ريقها وهي تسأل:

_ هل تقصدين أن أحدًا لن يكذّبه لأنه لم يحدث أم بسبب العكس بالضبط.. لأنه حدث؟

نظرت المسز نحو حقيبة نود، كأنها تنظر إلى منبع إلهامها. شدَّدت المخرجة من ضغط كفيها المتعاقدتين فوق ماركة جوتشي المزيفة، كأن حياتها كلها مختبئة في هذه الحقيبة.

_ أقصد فيلمًا وثائقيًا.

نود، الذائبة، كانت مضطرة للرد. لقد تدحرجت كرة المسز في ملعبها، كرة ثلجٍ هائلة كانت نود واثقةً أنها تملك من القوة ما يكفي لدفع حياتها كلها باتجاه السقوط.

هنا قررت أن تلجأ لحيلةٍ قديمة، هي رد السؤال بسؤال. إنها طريقة نرثها من الطفولة وتظل حيلتنا الوحيدة لمواجهة شخصٍ كشفَنا دون حتى أن يبذل جهدًا في ذلك، دون أن تند عنه بادرة تعاطف أو أسف، والأسوأ دون أن يُبدي استغرابًا.

هكذا جاءت إجابة نود على هيئة سؤال بينما تتفتت كل ذرةٍ فيها:

_ وهل هناك في الواقع من يُمكن أن يظهر في المرآة دون أن يكون موجودًا؟

تنهدت المسز، وكانت هذه هي أول بادرة إنسانية من المرأة التي بدت لنود حتى هذه اللحظة شخصًا غير حقيقي. بدا أن تنهيدتها تلك هي الإجابة، ليس فقط على سؤال نود، لكن على جميع الأسئلة التي لا تفعل اللغة حيالها سوى الاعتراف بالعجز.

بوجهٍ جديد، وكأمٍ تصارح ابنتها بأنها تشاركها الرجل نفسه، قالت المسز:

_ أنا.. ظهر لي ذات يوم شخصٌ ما في المرآة.. لكنه عندما تجسّد في الواقع…

ولم تُكمل المرأة عبارتها.

______________________

*من رواية بنفس العنوان، صدرت مؤخراً عن “منشورات المتوسط، ميلانو”.

 

*****

خاص بأوكسجين

 


روائي وقاص من مصر. من رواياته: "شريعة القطة"" 2003، و""هدوء القتلة"" 2007، و""الأرملة تكتب الخطابات سراً"" 2009، و""ضريح أبي"" 2013 وروايات أخرى. ومن مجموعاته القصصية: ""طيور جديدة لم يفسدها الهواء"" 1995، و""شارع آخر لكائن"" 1997، و""حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيه"" 2010 ومجموعات أخرى."