لَيْل 2-2
العدد 201 | 24 تشرين الأول 2016
إدنا أوبراين


   ذات مرة صنعت مربّى وقابلتُ ابني توتسي لدى خروجه من بوابة المدرسة. شارداً، ودائماً تقريباً يكون آخر الخارجين، ودائماً يتلكّأ. أصبح بالغاً الآن، يمتلك ربع حصّة في سيارة جيب، ويجوب العالم. قال إنه يريد أنْ يصل إلى أماكن لم يبلغها الآخرون. دائماً صموت. كان يحب الحيوانات، وبارعاً في ترويضها. ذات مرة مكث في قطار، مقرفصاً، فقط ليكون بالقرب من كلب من نوع داشهند، ويداعبه. بعد أنْ حلقت له شعره للمرة الأولى جعلته يضع قلنسوة للأطفال على رأسه، كانت قمّة رأسه قد حدّثتني عن مذابح سابقة، وكانت عِظامه الصغيرة توحي بمحارق جماعية. ثم بدأ ينبت، كشعيرات فرشاة الأسنان منتصبة على رأسه، ونما على شكل خصل صغيرة، طويلة لدنة ومجعّدة. إنني أحتفظ بتلك الخصل، وبأسنانه اللبنية في كيس صغير بسلسلة، لأعطيها لأولاده. إنني أشتاق إليهم. الكيس موجود في البطانية مع باقي أغراضي. إنَّ حب الأم، كالخميرة، يتضاعف حجمه، والجراثيم ترتفع وتندلق عبر حافة العالم، بغزارة. كان يتبول بفخامة في المتنزهات المحلية، منافساً في ذلك النوافير. كان البوّابون والحرّاس يأخذوننا إلى بطانة الحرّاس والعاملين من أصحاب النزوات الغريبة. إنني أعمل هنا لكنه عمل لا قيمة له.

   مرة واحدة في الأسبوع أشتري له مصّاصة. في يوم الخميس. أصبحت أيام الخميس كلها متشابهة، أيام خميس طفولته وطفولتي، وربما طفولتك أنت؟ “دينغ رينغ يا روزي”، “هيشا هيشا”[1]، كلنا نسقط. كان صباغ المصّاصة يجعل شفتيه بلون الياقوت ، ويسيل على ذقنه، ويقطر على وبر قماش المعطف ومن ثم يُخرِج لسانه الصغير برشاقة ليتلقفه. بل إنه يستردّه عن المعطف أو يسترد معظمه مما لم يتشرّبه القماش. كان مشروبنا المفضل عصير الليمون. إنه يعلق على الحنجرة. وتستقر حُبيباته في حُليمات التذوُّق وتنتشر خلف الأنف وتجعل داخل مناطق الفم كلها تخز بالمتعة. أعتقد أنَّ الأفواه تستلذ أولاً بالانتعاش، بإثارة الحياة. كانت أيضاً تُرافقها ملعقة خشب صغيرة مُسطحة، قوية بما يكفي لضغط اللسان وجعله مُسطحاً، وهي مُفضّلة على أداة الدكتور راث لأنها تجعل الناس يقولون آآآآه.  كان ذلك الشراب يفوح برائحة الصيف، على الأقل هذا ما يبدو الآن.

   إنني أحاول، أحاول جاهدة أنْ أتذكّر – ليس لأنَّ لتلك الذكريات أي فائدة – ولكن لكي أتذكّر ما حدث حينئذٍ، تعبيرات وجوه الناس، ما كانوا يرتدون، كيف كنت أرى نفسي، أو أسأتُ رؤيتها، عندما نظرتُ في إحدى تلك المرايا العديدة الطويلة، الحزينة، المبقّعة، الموجودة على واجهات أبواب خزانات الملابس في ذلك المكان المُظلم المتهالك الذي كان منزلنا، مسكننا. إنني لا أتذكّر الكثير خلاف المشروب، الاستمتاع به، وأثواب الكريب والأشياء التي تزحف، وكرة مطاط يضربها كلب حتى كأنَّ داخلها أشبه بدماغ قديم بالٍ يتدحرج. كرة، كلب، دماغ؟

   لم يكن هناك ما يكفي من شوك الأكل في أيام درس الحنطة، وبعض العمال، المتصنعون منهم، كان عليهم أنْ ينتظروا، متمارضين، بينما الآخرون يمضغون طعامهم باجتهاد قبل أنْ يُسلموا أوعية الطبخ البدائية. أه نعم، إنها ترشح. رجل يضعون قبعاتهم على رُكبهم، قبعات من قماش، قبعات مُدببة، وباقات زهر على شكل حزم من القش، كنية اسم غريبة على غرار داولينغ أو ستاك، القليل من الضحك مع الشخير، والكثير من السحر الأسود، بانشي[2] المبهرجة، البُعبُع، الإوز أُدخِلَ تواً إلى حقول الذرة ليأكل البقايا، ويغرز أقدامه السوداء المتشعبة في حاجز من الجذامة ويُتخم نفسه لكي يُصبح ممتلئاً بحلول عيد الميلاد. كان فصل الخريف قد اقترب. وموسم الحصاد. هذا ما أعرفه.

   هذا وكيزان الذرة، تتدفّق، تُصبّ من أنبوب، والرجال منهمكون في استخدام المذراة، والقش يتطاير، وهناك في المطبخ تصدر القرقعة بينما شوك الأكل المغسولة تُعاد إلى الدرج العفِن . شلالات الذرة تلك، المتصلة بصورة ما بالسماء الزرقاء، كما هو حال فضة كأس القربان وفضة كأس التعميد الذي عُمِّدَ به ذكور العائلة، بعد الولادة. فضي وذهبي، مزمور وكشمش، وبروز هذا الأخير، فوائد طحلب كاراغين البحري، تلك المادة الباردة التي كانت تهتز عندما تُنقَر إلى خارج قالبها المموَّج. ارتعاش. كان هناك أيضاً دجاج، يتحرك جيئة وذهاباً بين أزهار الشيخة، وهذه الأخيرة كئيبة، تعلو العشب. الديك يصيح، ملك كل السابقين. فترات بعد الظهيرة تندمج مع أوقات المساء، وفيض من الدموع ومن أجل ماذا، ولِمَنْ؟ ضوء المساء، أحياناً فوسفوريّ، على شكل خيوط، غُزِلَتْ رفيعة، يذوب، يُصهر، كالزيت، كالعسل، مغارف من ضوء، تصل ما بين العالمين، واحد نحمل فيه هراوات، والآخر الذي نصبو إلى الرحيل إليه والذي كانت حياتنا التي نعيشها بأكملها رحلة حج لعينة.

   أعلن أحدهم – داولينغ الثرثار – أنه سوف يُقام ملعب لكرة التنس، ملعب صلب من الإسفلت، وأنه خلال عطلة نصف اليوم الخاصة بأصحاب الدكاكين، سوف يتمكن جابي الضرائب وموظفو المصرف من تزجية الوقت مرتدين ملابس سهرة بيضاء، يدعون الكرة تمر جيئة وذهاباً بينما يقوم أحد الخدم بإحصاء نقاط الرابح والخاسر. وسوف يُحظر دخول المزارعين. وعندما سمع بوس ذلك ألقى خطاباً. لقد كره أنْ يُحطّ من قدره. وتصاعد غضبه، مما جعله يبتلع ثلاثة أقراص مُضادة لعسر الهضم سحقها بعصبيّة بأضراسه. وفاحت رائحة المغنيزيوم من الجوار. أوه يا بوس، ألم يحدث مرة أنْ وصلتَ إلى حافة نوبة غضب مفاجئة، وأنت ترتدي سترتيك البنيتين وقصبتيّ ساقيك البيضاوين مكشوفتين أمام الجميع في مباراة الفلاحة في غلينستال، يوم تلقّيتَ رفسة، تلقّيت رفسة من فرس كُميت ولما لم يكن يضع أي طماق أو gaimbeaux (كساء لكاحل القدم) اضطر إلى رفع أطراف بنطلونه ليبحث عن جراح في حال اضطرّ إلى اللجوء إلى الانتقام بالتلاكم أو استدعاء رجال القانون. قال بوس “اللعنة على التنس، إنها لعبة المخنثين، وغذاء الكتبة”. أنْ يكون معروفاً أو غير معروف، هذه مسألة لا أهمية لها. واهن. غلوكوز. أنْ تقابلوا ولا تقابلوا، كسائقي الدراجات، في أيكة ليلاً، سائقو دراجات ينطلقون في الاتجاهات المعاكسة ويمر بعضهم بالبعض الآخر دون إلقاء التحية، دون أقل حديث، دون صياح؛ لا يتعرف أحدهم على الآخر إلا بقوة أو بضعف أضوائهم الكاشفة، أو أضوائهم الخلفية، أو الفشل في هذه الخاصيات، التي تُميَّز من لمعان أشعة الدواليب أو من الرفرف أو من المقود في الليل الحالك. مجهولة، العديد من لقاءاتنا. حتى الشجاعة منها. خاصة الشجاعة منها. بذور أبي التي نقلتُها إليك، كما حدث ونقلتَها أنتَ إليّ ذات مرة، بشكل ضئيل ـ بشغف، بغباء، بفائدة قليلة. ما الذي جعلنا نقوم بذلك الغزو؟ فخذاها، منسابان وعاديان، الشق، شق الحماقة الذي نقرر أنْ نمرّ منه. أقرب نقطة استطعنا أنْ نبلغها. أنت وأنا؟ أم أنت أو أنا؟ أنت فقط، أنا لم أفعل بعد؟ لقد مررت تواً، وأنت لم تعد تمر؟ ثالوث من الزعران. في جو غربيّ رطب ومظلم. ما الذي أثار تشنجك؟ قمر بدر. قمر هلال، لا قمر، لمسة من الجنون، واجب، مُصالحة، ظمأ؟ أي شيء؟ السلطعون يبتهج في أماكن رقيقة وعاجلة. ربما يتبجَّح أمامها، ويتلفّظ بكلمات فظّة مثل هراء أو حمار أو Oirre[3]. أزمجر أنا لن أتلفظ بها أمامك. أنت أيها المشعوذ. فعلتُ تواً، مع فكرة ملعونة، مع ولع بالعيب والكارثة والذهول، وقد أصبحت متدينة تواً قبل أنْ ألج ذلك المكان المظلم، الرطب العميق الـ seasous (عميق). لا مجال للاختيار.

________________________________________

 

[1] – عناوين أغاني للأطفال .

[2] – البانشي ، في الأساطير الأيرلندية ، روح امرأة عندما تنوح تنبئ بالموت

[3] –  كلمة فظة تشبه الكلمتين السابقتين ، وإدنا أوبراين تعمد مراراً إلى اللجوء إلى مثل هذه الكلمات الغريبة المأخوذة من اللغات واللهجات الأيرلندية والإنكليزية البائدة التي يعود تاريخا إلى ما قبل ألف عام …       – المترجم

*****

خاص بأوكسجين

[1] – عناوين أغاني للأطفال .

[2] – البانشي ، في الأساطير الأيرلندية ، روح امرأة عندما تنوح تنبئ بالموت

[3] –  كلمة فظة تشبه الكلمتين السابقتين ، وإدنا أوبراين تعمد مراراً إلى اللجوء إلى مثل هذه الكلمات الغريبة المأخوذة من اللغات واللهجات الأيرلندية والإنكليزية البائدة التي يعود تاريخا إلى ما قبل ألف عام …       – المترجم


مساهمات أخرى للكاتب/ة: