ذات يوم جميل في منتصف الليل، نهض رجلان ميّتان ليتقاتلا، وتفرّج عليهما رجلان ضريران، وهرع رجلان مُعاقان لإحضار القسيس وصاحت دميتان عجّلوا. هكذا وقع الأمر. رأساً على عقب. مُضاء بالدم، بفتيل من قماش وغشاء قديم. معالم على الطريق، شواهد قبور، حجارة شحذ ومرايا. المرايا ليست للنظر إلى النفس فيها، بل هي لإثارة الدهشة، للتأمُّل. كانت هناك قطعة زجاج حاولنا أنْ نقبض بها على نار الشمس ونحتويها. لابد أنَّ اسمها كان زجاجة الشمس. هناك القليل جداً والكثير جداً. نصف حياة كاملة. شُعِرَ به، شوهد، سُمِعَ، لم يُشعَر به بصورة تامة، وشوهد قليلاً، ولم يكد يُسمَع، ولا يزال في داخلي، يقعقع، كوقع أقدام يتلاشى، أو الكونت دراكولا يمشي مختالاً.
أنا في السرير، المؤلَّف من أربعة مُلصقات جدارية لا أقلّ، مزود بلوحة رأسية مكسوّة بالساتان، وبدواليب. برزت مخالب من تحت السرير، كلها تتنافس لتُصافح، بعضها مكسوّ بقفازات، وبعضها بلا قفازات. وكلما طال صراعي مع النوم جافاني أكثر. إنني أغويه، أناشده. تمرّ لحظات يبدو فيها وشيكاً، لكنه سرعان ما يتلاشى، كتشكُّل سحابة أو كشخص ينطلق على مزلجة. طبعاً مررتُ بأوقات أفضل منها – أيام هادئة، دوائر كبيرة، دوائر صغيرة، رماد ورد، براز، تخريمات شانتيلي، شاي الساعة الخامسة، كعك مُسطح، بذلات جوخ، وصلات تثبيت، كل ذلك. في المعتاد أنا مولعة بالمشاعر، أما الآن، إنني أتعاطف مع المرأة في القطار التي تورّد وجهها خجلاً، بقدر تعاطفي مع المرأة التي تُدعى ليل[2] Lil التي أضجرتني.
في الخارج الجو عاصف. خلال فترات الهدوء أعتقد أنني أسمع نعيب بوم؟ طبعاً أنا دائماً أسمع ضجيج سيارات، هديرها عن بُعد، سيارات تنطلق مسرعة في الليل. من المُحتمَل أنْ يكون هناك بوم بما أننا في ضواحي المدينة وهناك أشجار يأوي إليها. هو أيضاً يصرّ ويئنّ. إنني أحصي الأغنام لكنَّ بعضها يتعثّر في البعض الآخر ولا أرى غير أكفال من الصوف الرمادي، مختومة باللون الأحمر، وكما في حيلة إحصاء التفّاح، هي عابثة، ونشطة. ومع ذلك، يجب تزجية الوقت، ساعات الفراغ، ساعات الراحة، في حبك ما نسل من كُمّ القلق. يا إلهي. ما أطول الوقت، تضع يدك فيه، فتغوص حتى المِرفق، كأنك تضع يدك عميقاً داخل الهاوية. الوقت يمرّ بطيئاً جداً، هذا إنْ مرَّ أصلاً. ومع ذلك، تمضي أعياد الميلاد بسرعة كبيرة، العطاء والأخذ، موجة موسم الميلاد، والإسراف في الشرب تحت نبات الدبق الطفيلي. وحدها الدقائق وعرة.
ذات يوم كنتُ أعرفُ رجلاً يرى الزمن كأرغفة من الخبز، يلتهمها، بنهم، حتى التُخمة، وفقدان الشهية، ويُصبح مُدمناً عليها. وعرفت آخر كان يسحق البيض بيده، حباً بالصوت الصادر، صوت السحق ذاك عندما يفقشه بقبضة يده، ويجعله ككرات من الثلج ويرمي القشر وكل شيء على كل ما يتصادف أنْ يراه. معتوه. قابلتهم كلهم، المعتوهين، الرحّالة، والمثقفين والشعراء بعيونهم المتقرحة يُثرثرون ويترنمون سعياً وراء امرأة. سأذكر المزيد منهم قريباً.
أسدلت الستائر، وأغلقت مصراع النافذة القديم بإحكام، ضماناً لقدر كافٍ من الأمان، كما ينبغي. أخذت قرصاً وكسرته عند الخط الأوسط وابتلعتُ نصفاً، مع بعض مياه تلال مالفيرن. لطالما أحببتُ مذاق مياه الينبوع، المياه الرقراقة وبيض سمك الحفش. أستلقي مع ربي. أستلقي من دون ربي. داخل تضاعيف النوم. أوه يا كونيمارا[3]، آه أيتها التلال البنفسجية الزاهية، إلى أين سأذهب، إلى أين لن أذهب، الآن؟
ليس إلى أي مكان لعين.
أقول سبعة وأعتقد أنه يعني شيئاً ما. الرقم ينزلق عبر الصفحة أو لوح الكتابة أو صفحة السماء الجميلة أو الأرضيّة المكسوة بنشارة الخشب وعلى الرغم من أنه يُخبرني شيئاً ما، كتكلفة نزهة متهورة بالسيارة، وأي فتاة أرافق، وكم تبلغ مسافة الرحلة، أعني الرحلة الفوريّة، إنه لا يُخبرني بما أريد انْ أعرف. وهذا لا يعني أنني أعرف ما أحتاج إلى معرفته. إنني لا أعرف. أنا امرأة، على الأقلّ توصلتُ إلى هذا الاعتقاد. إنني أنزف إلى آخره. وذلك الضجيج، تلك التنهدات، والغمغمات، والتلميحات، والفيوض، والمُغريات، والنعيب، المنبثق مني بإخلاص كالرايات. بالإضافة إلى الأصوات الرعوية، المتحفظة بخبث، ما يطرحه الرحم اختياراً الذي اشتهى العديد الآخرين بالغرغرة، والرهافة، والنغم، والغناء، والتضرع الهذياني الشديد. كنتُ بارعة في ذلك. وكما قلت سابقاً قابلت شعراء ومشتري خردة. على طول الرصيف. حكوا لي حكايات عديدة، وألّفوا العديد من القصص، خدعوني كعهدهم دائماً. غسلتُ لهم أقدامهم، ومسحتها بالزيت، وفكّرتُ، وتلمّستُ طريقي في الظلام ، نظرتُ عالياً إلى النجوم، ميَّزتُ الدب الأكبر ودرب التبّانة، وقلت أشياء شديدة الكآبة.
هناك الكثير من الأرصفة لكنَّ المرء يُخطئها أحياناً ويظنها الطريق الأصلية.
عقدتُ اجتماعات، جلسات سرية، أوقات يانعة، تصادمات مرحة. كلها متوقعة بصورة تُثير الاشمئزاز مثل دو ريه مي فا. أثارتْ التشويش ببساطة، إنه تفقيس فصل الربيع. النعم واللا، البوغي ووغي. النتيجة، ولادة بغيضة أخرى أو ولادة مستعصية أخرى. واسمع، إنها مشكلة عدد سكان. حل. Nota bene (ملاحظة). أمان قضيب من العاج القاسي داخل الفتيات وأخريات لا حصر لهن، أي أنَّ الذكر الإنساني المسكين يرفض، منشور على حبل الغسيل، أبيض، ممتقع، مرِح، مُذعن: يُسقسق، مُعلّق، وربما حتى يرفرف، ربما كعصافير الدوري، أو كجورب، أو كحيوان الكسلان أو كملاقط غسيل مناسبة. المجد لله.
كان لدينا حبل غسيل في أبرشية كوز Coose، بل اثنان في الحقيقة. واحد مُجاور للمطبخ الخلفي، مناسِب للأشياء الصغيرة كمفارش الشاي، والصدريات، وواحد أبعد منه قليلاً، على تل، مفتوح أمام الرياح السائدة، مناسب للأغطية، والملاءات، واللحف العادية، وتلك المحشوة بريش العيدر، وأغطية الوسائد، وأغطية المخدات وسراويل بوس الداخلية الطويلة. مكان رائع جداً فيما يخص قوة الرياح التجارية، والملابس التي ترفرف ومشهد ليل Lil وهي تندفع باستمرار لتستعيد الأشياء بعد أول انقضاض للمطر والبَرَد الرائعين في تواترهما وسرعتهما. يشبه البحر على الرغم من كونه أخضر اللون وفيه أدغال وأزهار حقول مختلفة في أشهر حقول مختلفة. إذن أستلقي هنا وأُفكّر في هناك. اللعنة عليه. وكأنّما لا شيء آخر غيره، وكأنّما لا وجود لشيء آخر. لا أصدقاء، لا أقرباء – بوس، ليل، توتسي والدكتور فلاغلر الاستثنائي. لا نسيان في الداخل، أو الخارج.القلب في خُداره الصغير، متناغماً، وأحياناً متنافراً، وثمة نغمة موسيقية رصينة، إحجام، وأنا دائماً عالقة داخل أحدها، كما تقول أمك، أبوك، زوجك، ابنك، وأنت نفسك. وآخرون أيضاً، ولكن ليس الرعاع، ليس عدداً كافياً من الرعاع. كتبتُ بعض الرسائل المُثيرة للاشمئزاز – ” لقد لمستَ شِغاف قلبي، ولمستَ كسّي. وأنا لمستُ قضيبك ” وما إلى ذلك. ألتهمُ، أُصابُ بالتخمة، أفتري. كل هذه الرسائل الخطيّة احتفظتُ بها لأنَّ التصرُّف بحمق هكذا، دون أنْ أموت في الحال سيكون من أشد ما قمت به من أعمال هزلاً. بل إنني قدّمت طلباً خطياً لكي أُدفَن في جزيرة في أبرشية كوز، وهي مكان كئيب تكتنفه مياه متلاطمة ويحكمه طائرا تم لا يتكاثران. وهذه قضية موجبة تتضمن ارتياح النظام الهرمي وأيضاً بائعة اللحم التي أجّرت حقوق أرض الرعي، AD INFINITUM (إلى الأبد). وتتضمن قبوراً، وتلالاً ترابية، وقناطر، وجلاميد، وبرجاً مدوّراً، وروثاً، وفطراً سامّاً وعجولاً كلها تحفر وتطحن وتمضغ ما تجترّه. لا شك في أنه في أوقات الصباح شديدة الصقيع من الممتع رؤيتها وهي تنفث البخار، كل ذلك البخار المثير يتصاعد، والأزهار المتجمدة وسط الثلوج، وأوراق العشب الرائعة، والومض المُسنن لشواهد القبور والأشواك تطغى عليها كشريط قبعة مُنشّى. ولكن رغبتي في الاستلقاء هناك وأنا عاجزة عن العيش في أي مكان ضمن تلك المنطقة هي مجرد افتراض. لأنني أتخيّل الموت تأليه للوحدة، تخلّصٌ من مقدار أقلّ من الوحدة، جعلتني قوته، وضآلته وقيده أسيرة في بلداتٍ ومدنٍ نسيتُ فيها أنَّ الأرض والمياه الجارية يقعان في مكان ما تحت ذلك التركيب المعقّد الشاسع من الإسمنت والتمديدات الصحية والركام والأعشاب البرية والنفايات والشبكات والخراء. في الشارع العام ذاك تسحق دواليب السيارات الخراء، خاصة الدواليب المُضاعفة لسيارات الشحن والنقل. ودائماً أقول ” أه لو أغوص فيه على الأقلّ، أنْ أقول نعم بدل لا لفساد هذا كله وقذارته التي يمكن لعقها “. وداعاً لأزهار الربيع وللعوالق المائية، وداعاً لطيور السُمنة، والدُجّ، وللسمنة البيضاء. إنها روح شعب ركام الروث، أليس كذلك. وثمة شيء آخر يمكن أنْ يكون قد ترك أثره على قراري بشأن الجزيرة هو نفيها لي. والحقيقة هي أنني لا أريد انْ أستلقي مع صديق أو مع قريب. إنها ضربة أخرى موجَّهة إلى الملك جيمس وإلى اللون الأخضر[4]. لا أريد أنْ أستلقي مع قريب أي شخص آخر أو صديقه. وضربة للملك بيلي[5]. لا رغبة لدي، حتى وأنا أُريِّل على فراش الموت، في أنْ أتكوَّم مع أناسٍ آخرين وأشهد ارتباكهم حولي والعكس بالعكس. فكِّر في الرقّة التي سنُضطر إلى ادّعائها، في التفاصيل اللذيذة التالية، في قعقعة اللسانين، في المُصافحات، في اهتزاز العِظام، لكي نعيش، بسلام نسبي، معاً مدة طويلة، وربما إلى الأبد. ربما. أريد أنْ أكون ذاتي أخيراً وأنْ أتخلَّص من ذلك المرض المتقيِّح، التافه، الذي يُسمونه الأمل. لا أريد أنْ يتذكّرني أحد في اجتماع القديسين أو الآلهة أو أنصاف الآلهة أو الإخوة أو الأخوات أو أي نوع من الإخوة، أو تربطني به أي صِلة، أو قرابة، أو أي نوع آخر من السلالة أو الوراثة أو الرابط البعيد. أريد أنْ أواجه أخيراً. أنْ أنفرد بنفسي. هل أنا جادّة؟ يبدو أنني لست كذلك. لا زلت أستطلع، أبحث عن رفاق، رفاق في الكتابة، رفاق في الحانة، أصحاب من أي نوع، شريطة أنْ يعرفوا مكانتهم، ويبقوا على مسافة مني، ويكبحوا أنفسهم، ويبتعدوا عن روحي، وعن روائحي الكريهة….
_______________________________________________________________
[1] – إدنا أوبراين (ولدت عام 1930) : أديبة أيرلندية ، من أبرز الكاتبات الأيرلنديات والإنكليزيات . تكتب الرواية والقصة القصيرة والمقالة والمسرح . عانت كثيراً من جو التربية الدينية المتزمتة في بلدها أيرلندا من عائلتها . كان الأدب في بلدها مرفوضاً رفضاً باتاً ، وكانت أمها تمنعها من قراءة الكتب الأدبية ، وعندما علِمت أنها تنوي أنْ تكسب عيشها من الكتابة طردتها . بل إنها نُفيَتْ من بلدها كله بسبب امتهانها الأدب وصراحتها المُطلقة في الحديث عن الشؤون الجنسية للمرأة . روايتها الأولى ” الفتيات الريفيات ” صدرت عام 1960 ومن ثم تبعتها رواية ” الفتاة الوحيدة ” (غيّرت عنوانها لاحقاً إلى ” ذات العينين الخضرواوين “) ومن ثم رواية ” الفتيات في نعيم زواجهن ” ، وصدرت الروايات الثلاث كثلاثية ” الفتيات الريفيات ” ، وقد مُنعت الروايات الثلاث فور صدورها . من رواياتها الأخرى وقصصها ” السيدة راينهارت وقصص أخرى ” ، ” مكان وثنيّ ” ، ” امرأة شائنة وقصص أخرى ” ، ” ليْل ” ، ” ضحايا السلم ” و ” آب شهر خبيث ” ولديها مذكرات تحت عنوان ” فتاة ريفية “. في رواية ” ليْل ” التي أُخِذَ منها هذا المقطع ، تعاني البطلة ميري هوليغان الأرق وتستسلم لتيار الوعي من أفكارها وحياتها الماضية والحاضرة ومشاعرها الجنسية في سرد يختلط فيه الزمن والأحداث والأشخاص في دفق ذاتي . – المترجم
[2] – نعلم لاحقاً أنَّ ليل هي أمها العجوز . المترجم
[3] – كونيمارا : منطقة ساحلية قاحلة في غرب جمهورية أيرلندا . – المترجم
[4] – الإشارة هنا هي إلى الكتاب المقدس ومترجمه إلى الإنكليزية جاي بي غرين .
[5] – الملك بيلي : هو اللقب الذي كان شعب أيرلندا الشمالية يُطلقه على الملك وليم الثالث ملك انكلترا . – المترجم
*****
خاص بأوكسجين