لحم وخطابات
العدد 189 | 27 نيسان 2016
جون برجر


” لقد بُهتَ الجميع . شاهدنا ضوءاً وامضاً وحسبنا أنَّ حريقاً سيندلع . في أول الأمر لم نتمكن من فتح باب العربة ؛ عندما خرجنا ، شاهدنا في النفق أناساً مُصابين بجراح خطرة ” . تلك كانت كلمات لويتا وورلي ، مسافرة على متن قطار “سيركل لاين” المتوجه إلى “ألدغيت” ، قُبيل الساعة التاسعة صباحاً ، يوم الثلاثاء السابع من شهر تموز[1] .

   الموجودون في النفق هم في وقت واحد آمنون وعاجزون . والأنفاق هي سبل للهرب وأفخاخ رهيبة . والغبار يخنق عندما تُسدّ الأنفاق .

   إنَّ نسف أولئك المتوجهين إلى مراكز أعمالهم في الصباح الباكر عبر وسائل المواصلات العامة يعني مهاجمة العزَّل خلسة بشكل مُشين . والضحايا يعانون آلاماً أكثر ، ولمدة أطول بكثير من الانتحاريّ الذي ينسف نفسه . وتلك المعاناة تمنحهم حتماً الحق في أنْ يُطلقوا الأحكام .

   بينما يهرع الآخرون ، كالسياسيين ، (من غلينيغل إلى لندن) لكي يتحدثوا باسمهم ، في حين أنهم يخدمون أغراضهم الخاصة ، التي تتضمن تبسيطات مثيرة للاشمئزاز ، واستخدام عبارات الغرض منها بث التشويش عن عمد ، وفوق ذلك كله ، محاولة لتبرير أنفسهم وماضيهم – مهما بلغت فداحة الأخطاء التي ارتكبوها .

   حتى براءة الألم والحزن اللذين جاؤوا لكي يُخففوا عنهما ويواسوهما لا تدفعهم إلى التوقف برهة ، إلى التردد .

   ” أبقيتُ عينيّ مُغمضتين وفكّرت في الخارج . كان الوضع مُخيفاً لأنَّ الأضواء كلها أُطفئت ولم نعد نسمع أي شيء من السائق ، وتساءلنا ماذا حدث له ” (فيونا ترومان[2] – على متن قطار بيكاديللي لاين)

   أثار هدوء أهالي لندن ، الذين عانوا الحنق الذي أثارته الانفجارات ومحنة انتظار أخبار أحبائهم الذين يمكن أنْ يكونوا هناك (ذلك الصمت الحادّ كالشفرة التي تمرّ بين فلقتيّ القلب) ، إعجاب العالم المُشاهِد ، كما كان قد فعل هدوء أهالي مدريد في العام السابق . إنَّ مثل ذلك الهدوء يبثّ الشجاعة ، والصفاء المفعمين بالأمل ، وفوق ذلك كله التفكير الدقيق . في إسبانيا تسمح الظروف بحدوث هذا ، وكان أحد أعمال الحكومة المُنتَخَبة حديثاً هو سحب القوات الإسبانية من الحرب في العراق ، الحرب التي كانت الغالبية العظمى من الشعب الإسباني تعارضها بشدّة .

   في لندن ، على الرغم من الفشل الواضح لتلك الحرب في إحداث أي شيء خلاف العماء والدمار لدولة ادَّعت بأنها تُحرّرها، فإنَّ الأعمال الوحشية التي عاناها الشعب بأسلوبه المتواضع في العمل زادت من عناد رئيس الوزراء والحكومة ، الذي أقحم البلد المُحتجّ في حرب لا لزوم لها .

   في صباح اليوم الذي وقعت فيه الانفجارات ، أعلن بلير ، من مقره في داوننغ ستريت : ” [إنَّ الإرهابيين] يحاولون أنْ يستخدموا ذبح الأبرياء لترويعنا ، لإخافتنا وثنينا عن القيام بالأمور التي نريد أنْ ننفذّها ، لمنعنا من إنجاز عملنا … “

   إنَّ الذين يقولون إنَّ القاعدة كانت ناشطة قبل غزو العراق ، ولذلك فإنَّ القتال الدائر في بغداد أو الفلوجة لا صلة له بتفجيرات لندن ، يضمرون سوء النيّة . وسوء النيّة هذا نفسه الذي شجّعهم على الكذب بشأن أسلحة الدمار الشامل التي لا وجود لها . لقد كان بن لادن حتماً يُخطط لشن عمليات هجوم على الغرب قبل نشوب الحرب العراقية ، لكنَّ تلك الحرب ، وما حدث ويحدث هناك ، يزوّد القاعدة بدفق متواصل من المنتسبين الجُدُد . ويُقال إنَّ إليزا ماننغهام بولر ، رئيسة الـ MI5 (المخابرات العسكرية ، القسم الخامس) ، أنذرت باقي مجموعة الدول الثماني الأخرى بشأنْ خطر ” نشوء جيل جديد من المتطرفين نتيجة الحرب في العراق ” . ويمكن افتراض أنها تعرف ماذا تقول .

   لقد خُطِّطَ للقيام بالأعمال الوحشية بحيث يتزامن مع اجتماع الدول الثماني العظمى في عام 2005 ، الذي كان رئيس الوزراء البريطاني يترأسه . وما حدث في ذلك الاجتماع ليس قصة مختلفة بل يشكل جزءاً آخر من القصة نفسها . في هذا السياق ليس القرآن ما ينبغي دراسته ، بل سلوك الدول والشركات الأكثر ثراءً في العالم . إنَّ تلك الشركات تشن باستمرار هجماتها ” الجهادية ” الخاصة على أي هدف يتعارض مع ذروة أرباحها .

   لقد حُذِفَ موضوع الحرب في العراق من جدول أعمال الدول الثماني العظمى لأنَّ ذلك يناسبها . والأولوية المُتَّفَق عليها كانت الوصول إلى اتفاق ما حول العمل لمواجهة الارتفاع الكارثيّ في درجة حرارة الكوكب ، وفقر قارة إفريقيا .

   قبل انعقاد ذلك الاجتماع ، ناشدت أصوات من أنحاء العالم أجمع – من علماء اقتصاد ، ومغني روك ، وعلماء بيئة ، وموسيقيين ، وزعماء دينيين – باسم الضمير والتضامن من أجل اتخاذ قرارات جديدة وغير مسبوقة ، من أجل إجراء تغيير يمكن أنْ يُحسِّن فرص الكوكب في المستقبل . وماذا حدث ؟ بعد أنْ تخوض في البلاغة ، كالباحث في القمامة : لا تجد شيئاً . بعض التلاعب بعلم الإحصاء . ولكن على مستوى الباحثين في القمامة – لا شيء . لماذا ؟

   إنَّ التطرُّف ينشأ من أي شكل من أشكال العمى الإرادي الذي يصحب سعي مبدأ واحد . ومبدأ الدول الثماني العظمى هو أنَّ تحقيق الربح يجب أنْ يكون مبدأ الإنسانية القائد ، الذي يجب أنْ يُضحّى لأجله بكل شيء آخر بدءاً بالماضي التقليدي أو المستقبل الطموح بوصفهما وهماً .

   إنَّ ما يُسمّى بالحرب على الإرهاب ما هو في الحقيقة ألا حرب بين عقيدتين متطرفتين .

   إنَّ الجمع بين الاثنين يبدو مشيناً . فأحدهما يرتكز على الدين ، والآخر يقينيّ ومدني . أحدهما هو الإيمان المتقد بالأقليّة العاجزة ، والآخر هو الإيمان الحتمي بالنخبة غير المتبلورة ، الواثقة من نفسها . أحدهما ينطلق  ليقتل ، والآخر يسرق وينهب ، ويغادر ويدع الآخرين يموتون . أحدهما متشدد ، والآخر متراخ . واحد لا يطيق إجراء أي نقاش ، والآخر ” يتواصل ” ويحاول أنْ ” يتسلل ” إلى كل ركن من العالم . واحد يطالب بحقّه في إراقة الدم البريء ، والآخر يُطالب بحقّه في بيع مياه الأرض برمّتها . ما أبشع المقارنة بينهما !

   ومع ذلك فبشاعة ما جرى في لندن على متن قطار بيكاديللي لاين ، وسيركل لاين والحافلة رقم 30 كانت بليّة وقعت على رؤوس الآلاف من الضعفاء ، الذين يكافحون من أجل البقاء وليُضفوا معنى على حياتهم ، بعد أنْ وقعوا لسوء حظهم وسط تبادل نيران عالمي بين تينك العقيدتين المتطرفتين .

   كتب الشاعر كيتس فقال : ” إنَّ المتطرفين لديهم أحلامهم التي ينسجون منها جنّتهم الطائفية ” . إنَّ كل الذين لا ينتمون إلى أية طائفة سوف يختارون الحياة ، وليس جنّة ، ولكن فوق الأرض ، معاً .  

 ________________________________

[1] – في هذا التاريخ وقع انفجار على خط بيكاديلي لاين في لندن .

[2] – فيونا ترومان كانت إحدى الناجين من انفجار ذلك القطار .

*****

خاص بأوكسجين