لاذقية مصطفى يوزباشي
العدد 273 | 14 تشرين الأول 2022
شادي خرماشو


 

بدأ الأمر باسم “زينة”… تلك الطفلة الجميلة بوجهها البريء الوضّاء، وسؤال: “بتعرفي مين غنى لك يا زينة؟”

“مروان أدهم (زينة الحلوة زينة)”.

“لا، ليس مروان أدهم، اسمه مروان بيبي، من اللاذقية!” يصحح والدها.

“لا أعرف!”

“أنا متأكد!”

“هل تذكر مصطفى يوزباشي؟”

صمت. ويتغيّر الحديث.

وفجأة تتردد أغنية “لما بسمع صوتك بنسى”… يشغّلها والدها الماكر!

وتبدأ الأغاني تتوالى، والذكريات تتداعى، والصور تحتشد ليختلط الفرح بالحزن، والنشوة بالأسى.

وكلما بدأت أغنية جديدة، وبتلقائية فرِحة، نبدأ بترديد كلماتها مع مطربها شاعرين بالانتصار لمعرفة الكلمات.

“ليش هيك يا أبو صطيف!؟”

هاجمني السؤال.

لماذا أعدت رسم اللاذقية بصورتها الحية بعد أن تقبّلت موتها؟ وكأن كلماتك نبتت من رحمها،

من شوارعها الفوضوية،

من كورنيشها الذي لا يطل على بحر،

من أفواه عشاقها الذي يبحثون عن الألم في رداء حب لا طائل منه!

وكأنك سرقت ألحانها من خفة شخوصها،

من الشعراء المتسكعين في أزقتها،

من السكارى الذين لا يفوّتون صلاةً فيها،

وينتظرون مجيء رمضان، ورحليه، بفارغ الصبر،

من رواد مسرحها الفقراء والفارغين إلا من الحب وكلماته،

من أشجارها المهملة التي لم ينجح الإهمال في مسِّ جمالها.

وكأنك قبضت على إيقاعها الرتيب، إيقاعها الخجول الذي يتستّر خائفاً في ثنايا اللحن.

 إيقاع مدينة لا يفتر ولا يتصاعد، ومن فيها أبوا أن يبدّلوا تبديلا، ومع ذلك كان جميلاً قبل أن تشوهه الطبول والمزامير، وتحوله إلى شعارات صاخبة وضجيج تُعقد على وقعه حلقات دبكة عفوية بالإكراه.

كانت اللاذقية حلوة في أغانيك، حلوة بكل تشوهاتها… تلك “اللاذقية” التي كنت أرى عيوبها أشبه بـ”حولة حُسن” تُبرز جمالها.

الآن ذهب الجمال وتعمّق التشوّه يا مصطفى!

ذهب الحُسن وبقيت الحولة.

ولكن، أين أنت الآن؟

هل ما زلت “ناطر الأيام” هناك؟

أنا يا عزيزي لم أطق الانتظار أكثر فرحلت.

لم يسعفني النسيان فعاقبني الصدى.

هل ما زلت تحفر الأسماء على الجدران العتيقة؟

أما أنا فقد طليت الجدران ومحوت الأسماء…

كسرت الدفّ وبطّلت الغناء!

وماذا عن “رفيقة الدرب الطويل”؟

هل ستقول لها “مستحيل” إذا عادت إليك الآن؟

لن تقولها! أراهن على ذلك، فلم يبقَ من الأصدقاء والأحباب أحد. ستسامحها، ستنسى كل ما فعلت، فكل أخطائنا وخطايانا القديمة سقطت أمام هول ما حدث…

هل ما زالت دموعها “مثل نجوم الليل” في تلك الظلمة التي أطبقت على المدينة كلها… مدينة بات أجمل، وأقبح، ما فيها الآن، حاضرها المحكوم بالأمل.

حتى دموعها الباهرة لن تُنير هكذا عتمة.

هل لك عين أن تغني “شوفوا بلدنا وحبوا بلدنا” الآن؟

أياك! فقد شاهده كل العالم ولم يحبه أحد.

وعلى من سيسلّم القمر بعد ما حدث؟ وهم لم يتركوا لي من القمر سوى قداسته الكاذبة وشحوبه الموسوم بالوحدة، ومن الشمس سوى رمزيتها الفارغة وقسوتها الحارقة، ومن الغيوم سوى برد يصاحب حضورها… برد ما من شيء يحترق ليحرقه!

لطالما سرت وحيداً أغني “نام يا قلبي” علّه ينام ليصحو!

كنت أحزن وأغضب معك، وأختنق شاعراً بالمدينة تعاقبني بجمالها واختلالاتها.

كنتُ منبوذاً أعزي وحدتي بوحدتك.

كنت حزيناً أعزي وجعي بألمك.

كنت حالماً أشفى من الواقع من خلال ألحانك.

أذكر تلك الرحلة بصحبة رفاق الجامعة إلى جبال المدينة، يومها أمضينا طريق العودة ونحن نستمع إلى “داويني بنظرة عين” و”تسلملي” و”تعالي نتمشى” لتُطبق علينا حالة عشق غريبة، ويسكننا حب غير مبرر ويعود كل منا بابتسامة طفيفة على وجهه.

أسمعك وأردد في ذاتي “ما بقي لي منك” سوى تلك الأماكن الموسومة بالخلود، أزقة جامعة تشرين وخباياها التي عبثتُ، وعُبث بعقلي، فيها… سوى حدائقها الأسطورية التي أعلم أنها باتت خراباً… سوى ذكرى قُبلات سرقتُها متستراً بشجيراتها ومتذرعاً بالفقر والشعر والرغبة في ارتكاب قصة أسردها غداً… بغصة!  

أستمع وأسترجع ما حدث بسرعة خاطفة، لأرى جمال ما مضى، وقسوة ما أتى…

اللاذقية الهاربة من الخارطة والحسابات، المجردة من أي اعتبار، استمرت على حالها… في أغانيك وحسب.

لم يعد فيها الآن ما يبرر وجودها… تلك الومضات البسيطة من الانتماء التي كانت تكفي لأحيا شبه حياة، ونصف حب، وفواصل فرح.

 لا أعلم أين أنت الآن، وما إذا كنت تتابع الغناء. لا بد أنك كذلك، لكنني أخشى أن أسمع جديدك!

أخاف أن يكون شبيها بمدينتك بصورتها الحاضرة…

وأغلب الظن أنه كذلك.

ربما يكون في هذا ظلماً لك، لكنه منصفٌ لي، أنا الجبان الذي نفذ بجلده، وهرب منها حاملاً صورتها التي رسمتَ بعضاً منها في أغانيك.

مظلوم أنت مثلها، ومثلها لم تأخذ حقك. لم تحظَ بما تستحق إلا على نطاق ضيق لا يتجاوز حدودها إلا من خلال أصدقائك، وجيلنا نحن الهاربين.

تصوّر أن هناك من يظن أنك لم تغنِّ سوى “اشتقت لعيونك”!

كم هذا مجحف! أنت الذي في جعبتك عشرات الأغاني، نصفها، إن لم يكن أكثر، أجمل من تلك التي التصق اسمك بها… وانتهى!

 وددت أن أكتب شيئاً من الفرح، من التفاؤل، من التجرد حتى، لكنني محكوم بالواقع الآن، وبنغمة الحزن والحرمان في أغانيك…

أنت أيضاً حاولت أن تفرح في بضع أغانٍ، لكنك فشلت، فكل فرحة خفيفة في أغانيك مشوبة بحزن ثقيل.

هل هو ألم شخصي، أم كنت تحاكي روح مدينتك؟

الاثنان معاً أغلب الظن…

وكلاهما أثمر.

لا أريد أن أثقل عليك وأحمّلك فوق طاقتك، فكل ما كتبته لك كان نتيجة لحظة من الشرود، ودمعة كُبِتت وفرحة انطلقت.

 

*****

خاص بأوكسجين