كوهين رحل… وترامب انتصر
العدد 203 | 29 تشرين الثاني 2016
سمر برينان


حدث ذلك يوم الأربعاء!

شعرت بأنني لم أعد قادرة على التنفس، وكان الظلام يقبض علي من كل اتجاه. خرجت لأتنزه تحت مطر الخريف الخفيف. حملتني قدماي إلى المعبد. لست مؤمنة أو ملتزمة دينياً، لكن المساء كان رمادياً كئيباً أطبق على صدري، وكنت بحاجة إلى من يحنو علي، بحاجة إلى أن أتلطف بمدينتي وأن تتلطف مدينتي بي. كنت أشعر بإحباط لم أشعر به من قبل. شعرت بأنني محرومة… محرومة من الكلمات، محرومة من القوة، محرومة من الوسيلة. تذكرت ليونارد كوهين كم كان مصيباً عندما قال: الكل يعرف أن الحرب قد وضعت أوزارها. الكل يعرف أن الطيبين انهزموا.

 

بالكاد كنت قادرة على أن أتمالك نفسي إلى أن رأيت صورة نشرتها شقيقتي لابنتيها. الصغرى لم تتجاوز الست سنوات والكبرى في الثامنة، وبدا على هذه الأخيرة أنها كانت تبكي قبل أن تُلتقط لها الصورة، لكن ها هي الآن تبتسم بشجاعة لأمها الواقفة وراء الكاميرا وعيناها تشعان بالأمل. كانتا رقيقتين جداً… طفلتان بجسدين هشين وقلبين بريئين. أقسمت شقيقتي بكل ما لديها من قوة خارقة خصّ بها الله الأمهات أن تحميهما وأن تدافع عنهما بعد أن أدار وطننا ظهره لبناتنا. شعرت بحافز يدفعني للقيام بشيء ما، بشوكة في خاصرتي تمنعني من القعود، لكن الحزن أرخى بظلاله على قلبي فأقعدني.

 

كنت قد غادرت المنزل لأشارك في الاحتجاج، لكني اكتشفت أن هاتفي قد لفظ أنفاسه، ولأنني عدمت الوسيلة للتواصل مع الأصدقاء الذين كنت سألتقي بهم، قررت ألا أمضي في ذلك وحدي. وبدلاً من ذلك ذهبت لشراء كتاب. وأنا في طريقي إلى متجر الكتب، قررت أن أبتاع عشاءً لذلك الرجل الذي يبقى طوال الوقت جالساً على كرتونة البيض أمام المصرف، والذي لم يبقَ في فمه أي سن يعض به وعليه. سألته عن أحواله، فأخبرني أن كل شيء عال العال. ابتسم لي بحرارة وصدق. تذكرت كم كان ليونارد كوهين مصيباً عندما قال: حتى البؤس تعكّره أحياناً أقواس قزح.

أجد نفسي في الفترة الأخيرة أتحدث كثيراً عن ليونارد كوهين، خاصة بعد فوز بوب ديلن بجائزة نوبل مؤخراً. لا يختلف اثنان على أن بوب ديلن كاتب أحدث ثورة وأصبح رمزاً في عالم الشعر الغنائي، لكن كوهين هو من امتلك قلبي بموسيقاه الرقيقة المتوحشة، والفاحشة التقية، وصوته المسكون بتلك البحة الحميمة لعاشق أمضى الليل بطوله وهو يتحدث إلى حبيبته… عاشق رآكِ عارية لأول مرة واكتشف كم هو جميل وساحر هذا العري. عرفت موسيقاه أول ما عرفتها من خلال أول حبيب صادق في حبه لي. وعندما غادر هذا الأخير حياتي هكذا بدون مقدمات في عمر الـ27، عزفنا هذه الأغنية في جنازته:

اقرع الأجراس التي لا تزال قادرة على الرنين

لا تهتم بذاتك المثالية

صدع… هناك صدع في كل شيء

هكذا يتسلل الضوء  

ذهبت ذات مرة في رحلة استمرت شهراً قضيته في ملاذ بوذي للتأمل بعد عام كان عصيباً في حياتي، وهو شيء، للعارف بحياة ليونارد كوهين، كوهيني جداً، إذا جاز التعبير. كنت أتوقع أن أشعر بسلام وسعة بالغين، لكنني وجدت نفسي عوضاً عن ذلك جالسة طوال النهار على وسادة  والشياطين تحيط بي من كل اتجاه. لم أكن مستعدة لذلك الحشد من الظلال الذي أتى ليجثم على صدري. احتملتها دقيقة بدقيقة، وساعة بساعة، وكنت كل يوم صباحاً أسير صاعدة سفح تلة ندية. كنت في كاليفورنيا، وكان العشب نضراً ومزداناً باخضرار شباط تحت سويقات النبات الرمادية اليابسة الصامدة من الصيف المنصرم. وأثناء مسيري غالباً ما كنت أجد نفسي أترنم وأغني بصوت لا يكاد يُسمع أغانيَ يظن من يسمعها أنها مزامير تغنيها فتاة مؤمنة، لكن كوني طالبة سابقة في كلية الفنون الحرة كان ما أغنيه أشبه بصلاة لا يؤديها إلا طالب فن انفطر قلبه:

آهٍ ملائكة الرحمة

لم يبرحن لم يذهبن

كن هنا في انتظاري

عندما ظننت أنني عاجز عن الاستمرار

غلفنني بمواساتهن

وبعدها

ألهمنني هذه الأغنية  

 

لم يكن ليونارد كوهين خائفاً أبداً من ظلامكم. بل واجه هذا الظلام بما يحمله من نِعم الجنس والضحك والبرتقال. وبالرغم من الحزن الصِرف الذي اشتهر به، لم تكن موسيقاه حزينة أو باعثة على الاكتئاب بالنسبة إلي. لكن عندما يتعلق الأمر بشدة  الظلام في هذا العالم فهي لا تكذب ولا تجمّل، بل تسرد الحقيقة كما هي. وبالحديث عن الظلام، كيف بعد ذاك الأربعاء الأسود الذي قبض فيه الظلام على الكون سيتسلل الضوء من جديد!؟ ليونارد كوهين لفظ آخر أنفاسه الطاهرة، لكن لا أحد منا كان يعرف ذلك بعد!

مضيت إلى متجر الكتب وابتعت كتاباً عن الأشجار. بعدها خرجت من جديد لأسير تحت المطر الخفيف في شوارع معتمة مفروشة بأوراق الخريف. هكذا حتى وصلت إلى معبد كان بابه الجانبي مستطيل الشكل أصفر اللون مشرّعاً. فكّرت في جملة بيرتولت بريخت التي كانت تخطر في بالي كثيراً مؤخراً وكأنها لازمة لا تفارقني: هل ثمة من يغني في الأوقات العصيبة؟ أجل ثمة من يغني… يغني عن الأوقات العصيبة.

دخلت وجلست على أحد المقاعد. صلاة دينية مشتركة كانت تُعقد. كاهن باكٍ كان يتحدث عن العنف. قال إننا سنحتاج إلى شيء أكبر من نظريات نبذ العنف لنكافح ذلك العنف المتأصل في الثقافة السارية في وقتنا الحالي… نحن بحاجة إلى عنف يكافح العنف، هذا بالرغم من أنه لم يكن يعلم تماماً ما سيكون عليه الحال في هذه الحالة. حاخام سحاقية حكيمة احتضنت الحاضرين فرداً فرداً. رجل غنّى وعزف على غيتار بحزام مزدان بألوان قوس قزح. صحفي بكى وقال إنه يعمل في مهنة لا مفر من ارتكاب الذنوب عند ممارستها في هذا الكابوس الذي لا نهاية له. الكل كان مذعوراً. كانت تلك الذكرى السنوية الـ78 لكريستال ناخت أو مذبحة ليلة الزجاج المكسور. الكل بكى وشبع بكاءً. أنا بكيت أيضاً. في النهاية جلست قرب امرأة كانت تشعر كما شعرت أنا بداية هذا اليوم، بدت متخبطة مضطربة وكأنها تغرق. استمعت إليها لبعض الوقت، فما كان منها إلا أن سألتني ما إذا كنت أعمل حاخاماً… كان هذا الخلط الأكثر إطراءً الذي تعرضت له في حياتي المهنية.

ليس الإيمان ذاك الشيء “الكول”، وفي معظم فترات حياته، وعلى الرغم من صورة الفتى الشقي التي التصقت به، لم يكن ليونارد كوهين كذلك أيضاً. أتحدث هنا عن الدمج الموسيقي وأصوات المغنين المساعدين. أتحدث هنا عن الجدية والإصرار، عن حقيقة أنه لم يكن من غير الشائع أن يتم تكريمه كشاعر أغنية أكثر منه كمغنٍ، أو أن تسمع الناس يقولون أنهم يفضلون موسيقاه وأغانيه بصوت مغنين آخرين: روفوس واينرايت عندما غنى هللويا ونينا سيمون عندما غنت سوزانا، وجودي كولينز التي غنت جان دارك وأداء The Walkmen لأغنية The Old Revolution. لكنني أختلف معهم. صحيح أن كل هذه هي نسخ ناجحة من أغاني كوهين، لكنني لطالما أعجبت بإخلاص ليونارد كوهين وتفانيه، حتى في الأسلوب الذي اعتمده في منتصف حياته المهنية، مثل الدمج وغيره، والذي قد يعتبره البعض محرجاً. نعم قد يكون في ذلك شيء من الابتذال، لكن في مواجهة عالم مسكون بالرغبة في أن يكون “كول”، الجدية الدونكيشوتية هي بمثابة ثورة.

في طريقي إلى المنزل عائدةً من المعبد، توقفت عند كشك الوجبات الجاهزة القائم عند زاوية الشارع. رأيت هناك كومة من أعداد صحيفة نيويورك دايلي نيوز وعلى صفحتها الأولى صورة للبيت الأبيض، وعلم أمريكي مقلوباً رأساً على عقب كُتب فوقه: “بيت الرعب”. الباب الرابع من الفصل الأول من دستور علم الولايات المتحدة الأمريكية يُفيد بأن صورة العلم المقلوب هي دلالة على كارثة قريبة وخطر وشيك على حياة الشعب أو ممتلكاته، لكنها ذكرتني بالصليب المعكوس! هذه أمريكا المسيح الدجال، أمريكا الشيطان… استحضرت في ذهني صورة الكاهن وهو يبكي. اشتريت طعامي، والفتى اليمني المسلم الذي يعمل في كشك الوجبات الجاهزة كان بالغ اللطف معي، وأنا عاملته بالمثل أيضاً. لا أعرف كيف أشرح هذه الصورة بصورة أخرى.

كنت قد حضرت حفلاً موسيقياً لليونارد كوهين منذ بضع سنوات، وكان ألطف فنان رأيته في حياتي. كان يتحلّى بتلك المراعاة النبيلة لرغبات الجمهور. وفي نهاية الحفل شكر بإسهاب تقنيي الصوت فرداً فرداً وبالاسم. وقتها كان قد بلغ الـ78 لكنه كان يتحرك بخفة ورشاقة في أرجاء المسرح وكأنه عاشق في عز شبابه. في لحظة تراه جاثماً على ركبة واحدة، وفي اللحظة التي تليها تجده ينحني بين مقاعد المتفرجين كشاب غندور. رمى قبلة إلى الجهة التي كنت أجلس فيها. وكأنه اشتم رائحة خوف في حبنا المفرط له، فما كان منه إلا أن قال شيئاً من قبيل: “بربكم يا جماعة، أنا لم أمت بعد.”

نعم، كنت بحاجة إلى من يحنو علي، بحاجة إلى شيء أؤمن به، أي شيء! ومن يقول ذلك؟ أنا! أنا من يُفترض أنني خالية من أي ذرة إيمان، وها هي مدينتي في غضون بضع ساعات تجمعني بحاخام وكاهن وصحفي حزين وفتى لطيف وشخص جعلني أشعر بأنني قادرة على تأدية خدمة لأحد ما. يبدو الأمر وكأنه بداية نكتة سخيفة، نكتة تدور حول كاهن وحاخام وصحفي، ولكنني شعرت بذلك وكأنه نعمة من السماء. لكنني أظن أن كوهين كان ليقدّر النعمة ويضحك على النكتة في آن معاً.

بتشجيع من الحاخام عدت إلى المعبد مرة أخرى مساء يوم الجمعة. على عكس المجموعة الصغيرة التي كانت مجتمعة يوم الأربعاء، كان المعبد ممتلئاً عن آخره هذه المرة. بدأ الحضور يغنون بالعبرية، بعد ذلك قام قائد جوقة الترتيل بتسليمنا ورقة كُتبت عليها كلمات أغنية هللويا لليونارد كوهين.

فعلت ما في وسعي

ولم يكن بالشيء الكثير

لم أشعر فحاولت أن ألمس

قلت الصدق: لم آتِ لأخدعك

وبالرغم من ذلك سار كل شيء بشكل خاطئ  

سأقف أمام رب الأغنية

وعلى لساني لا يوجد إلا كلمة واحدة

هللويا

بعد ذلك طلب منا الحاخام أن ننظر إلى الورقة الموجودة على ظهر كتب صلواتنا لنجد كلمات أغنية “أمريكا الجميلة”. بدموع تنهمر على خدود معظم الحاضرين غنينا عن جمال طبيعة وطننا، و”عظمة جباله الأرجوانية”. غنينا عن “تتويج طيبتك بالتآخي” والأبطال “المشهود لهم في نضالهم من أجل الحرية”. غنينا عن إصلاح “كل خطأ” ارتكبته أمريكا، وعن “تطهير روحك بضبط النفس، وحريتك التي يضمنها القانون.”

اليوم يصادف الأحد، وهو اليوم الخامس على التوالي الذي أستيقظ فيه باكية. أنا فوضى يتشابك فيها الخوف والإيمان والظلام وليونارد كوهين. نحن أمريكا. نحن مكسورون. نحن هنا نحن هنا… ونحن كما نحن رائعون. لا أعلم ما الذي سيحدث غداً في وطني، لكنني أعلم أننا، نحن المكسورين الرائعين، يجب أن نجمع كل ما تقع عليه أيدينا من أجراس، ونقرعها ونقرعها ونقرعها…

____________________________________________________________________

عنوان المقال كاملاً ” كوهين رحل، وترامب انتصر، ونحن سنغني عن هذه الأوقات العصيبة” وهي منشورة في موقع “ليتراري هاب”

*****

خاص بأوكسجين