كما في الأفلام
العدد 268 | 05 كانون الأول 2021
عائشة أحمد


 

أطفأت منبه الساعة في هاتفها قبل أن يبدأ رنينه.

لم تنم طوال الليل. غفت لنصف ساعة ربما، وربما أقل. عيناها جافتان وحلقها كذلك. تقلبت في الفراش وتطلعت إلى الجهة الأخرى حيث الجسد الفتي المعافى مستغرقاً في نومه الحلو. المسكين ظل هو أيضاً أثناء الليل متأهباً، يفز من أدنى حركة تقوم بها، يقترب سريعاً ليحيطها بذراعيه وكأنها ستقع على الأرض في أي لحظة، كطفلة تعلمت النوم في فراشها الخاص من غير قضبان منذ أيام فقط. كتمت ضحكاتها أكثر من مرة، لكن لفتته تلك –وإن كانت دون وعي منه- أسرتها.

 

أشعلت ضوء الأباجورة بجانبها، واقتربت منه. كم بدا بريئاً تحت نورها الناعم، بملامحه اللينة وابتسامة رضا تعلو شفتيه الممتلئتين، غارقا في أحلامه. لم يهن عليها إيقاظه، لكنها لا بد أن تغادر. وضعت يدها بحذر على كتفه القريبة، نطقت باسمه؛ اسم له وقع غريب، بالكاد تعرفت على صوتها وهي تناديه. مرة واثنتان، وفي المرة الثالثة صحا فزعاً، “ماذا هناك؟ أنتِ بخير؟” لم تتمكن من السيطرة على نفسها هذه المرة وضحكت بصوت عال. ردت بأنها “بخير جداً” لكنها تريد العودة. فرك عينيه المسهدتين، وتثاءب مرهقاً. ألقى نظرة إلى هاتفه وسألها إن كان لديه متسع من الوقت ليأخذ دشاً سريعاً، أومأت موافقة واتجهت نحو الطاولة حيث طوت ثيابها بعناية ووضعتها هناك ليلة أمس.

 

دخل هو الحمام بينما أخذت هي ترتدي ملابسها ببطء في ظلمة الغرفة، والشمس لما تشرق بعد، ولا شيء غير هدير البحر من وراء النافذة المغلقة يصلها، يطغى على وشيش ماء الدش وعلى زقزقات العصافير المبكرة، وعلى كل شيء آخر.

 

فتحت زجاج النافذة أولاً، ثم الشيش الخشبي، لفحتها موجة باردة، اقشعر لها بدنها. أخافها مرأى المحيط العظيم في سواده. أغلقت الزجاج بعد لحظات، وارتدت سترتها الخفيفة لتمدها بشيء من الدفء. أشعلت نور المدخل، وجلست على طرف الفراش، متأملة انعكاس صورتها على مرآة التسريحة أمامها. في ذلك الضوء الباهت لم تتعرف على نفسها وهي في سرير غريب؛ في غرفة فندق مزروع على أطراف الأطلسي، وفي بلدة صغيرة ونائية؛ وفي الحمام على بُعد خطوات منها، رجل غريب، يدندن بلغة غريبة وهو يستحم.

 

أزعجها أنها لن تستطيع أن تغسل أسنانها، مررت لسانها على أسنانها الأمامية، وقربت كفها اليمنى من فمها وزفرت، تشممت الرائحة ولم تعجبها، فلجأت لحبة حلوى احتفظت بها في حقيبة يدها، وبمجرد أن مدت يدها للحقيبة الصغيرة التي لها شكل فُلْك سفينة، تذكرت حلمها: كان هو معها في السرير وليس هذا الغريب، استيقظ من نومه متألماً، يشتكي من وجع ما، وخفت هي إلى حقيبتها هذه لتستخرج منها حبة دواء مسكن، ولكنها ما عادت تذكر نهاية الحلم. حتى وهي تنام مع رجل آخر يجيئها طيفه في المنام.

 

 

***

 

 

الفندق المُشيّد على طراز منتصف القرن الفائت له بهو واسع فخم وسقف عال، وممرات طويلة ممتدة بغرف على كلا الجابين. لما دخلته أحست أنها في فيلم قديم، ظنت أن عماد حمدي سيخرج فجأة من وراء أحد أعمدة المرمر، وبيده سيجارة، لتتبعه فاتن حمامة في فستان سواريه بطبقات تّول مسدلة وتصدر حفيفاً مُحبباً كلما مست الأرض.

 

قال لها الرجال على طاولة الاستقبال إنهم ما عادوا يسمحون ببناء الفنادق على هذه المقربة من المحيط. طلب وثائق تعريفية. لم تفكر بهذا عندما عرضت عليه أن يعرجا على فندق في طريق عودتهما إلى العاصمة، لكنها تنهدت مرتاحة لما وجدت بطاقتها الشخصية في محفظتها. حاولت أن تخبئ صورتها بإبهامها. تبدو في تلك الصورة بريئة أكثر مما يجب، أكثر براءة منه، لكنه لمحها، وأصر على أن يراها. قال لها لا تبدين فتاة شقية هنا، على عكس هنا، وأشار لبلاطات البهو الرخامية، وضحكا معاً.

 

في الغرفة رائحة القدم تنبعث من الأثاث البسيط، ومن لحاف السرير المصنوع من قماش صوفي خشن، ومن السجاد بلونه الكابي. هناك، وبعد أن تأكدا من إغلاق الباب، ووضعا علامة “الرجاء عدم الإزعاج” واصلا قبلاتهما المحمومة واشتبكا معاً. لكنهما افترقا سريعاً، وحط عليهما الوجوم، وخيبة الأمل، كل على حدة. تقوقعت هي على نفسها في الجانب الأيسر من السرير متظاهرة بالنوم، بينما انشغل هو بلف سيجارة على الجهة الأخرى، ملتحفاً بالشراشف البيضاء، ساق مطوية والأخرى مثبتة على أرضية الغرفة.

 

فتح النافذة بعد مرور نصف ساعة تقريبا، نسيم منعش يتسلل من وراء الشجرة المنفردة أمام نافذتهما، ولا شيء خلفها غير لجة المحيط، والأمواج تروح وتجيء في مد وجزر متعاقبين منذ الأزل. استمر الصمت الغريب بينهما، انشغلت بهاتفها هي الأخرى، وليتدارك الوضع عرض عليها أن يخرجا للمشي على البحر قبل أن تنحسر الشمس تماماً. “فكرة ممتازة” قالت له، “ونتعشى بعدها؟” سألته وهي ترتدي ثيابها على عجل، وأتبعت ذلك بأنها تكاد تموت من الجوع.

 

 

 

على الممشى الحجري المرصوف، أحزنتها رائحة البحر لما ملأت صدرها بهوائه، وكادت تبكي من فرط أساها. لا تدري إن كان قد شعر بذلك، لكنه طلب منها أن تجلس على مقعد خشبي طويل ليتلقط لها صورة، والمحيط خلفها. حدقت فيه للحظة ثم أشاحت بوجهها عنه. في الصورة بدت عيناها مثقلتان وهي تنظر للبعيد، لكن ثغرها يفتر عن نصف ابتسامة، ورأسها مائلاً بعض الشيء، وشعرها منفوش بفعل الرطوبة، وكان قلبها كعادته، منفطراً قليلاً، ومبتهجاً قليلاً.

 

هبطت الشمس سريعاً في عرض البحر، ومع ذلك سادت السماء ألوان زاهية لوقت طويل، حتى حل الليل. أخذها لمطعم شعبي صغير مزدحم بأهل البلد، أما المنيو فسرده عليهما النادل، وهو يترجم لها: سمك وسمك والمزيد من السمك. طلبا سمكاً مشوياً وزجاجة نبيذ. ولأنها ما عادت تجوع إلا نادراً وأصغر لقمة تشبعها، أدار النبيذ رأسها سريعا وراق مزاجها، وانحلت عقدة لسانها وانطلقت تثرثر. احمّر خداها وتخضلت عيناها، وصار النادل يتلكأ عند طاولتهما راغباً بمد جسور الحديث معها بإنكليزيته المكسرة، وهي تتغنج. أما هو فغار وفار ولم يدر كيف له أن يمتلكها. ألح عليها أن تأكل المزيد وتشرب من الماء أكثر.

 

الكل في ذلك المطعم يعرف الكل، إلا هذين الغريبين، والكل يتطلع صوبهما باستطلاع، وهي غير مكترثة، تكركر وتكركر بسبب ودونما سبب، والفضول مخلوطاً بشيء من الإعجاب يزيد.

 

تلمح ارتباكه، فتقف لتخطو باتجاهه، وتميل عليه مانحة إياه قبلة مطمئنة، وتعود لكرسيها، ثم تقف بغتة بعد مرور لحظات لتعلن له وسط الحديث بأنها سعيدة، وتضع يديها على قلبها، وتطلق تنهيدة طويلة، فيضحك هو بدوره، ويقوم صوبها، ليشبك ذراعه بذراعها ويصحبها عائداً إلى الفندق الناعس على المحيط.

 

 

***

 

 

كانت هي من رمت بشباكها وهو لم يكن صعباً البتة.

في الصباح ارتدت فستانا أحمر من غير أكمام، يضيق عند الخصر لينفرج قليلاً، ويتسع أكثر حتى منتصف ساقيها. صيفي وخفيف، وله أزار خشبية تبدأ من فتحة الصدر المثلثة – والتي تزيد من طول رقبتها الطويلة أصلاً- وحتى ركبتيها. نظرت لنفسها في المرآة الطولية والمثبتة على الجدار حيث خزانة الملابس، وحدثتها قائلة: “أنتِ جميلة جداً، مشرقة ونضرة، واليوم سيقبّلكِ أحدهم.” كررت هذا على نفسها أكثر من مرة، ثم وضعت قبعتها القشية وخرجت.

 

كانت السيارة التي طلبتها في انتظارها لدى الباب. سائق الأوبر هذا له ذوق عال، موسيقى كلاسيكية، ورائحة زكية، وكُتب بأغلفة مثيرة على المقعد المجاور. وهي بخبرتها الطويلة في الأسفار، وحيدة ومع الآخرين تعرف كيف تصنع حديثاً مع الغرباء وعابري السبيل. بدأت بالحديث عن المدينة، وكيف تلهمها، وكيف أنها جاءت خصيصاً للشفاء من حب قديم ولتكتب، وكم هي سعيدة اليوم لأنها كتبت شيئاً هذا الصباح تظنه جيداً، وكيف أن الشمس هنا تلهمها، والألوان تلهمها، وضياعها في الأزقة الضيقة يمنحها السلام.

 

ومن حديث لآخر، رأت أنه وقع. عرفت ذلك لما أزاح نظارته السوداء وصار ينظر في عينيها، أو في انعكاسهما المباشر على المرآة الصغيرة المعلقة في سقف السيارة. وصلا حيث وجهتها، لكنه استأذنها بأن يأخذها في لفة قصيرة لينهيا حوارهما، وقالت له بالطبع، وهي تبتسم ابتسامتها الواسعة.

 

لف ولف، وتكلم كثيراً عن نفسه، ثم تجرأ ليسألها إن كانت هنا لوحدها. عرضت عليه بدروها أن ينضم إليها لحضور حفلة جاز في الهواء الطلق. هز رأسه نافياً، لما أضافت بتردد “هذا بالطبع إن لم تكن مشغولاً.” ونقلّته رقم هاتفها، وذكرت له مرة أخرى الوقت واسم المتنزه الذي سيقام به الحفل.

 

لم تتمالك ابتسامتها وهي تنزل من السيارة متجهة إلى المقهى حيث استقبلتها نادلة شقراء شابة بتكشيرة، وخيّرتها متجهمة بين طاولتين على الرصيف. لم تتمالك ابتسامتها وهي تطلب غداءها؛ سلطة وكوكتيل قاني اللون. لم تتمالك ابتسامتها وهي تذهب إلى الحمام، وتعود منه، وهي تعدل من وضع المخدة على مقعدها الخشبي غير المريح. لم تتمالك ابتسامتها وهي تغلق عينيها مستمتعة بأشعة الشمس الدافئة تنصب على بشرتها، نحرها، وذراعيها.

 

اتجهت إلى المتنزه الضخم عصراً حيث تجمع مراهقون، شبان، عجائز، وأسر مع أطفال، وخرج على الحشد بعد طول انتظار موسيقيون، وقفوا بفتور على مسرح مرتجل، بخلفية سوداء بسيطة، وصاروا يعزفون ما هو من المفترض أن يكون موسيقى جاز. وصل متأخراً، وبدا محرجاً، واعتذر منها. واصلت الفرقة إصدار الضجيج، بينما تلهى هو بالنظر في كتيب العروض الصيفية بين يديه، واصلت هي مراقبة طفلة صغيرة ترقص بفرح، استرقت النظر باتجاهه، ثم واجهته: “الفرقة سيئة، ألا نمشي من هنا؟”

 

تمشيا في الحديقة معاً. أراها البحيرة الصغيرة والمقصورة الملكية، تمثال لبوتيرو وقفت لتلتقط صورة معه. ثم جلسا في مقهى مطل على البحيرة. تحدثا وتحدثا، لم تسمع الكثير مما كان يقوله، لكنها كانت تهز رأسها وهي تنظر إلى عينيه اللتين لهما لون العسل. ثم أخذها إلى مطعم بيتزا، أكلت مثل عصفورة، بغير شهية، وفتحت قلبها سريعاً له، وبكت قليلاً وضحكت أيضاً. ثم اتفقا على أن يأخذها صباح الغد لمدينة صغيرة غربي العاصمة بها قصر وطني من العهد الملكي. أرادت أن تراه، وربما يصحبها لزيارة بلدة صيادين مجاورة إن اتسع الوقت لذلك. وفي نهاية الأمسية شعرت بالبرد والأسى يخترقان قلبها. أعارها “بلوفره” الصوفي وخرجا.

 

كان القمر بدراً، تام الاستدارة، ويلقي بضوئه الأبيض على الهضاب السبعة التي تتكون منها المدينة القديمة. قالت له إنها لا تنام جيداً في الليالي التي يكون فيها القمر مكتملاً. اقترب منها وأمسك بيدها اليمنى، وتولى القياد. نزلا معاً الشارع المنحدر باتجاه الموقف حيث ركن سيارته، لكنها فجأة توقفت ودنت منه أكثر. نظر إليها، وقد بدت له جذلى لبعض الوقت لكن عيناها شجيتان الآن. التصقت به أكثر، وطلبت منه أن يقبِّلها. بدا مدهوشاً، لكنه بعد لحظة تردد، تجاوزها بسرعة، أحاط خصرها بذراعيه وقبَّلها.

 

كانت قبلة طويلة وممتدة، فيها شغف البدايات، وتشبه تماماً ما نراه في الأفلام.

 

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من قطر.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: