صباح الثاني من آب، كل شيء كان على ما يرام. الطقس حار كالعادة منذ الصباح، السماء صافية، وما من ريح تخفف ذلك الفتور الذي يخنق المدينة. تصاعدت بعض الهمهمات من حناجر جمهور صغير تعوّد أن يستيقظ مبكراً، خمسة مسنين مثل أغصان شجيرة وحيدة في صحراء، استمعت لنثار من حديثهم، لكنها عن أشياء من النوع المكرر الذي نسمعه عادة بدون اهتمام، مجرد ثرثرة، ومن يهتم لمجموعة من كبار السن اعتادوا الاستيقاظ مبكراُ قبل التجمع في الساحة، تحت مظلة بائع البطيخ. أغلب الظن إنهم يتناقشون في أشياء ميتة من زمن بعيد، والكلب غافٍ إلى جانب الجدار، مستمتعا بالظل قبل نهوض الصبية الذين سوف يطاردونه طيلة النهار. ثم سمعت صوتا ما يأتي من الشارع الموازي، بينما كنت واقفاً على باب الدار قبل ذهابي إلى العمل، كعادتي بعدما تسرحت من الخدمة العسكرية، ربما كان صوت انفجار إطار سيارة فأحدث خدشاً في جسد هذا الصباح الفاتر. انقطع حوار الشيوخ ثم حلّ سكون لبضع ثوانٍ، أداروا رؤوسهم في اتجاهات عدة ثم عادوا للحديث. مرّ شاب وشابة يبدو أنهما متزوجان حديثا، دخلوا الساحة، وعزف صوت حذاء الشابة إيقاعاً رتيباً على إسفلت الشارع. الحقيقة أن لا أحد منهما اهتم لمصدر الصوت، المشكلة كما أعتقد، وعندما يتعلق الأمر بالكوارث، فان الجميع على ثقة أن لا شيء سيحدث، هكذا يدافع اللاوعيّ عن الحياة، ولا أحد يفكر بأن كسوف الامنيات يأتي مثلما تأتي الأعاصير المفاجئة، إنها تأتي حيث يغمر النوم الجميع، المتقاعدون وموظفوا الأرصاد الجوية، والكلاب والصبية والشيوخ وبائعو البطيخ ومربو الطيور كذلك. كل شيء على ما يرام ، حتى أن مجلس الوزراء قبل يومين، عقد اجتماعاً عادياً، ناقشوا فيه الميزانية، وقد خصصوا نسبة جيدة للصحة والتعليم والزراعة والاستثمارات الصناعية المحلية بعد تخفيض ميزانية التصنيع العسكري التي ابتلعت كل شيء خلال ثماني سنوات. شاهدت ذلك في فقرة الأخبار المحلية وأنا أقرأ كتاباً في الصالة، بينما العائلة كلها تتداول أحاديث لم تكن مثيرة لي على كل حال. كما صرّح مدرب المنتخب الوطني باستعداد فريقه للمباراة الفاصلة، لقد ظهر فخورا وواثقا من أنه سيمنحه فرصة الفوز في المباراة القادمة التي تحسم الأمور لصالح فريقه. سبق ذلك كله البرنامج الثقافي الذي قدّم الخارطة الأسبوعية للعروض المسرحية والسينمائية في المدينة. كل شيء كان على ما يرام ولا شيء سيحدث، هذا ما ترسخ في أذهان الناس، بعد تخلصهم من كارثة طويلة امتدت لثمانية أعوام لم يصدق أحد بأنها سوف تتوقف عن العبث بالمصائر. الموظفون والموظفات ذهبوا الى دوائرهم، العمال كذلك، وأنا بالطبع من الطبقة الاخيرة، طبقة العمال التي خرجت من فم الحرب كي تبدأ الحياة بكثير من الأحلام ولكن بالكثير من الندوب. وكانت العطلة الصيفية المدرسية قد بدأت منذ فترة طويلة، النساء اللاتي ذهبن إلى السوق وحيدات ليفرغن من التسوق مبكراً، سوف يطبخن وينظفن ويقمن بما تبقى من الواجبات المؤجلة ثم ينتظرن المساء ليشاهدن حلقة جديدة من المسلسل التلفزيوني. كل شيء كان على مايرام ، إنه نهار عاديّ، لكن جاري الشاب العاشق كتب رسالة أخرى، رأيته يسقطها عند خروجي من البيت قرب شجرة أمام منزل شابة، هو يقول إنها حبيبته، انا أعرف والآخرون كذلك أن حكاياته كلها غير صحيحة، لكنه يقوم بهذا الأمر منذ فترة طويلة على كل حال، رغم علمه بأنها لن تلتقط ذلك الشيء الذي يشبه حجابا، ولاشيء سيحدث من أمر هذا الحب الغريب. إنه نهار عاديّ آخر، موظف الكهرباء جاء مبكرا، قرأ العداد و ترك الفاتورة معلقة على مسمار جانب “الميزانية”، ثم خرج بكامل نشاطه وابتسامته الطيبة، وكان الصبيّ مربي الطيور قد أطلق سربا آخر من حماماته، جارتنا قالت شيئا عن سوء الأخلاق، سمعتها وقد توعدت بتأديب الصبيّ عندما يعود زوجها عصرا، وبالطبع هي تعرف أن زوجها لن يفعل شيئا، والد الصبيّ أخذته الكارثة السابقة معها، بالنسبة لأمه تثق كثيرا بسلاطة لسانها، وميتقنة كذلك من قدرة هذا اللسان اللاذع على الدفاع عن طيور ابنها المدلل، وفي النهاية سيكون الصبيّ بريئا بشكل كامل ولا شيء سيحدث. كل شيء كان على مايرام، رواد مقهى المتقاعدين حين وصلت الشارع العام، يثرثرون ويتداولون نكات لم تعد تضحك أحداً، المحلات مفتوحة وشاب يبدو أنه عاد من سفر دراسيّ للتو، كانت العائلة كلها سعيدة وهي تستقبله عند الباب، أمه أطلقت زغرودة لعودته، أثارني المشهد فتوقفت قليلا، وأنصت للحديث الدائر بدافع الفضول،حسناً، أنا أفكر بالسفر كذلك، ولكن كيف ومتى وإلى أين؟ على كل حال، كنت مبتهجا بذلك المشهد وحسب، ثم صعدت الباص وكان رجل أعرفه يجلس على الكرسي القريب من النافذة، رجل مبارك أو ساحر أو شيطان أو لا شيء إطلاقا، يقولون إنه قادر على الاتيان بالخوارق والأنباء البعيدة عن متناول المخيلة، لكنه لم يقل شيئا عندما سألته عن المستقبل، كان مشغولا بمداعبة خصيتيه، والنظر الى المرأة الاربعينية التي وضعت كثيرا من المكياج، وبكميات جعلتها تشبه دمية عبثت طفلة في ملامحها. كان النهار بالفعل أكثر من عادي، لأنه يخلو من أي حركة غير مألوفة أو إشارة من أيّ نوع. ضابط في كابينة قيادة شاحنة عسكرية كان يدخن، الجنود في حوض الشاحنة وبعيون مرحة يرصدون الطريق، يدخنون ويضخكون، أعتقد أنهم ذاهبون الى ثكنة قريبة، وعلى كل حال هم يقومون هناك بالواجبات العادية، تلك الأشياء التافهة التي يمارسونها لقتل الوقت وحسب، فالجيوش لا تقوم بشيء حقيقي سوى الحرب، أما هذه الفترة فهي فترة كساد، لايريد الجميع تصديق أنها قد تكون مجرد استراحة قصيرة وحسب. كل شيء يسير بشكل جيد وعادي رغم أن الكوارث تأتي بالطريقة التي لن تستطيع المخيلة أن تقدم أية اشارة لوصولها الوشيك، حتى أنا السوداويّ الذي يحفر دائما ليستخرج أسوأ ما سوف يأتي به المستقبل من حوادث، لم أقل شيئا، بدأت العمل بنشاط، وكان الشخص الذي أعمل معه قد قال لي قبل أيام: إنني سوف أتعلم وأصبح فنانا في هذه المهنة، الحقيقة أنها مهنة سخيفة تخلو من أي رائحة للفن، لكنني كنت أفكر بجمع بعض المال، ربما أسافر، لا أدري! لقد انتهت الحرب وسرحت من الخدمة العسكرية، وكنت أفكر بحدية بحياة أفضل، الحقيقة أن الجميع وضعوا أحلامهم على السكة، منهم من انطلق بالفعل، ومنهم لم يصل بعد إلى المحطة، ومنهم ما زال يفكر. كل شيء عادي، الشمس الحارقة، السماء الصافية، بائع البطيخ تحت مظلته، والكلاب التي تلهث منقادة لصراخ الصبية والموظفون وجاري العاشق، إنه نهار عادي آخر لولا أن المذيع في الراديو، أذاع البيان، ألم اقل لكم، الكوارث تأتي هكذا،حتى ولو على شكل كلمات، نص يقرأه رجل خشن الصوت يعمل في الإذاعة الوطنية، وكان ذلك في الساعة العاشرة والنصف صباحاً، حين سقطت من يدي المطرقة، غير مصدق كل هذا الهراء، قلت لمعلمي في العمل: ما هذا!! كان صامتا كأنه أصيب بمّس كهربائي أو أنه احتاج لبعض الوقت كي يتأكد بالفعل أنه هدير الكارثة، ثم بكى، هكذا بكى مباشرة وقال: إنها مواليدنا. طلبوا مواليدي ومواليدك. إنها الحرب، يا إلهي الحرب مرة أخرى. لم يعد النهار عادياً بعد ذلك، رغم أن لا أحد يريد أن يصدق أن الكوارث تأتي بدون مقدمات، وفي الوقت الذي يكون فيه كل شيء على مايرام .
*****
خاص بأوكسجين