كتلة العصي الغليظة
العدد 238 | 24 تشرين الثاني 2018
رامي الابراهيم


الحفرة

كانت سنة قحطٍ وجفاف، وقد أثّر ذلك بشكل كبيرعلى المحاصيل والمراعي، وما لبث أن شكّل ذلك أزمة لسكان إحدى قرى الريف السوري، فمؤونة العام الفائت قد نفذت، ومحصول العام الجديد بالكاد يكفيهم فترة الصيف. أتت الماشية على النباتات البريّة والأزهار وكل ما قلّمه المزارعون من أشجارهم وكل شيء. اعتاد القرويون على تقديم الشعير لمواشيهم في حال عدم توافر أي شيء آخر، ولكن الحال قد تغير بعد أن أصبح الشعير بمكانة القمح كغذاء للقرويين، وصاروا يخلطونه بالقمح لصنع خبزهم اليومي، سعياً منهم في إطالة أمد المؤونة أطول فترة ممكنة. لجأ معظم سكان القرية إلى ذبح مواشيهم كالأغنام والماعز للاستفادة من لحومها كغذاء من جهة، وللتخلص من منافستها لهم على الشعير من جهة أخرى. لم يكن ذلك خياراً سهلاً بالطبع، لأنه كان يعني أيضاً حرمانهم من الحليب ومشتقاته المختلفة. هذا ما كان من أمر الأغنام والماعز، أما الحمير وبعد أن أنجزت القسم الأكبر من عملها أوائل الصيف بنقل المحصول إلى البيادر، ومن ثم نقل الحبوب إلى البيوت، لم يكن هناك مفر من التخلص من منافستها على تلك الحبوب الثمينة. لم يكن قتل الحميرأو ذبحها مألوفاً على الإطلاق فلحمها بحسب شرائع سكان القرية محرّم. ابتدع القرويون طريقةً وجدوها رحيمة بعض الشيء في التخلص من حميرهم، إذ عصبوا أعينها واقتادوها إلى بئر جاف يقع على الطريق الترابي الذي يقسم أراضي القرية نصفين نصف شرقي ونصف غربي. لم تعترض الحمير على عملية تعصيب الأعين ربما بسبب العشرة الطويلة والثقة بأناس تقاسمهم في المسكن والمأكل والعمل: فهي تعيش بقربهم وأحياناً معهم، وتأكل طعامهم وتقوم بنفس الأعمال التي يقومون بها، فهي ربما تشعر معهم بوحدة الحال أو على الأقل تعرف أنها مهمة ومفيدة بالنسبة لهم. رجّح شيوخ القرية وحكماؤها أنّ الأمر يعود إلى حالة الإذعان والاستسلام لمشيئة البشر، لاسيما وأنه لم تسجل حالات كثيرة لتمرد الحمير، وإن كانت حالات كهذه تحدث عندما ينطلق حمار ما في الدروب والبساتين ويرفس ذات اليمين وذات الشمال ويركض ويركض ولكنه يعود عند المساء إلى حظيرته ويتناول وجبته ويقبل حتى بالعقاب إن وجد، ولا يعود إلى تكرار تلك الفعلة الحمقاء لفترة طويلة هذا إن تكررت. لم يقتصر إذعان الحمير على تعصيب العيون فحسب ولكن استجاب الحمار أو الحمارة أيضاً لعملية الجر التي قام بها أحد مالكيه أو غيره من القرويين. لم تبدِ الحمير أي معارضة أو تمرد طوال ذلك الطريق الترابي، ولم تبدِ اي ممانعة في السير قبل الوصول إلى البئر، ولكن عند الوصول إلى البئر وحتى قبله بقليل توقفت عن السير. لم يجدِ معها الجذب نفعاً، ولا أجدى الضرب نفعاً كذلك، فبالرغم من أنها حيوانات غيرعاقلة، وبالرغم من كونها معصوبة الأعين ولكنها أدركت الخطر وامتنعت عن الاستمرار في سير يؤدي إلى حفرة. اقتضى الأمر أن يتعاون معظم شبان القرية لتوفير قوة جسدية تقهر مقدرة الحيوان المسكين على التصدي لعدم الوقوع في الحفرة.ردم القرويون الحفرة بعد أن نفقت جميع الحمير خشية انتشار الرائحة والأمراض في ذلك الصيف الحار، وبالرغم من عدم وضع أي علامة على المكان ولكن بقيت الحادثة موجودة في ذاكرة الفلاحين وأقاصيصهم حتى أنهم قلّما مروا من فوق تلك المقبرة، وإن مروا فلا يطيب لهم المكوث أبداً. كان ذلك البئر من المعالم الرئيسية التي يستخدمها أهالي القرية للدلالة على أراضيهم كأن يقولوا مثلاً: “غرب البئر القديم” (هكذا كان يعرف قبلاً) أو “على مسافة مئتي متر من البئر القديم”الخ…  ولكن بعد تلك العملية( التي تطلبت منهم جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً كانوا يسمعون فيها نهيق الحمير واستغاثاتها قبل نفوقها من أثر الجوع أو اليأس أو ربما من القهر والخيبة) صاروا يقولون: “غرب مقبرة الحمير” و”على مسافة مئتي متر من مقبرة الحمير”. مرّت الأعوام والسنون وجاء إلى حكم ذلك البلد شخص من أصول ريفية وشرع بإنجازات من أبرزها تعبيد الطرق وإنارة الأرياف حتى البعيدة منها. رأى القرويون البسطاء أشخاصاً ببذلات أنيقة يشرفون على تعبيد الطرقات، وكان من بينهم مهندسون ومسؤولون ولكنهم لم يتعبوا أنفسهم بدراسات وحفر أنفاق أوغيرها ولكنهم وجدوا طريقاً شقته الحمير ودأبت على السير فيه عقوداً طوال حتى بدت معالمه واضحة فعبّدوه. في مكان البئر تماماً أو ماصار يعرف بمقبرة الحمير حفر العمال حفرة عميقة وانتصب فيها عمود كهرباء. مرّت الأعوام والسنون أيضاً وجاء إلى الحكم شاب عاش منذ نعومة أظفاره في  المدينة وفيها حصّل تعليمه العالي فشرع بإجراء إصلاحات من ضمنها إحداث البلديات في الأرياف. عملت االمجالس البلدية الجديدة على وضع مخططات تنظيمية تفصل بين الأراضي السكنية والأراضي الزراعية وتحدد الملكيات وغير ذلك من الأمور التنظيمية. كانت المنطقة المخصصة للسكن والعقارات هي بالطبع تلك التي تمتد على أطراف طريق الحمير قديماً والطريق المعبد حديثاً. امتنع صاحب الأرض التي تقع فيها مقبرة الحمير عن ادّعاء ملكيتها لعدم رغبته أو ذويه باستثمار تلك القطعة سواء للسكن أو الزراعة، كما لم يدعيها أحد آخر لنفسه وبالتالي فقد استملكتها الدولة كملك عام وأنشأت بالقرب منها مخفراً للشرطة على مسافة عشرة أمتار من مقبرة الحمير. امام التغييرات الجديدة كثيراً ما صار الناس يقولون: “غرب المخفر” أو ” مسافة مئتي متر من المخفر” ولكن  صار بعض الكارهين للمخفر و عناصر الشرطة يتهامسون:”غرب مخفر الحمير” و” على بعد مئتي متر من مخفر الحمير”. حدثت بعض التغيرات في البلدان المجاورة ثم ما لبث أن هبّت رياح التغيير وشهدت البلد موجة من الإحتجاج ضد حكم ذلك الشاب. لم تكن القرية بمنأى عما يحصل وحاول بعض القرويين تنظيم انفسهم للخروج بمظاهرة احتجاج  تمر في أحياء القرية وتتجه نحو المخفر. في البداية كانوا يسمعون أصوات إطلاق النار عند التجمع، ولكن فشلت هذه العيارات النارية في إخافتهم وثنيهم عن عزيمتهم. لقيت المظاهرة تأييداً من بعض أحياء القرية، ولكنها جوبهت بالصد من قبل أحياء أخرى، ومنعت من دخول تلك الأحياء التي انتشرت فيها لجان شعبية لحمايتها. صار الطريق إلى المخفر أصعب برفض مشاركة بعض أحياء القرية وحيلولتهم دون مرور المظاهرة. لم يثن ذلك عزيمة المنتفضين وإنما مضوا في طريقهم نحو المخفر، وفي طريقهم ذاك أصيب بعض المتظاهرين بعيارات نارية. كان ذلك حدثاً فارقاً بالنسبة للمتظاهرين، فقرر الكثير منهم مهاجمة المخفر بالسلاح والثأر لأقاربهم وذويهم، وبالفعل تمكنوا من مهاجمته ليلاً وتبادلوا إطلاق النار مع عناصر الشرطة وسقط قتلى من الجانبين، ثم سيطر القرويون الغاضبون على المخفر وشنقوا شرطيين بعد استسلامهما وعلقوهما على عمود الكهرباء في حين دفنوا القتلى من الشرطة في مقبرة الحمير. صارت القرية تغلي بعد تلك الحادثة وصار لكل طرف ثأر لدى الطرف الآخر، وانقسموا في تسميتهم لذلك الجزء من القرية، فبعضهم صار يسميها علناً وبصوت عالٍ “مقبرة الحمير” بينما صار الطرف الآخر يسميها “مقبرة الشهداء”، بل إن تلك العبارات بالذات صارت المعيار الذي يستخدمه الطرفان لتمييز “هل أنت معنا أم ضدنا؟” ولم يقبل كلا الطرفين من الأصوات القليلة المحايدة والمسالمة عبارات مثل “المخفر” أو”البئر القديم” إذ بدت هذه العبارات لكلا الطرفين المتصارعين من عهد قديم قد تجاوزها الزمن. نشبت عدة معارك بين الطرفين المتصارعين للإستيلاء على المخفر، في كل مرة كان يسقط من الجانبين أشخاص عقلاء وغير معصوبي الأعين!

 

بمحض الصدفة

تنمو بصدفةٍ عجيبة في قرية صديقي _ ومن دون زرعٍ أو سقاية_ نبتة شائكة ذات ثمار تتعدد أسماؤها بحسب المناطق، وفي منطقته يقولون لها “قبَّار”. تُشبَّه ثمرة القبّار بالبطيخ الأزرق ولكنها صغيرةُ جداً، ويمكن أن تصادف من يسميها “ميكرو-بطيخ”. زرت قرية صديقي ذات يوم ورأيت كيف تؤمِّن هذه الثمرة عملاً رائجاً وتجارةً رابحةً لأولاد، لم يأتوا إلى هذا العالم بالصدفة، وإنما بتصميمٍ وعزمٍ منقطع النظير من ذويهم على رفد المجتمع بكوادر تعرف أين ينبت القبّار وكيف تنازع الآخرون في الدفاع عن ملكية هذه أو تلك القبّارة. يقال إن كثيراً من الاكتشافات قد تمت مصادفةً، ولا أدري إذا كان اكتشاف الغرب بأن نبتة القبّار تحوي على مادةٍ مخدرة تفيد الطب قد تمَّ بالصدفة أيضاً. إنها على كل حال تدعم صادراتنا التي وجدت هذه المرة لصدفةٍ سعيدة على سطح الأرض وليس في باطنها، كما أنها تؤمن الكثير من فرص العمل ولا تتطلب استحضار الخبرات الأجنبية.

قادتني صدفةٌ عجيبة إلى الاجتماع برجل يدير ما هو أشبه بشركة تجميع( ليس القبّار رجاءً، فالموضوع هنا يتعلق بالثروة الحيوانية) فالرجل يقوم بجمع أمعاء الذبائح _ لا لصنع النقانق كما قد يتبادر إلى أذهانكم، أو لإطعام الكلاب كما قد يتوهم البعض_ وإنما لغاية أخرى: إذ إنه يقوم بتصديرها بعد تنظيفها وتمليحها إلى سويسرا التي تصنع منها خيوطاً طبية تقطب فيها جروح العالم، وقد كانت في السابق تصنع منها أوتار للآلات الموسيقية، ولكن الأوتار الصناعية الجديدة قد ألحقت بصاحبنا بعض الضرر وإن سرّت بذلك كثيراً من عائلات القطط التي تعيش في المدينة. وقبل أن أفقد الخيط الذي أسير بهديه في كتابة هذه القصة، وحتى لا تصير قصتي متاهةً لا تعرف بدايتها من نهايتها _كأمعاء الذبائح تماماً_ فإنني سأنتهز صدفة نشر القصة للإعلان عن استعداد مدير هذه الشركة لتوظيف أبنائكم في شركته في اختصاصات (مجمِّع، منظِّف، مملِّح) وذلك قبل أن يصبح أولادكم مشردين في هذا المجتمع من دون صدف عمل.

هذا وفي خضم بحثي الدؤوب عن عمل في مدينة داخلية _لا قبّار فيها_ ولأني طالب جامعي أنفر من رؤية الدماء وتعاف نفسي العمل في المسالخ بين السكاكين والدماء، انتهى بي المطاف في سوق الهال حيث يعمل الفتيان وبعض الشباب أمثالي في تنزيل البطيخ الأزرق الكبير (وليس الميكروي) ومن ثم يسطروه في أهرامات بأبعاد(3*3) من الرصيف والشارع يستأجرها التجار من البلدية (مصادفة بشكل غير قانوني هذه المرة).

ومن يعمل على تنزيل آلاف البطيخات متعددة الأحجام من شاحنة، لا بد وأن تنهك قواه، أو يهفو ويقذف البطيخة بأبعد أو أقرب مما ينبغي، أو تنزلق يده على البطيخة قليلاً فيصادف أن تنكسر. ومن بين مجموعة التجار هؤلاء (والذين يفترشون الرصيف المُعد للمشاة وجزءاً من الشارع المُعد للسيارات) يصادف أن ترى شخصاً لا يغضب أو يؤنب لأنك كسرت بطيخة من بطيخاته. ويصادف أيضاً أن تسقط البطيخة على رأس أحدهم بالصدفة هو ابن التاجر (المعلم) صاحب البطيخ لأنه بالصدفة (طالع بيحب الحِراك وسط الشغيلة). يصادف أن لا يقوم الولد (أو الوالد الذي اندفع بعصاه) بضربك، لا لأنه متحضر أو جنتلمان أو مشروع جنتلمان، وليس لأنك أنت كذلك، ولكن لأن صدفةً سعيدةً جعلت أحد التجار الحكماء يقول: “دعك منه، دعك منه، هذا طالب جامعي لا يعرف سوى القيل والقال”.

 

أمام مبنى العدل

كان المبنى يحتوي الكثير من الأوراق، لكن أحداً من أفراد الجماعة المتواجدة بشكل متفرق ومبعثر أمام المبنى لم يتقدم بأي من تلك الأوراق!

كانت مناسبة التّجمع  نكبة بالنسبة لمجموعة “أقلام الحبر الحرة” التي تبعثرت أمام المبنى كحبات العقد المقطوع، في حين كانت نفس المناسبة عيداً وطنياً بالنسبة لكتلة “العصي الغليظة” التي تروح وتجيء متسببة بالكثير من التبعثر والتشرذم لمجموعة الأقلام.

وبالرغم من أن جماعة “أقلام الحبر الحرة” احترمت مناسبة كتلة “العصي الغليظة” وانتظرت حتى أنهت الكتلة احتفالاتها ومن ثم أعلنت اليوم الذي يليه موعداً للتجمع، إلا أن كتلة العصي الغليظة أبَت إلا أن تشارك الجميع في احتفالاتها.

ارتفع هدير العصي الغليظة وقعقعتها بشعاراتٍ تتزاحم فيها الأرواح وتسيل منها الدّماء حتى غطّى على صرير الأقلام الخافت.

حاولت بعض أقلام الحبر أن تستميل الورق لتخط عليه جملة واحدة، لكن الورق صاح:” أنا من صلب العصي ولا أقف معكم ضدها”.

صحّحت الأقلام قول الورق:”أنت من صلب الأخشاب وليس بالضرورة أن تكون الأخشاب عصياً” ثم تابعت قائلة:”وأي نفع  للعصي التي تدخل بين العجلات والتي تقع على رؤوس الأقلام”.

صرخ الورق عند سماعه ذلك:”اخرسي أيتها الأقلام المأجورة، إن العصي تستطيع أن تكسر رأسك الأحمق وأن تهرق مدادك فوق الثرى، ولكنها تعطيك الفرصة كي تكتبي وتزخرفي وتنمقي عليها ما شئت من عبارات جميلة أفضل من هذا الهراء الذي تنطقين به. لو كان عندك عرفانٌ للجميل لذهبت وضحيت بمدادك من أجلها، اذهبي واكتبي على أوراق الأعداء فلا مكان لمدادك القذر على صفحاتنا.”

كان الحبر يغلي في داخل الأقلام ويضغط رؤوسها الحامية في محاولة الخروج، لكن سرعان ما جفّ الحبر في عروقها عند سماعها مقولة الأوراق.

يئست مجموعة أقلام الحبر من إيصال جملتها الوحيدة: “عاشت الأقلام حرة” فعادت أدراجها تجر خلفها أذيال الخيبة.

تابعت كتلة “العصي الغليظة” طقوس احتفالاتها التي كانت تنطوي في جزءٍ منها على تمشيط الشوارع وتنظيفها من الأقلام أو بقع الحبر الوسخة.

بحثت العصي ملياً في الشوارع ولكن لم تجد قلم حبر واحد، فدخلت أحد المقاهي الكبيرة للبحث بين روّادها.

كان المنظر العام مطمئناً، كثير من العصي بأنواعها المختلفة (الثخين، والمتوسط، والرفيع). طبعاً كان هناك عدد لا بأس به من أقلام الرّصاص، ولكن هذه الأقلام كانت قد سارعت لحظة دخول العصي الغليظة إلى إخفاء رؤوسها الكربونية تحت الطاولات ولذلك لم يبد منها غير نهاياتها العصوية. كان هناك بالإضافة لأقلام الرصاص قلما حبرٍ يجلس أحدهما في زاوية المقهى الشرقية والآخر في زاويته الغربية ولا يحيط بكل منهما سوى جو العزلة والاكتئاب.

لم يكترث قلما الحبر بدخول العصي الغليظة بل تابعا النظر تارةً إلى سقف المقهى  وتارة إلى الأفق البعيد الذي يتراءى خلف النوافذ وزجاجها الشفاف.

أدركت جماعة العصي الغليظة أنها لا تستطيع أن تسبب لأقلام الحبر من العزلة والاكتئاب أكثر مما تعيشه فعلاً، فتركتها وشأنها عسى أن تتعقل وتعيد حساباتها.

وبينما كانت كتلة العصي تهم بالخروج وشعورٌ من الرضا يجري في نسغها، لمحت فجأة ريشةً للكتابة وحارت في تصنيفها. كان جسمها عصوياً تماماً بما لا يترك مجالاً للشك، ولكن ذلك الرأس الأحمق إنه كرؤوس أقلام الحبر.

اقتربت كتلة العصي من تلك الريشة وسألت بخشونة:”هل أنت قلم حبر أم ماذا؟”

تجمّد الحبر القليل في حلق الريشة وأجابت بصوتٍ مبحوح:”أ أ أن..أن.. أنا…”

أنت ماذا؟..اهتفي هيا! صاحت بها العصي الغليظة وقد تجمعت حولها والتحفز بادٍ عليها.

“عاش..” هتفت الريشة بصوتٍ خافت.

“اهتفي بصوت أعلى حتى يسمعه الجميع. قولي: “في مثل هذه المناسبة بدأ الوطن..عاش ..عاش…”

“عاش..عاش” هتفت الريشة بصوتٍ أعلى قليلاً.

“لا بأس!” عقّبت كتلة العصي الغليظة.

عادت كتلة العصي الغليظة إلى الطواف من جديد، واستمرت تمشط الشوارع حتى حلّ الظلام، فنزعت عنها الرايات والأعلام التي وزعت عليها في ذلك اليوم والتي تحمل عباراتٍ مثل:

“عاش..عاش..عاش”

“فلتسقط الأقلام المأجورة..ولتبحث عن وطنٍ آخر”

“في مثل هذه المناسبة بدأ الوطن”

 وعادت كلّ عصا إلى الجزء الذي انفصلت عنه.

منها من عادت إلى قطع الحديد التي انفصلت عنها كما هو حال المعاول والفؤوس ومنها من عاد إلى كتلة القش في المكنسة ومنها إلى كرسي ومنها إلى طاولة ومنها من كانت عصا بحد ذاتها فقد سُلخت و صُمّمت ونُجِّرت وطُليت كي تكون عصا.

 

*****

خاص بأوكسجين


كاتب ومترجم من سورية مقيم في سويسرا.