كاد أن يهوي لولا كبسة زر عبثت بغفوته وأيقظته من بقايا كابوس أوشك أن ينتهي به وبمن معه إلى كارثة. لا تزال أسلاكه المتهالكة رابطة الجأش، وهيكله المعدني يحميه كدرع محارب تقدم به العمر. يبدو أن سنوات عمله الطويلة أنهكته في ذلك المبنى الإسمنتي البارد الضخم الذي وشمه بثلاثين طابقاً رغماً عنه وعن اكتهاله.
انغمس في مكابدات عمله بشكل يومي حتى وقت متأخر، يفتح بابه بلطف للساعين بخطاهم نحو الحياة، فيخرج من يخرج، ويدخل من يدخل بأحاسيس شتى، يعبرون كموج بحر تأرجح بين مده وجزره، كفراشات تتحرر من شرنقتها، لتذوق طعم الحياة، تتبعهم تنهداتهم الحائرة، وأحزانهم المكلومة، وأحلامهم المسافرة، وركضهم نحو المجهول في متاهة الوصول لغاية ما، أو ربما هو مزيج فوضوي من هذا وذاك. اعتاد إلفتهم ورائحة حضورهم، عُجالتهم، وصمتهم المفتعل الذي تفضحه نظراتهم المتجوّلة في المكان لتجاهل أو اقتناص شيء ما، إذ تتحول إلى كرة سلة تمرر من لاعب لآخر حتى يحرز أحدهم هدفاُ استثنائياً أو… كبسة زر تقطع عليهم شوط المباراة وترجعها إلى محاجرها.
كم تمنى أن يكون له لسان ليخرج عن صمته، ليلقي عليهم التحية وإن كانوا لم يدركوا ذلك أبداً، وبأن هناك علاقة احتواء وطيدة تربطه بهم بشكل ما، وأن يتريثوا في حكمهم على تقاعسه وبطئه في الفترة الأخيرة لأنه لم يحظَ بالإهتمام الذي يعيد له نشاطه، وجل ما يخشاه، أن يتحوّل إلى قطع غيار مستعملة في يوم ما.
أزراره الفضية تصطف في مصفوفة مميزة، كأنما ترسم درباً إلى عالم يغوي بالاكتشاف، تزداد تمسكاً بالحياة، ينبض قلبها بالضوء، وتلمع أعينها كلما أنعشت ذاكرتها معزوفة من الأصابع. المرآة الداخلية، اللصيقة به، مسرح أحداث خفية، صمّاء فيما تبدو، لكنها تضج بالحكايا، تخترق هشاشتها متتالية من صور قلقة لا تحتمل البقاء، يمتد عرضها لدقائق معدودة ومن ثم تتتبخر، تاركة إيّاه في صراع مع ظلمة وحدته.
يمضى الوقت مسرعاً كعادته، كسكين تغرز نصلها في الرغبة دون استئذان. تنحسر الأفواج شيئاً فشيئاً إلى الحد الذي تتجمد فيه الحياة بعد مغادرة آخر شخص، ويتوقف نبض الحراك تماماً. يوصد بابه مُجبراً، ليعود منسيّاً وبارداً، تزين واجهته سلة مهملات برونزية براقة.
*****
خاص بأوكسجين