كافكا وبلاث وولف وفلوبير: العجز عن كتابة سطر واحد 1-2
العدد 218 | 05 أيلول 2017
إميلي تيمبل


مرحباً- هل أنت منكبّ على الكتابة الآن؟ إن لم تكن كذلك، وأنت لست كذلك، لأنك تقرأ هذه السطور، فلا بأس. قد يبدو للوهلة الأولى أن الظاهرة التي تؤرّق الكتّاب بشكل متواصل والمتعلقة بعدم قدرتهم على الكتابة هي ظاهرة حديثة (من أكثر الأمور مدعاة للسخرية لسجلات موقع “تويتر” هو كيف أنه في اللحظة التي تكتب فيها وسم #أنا_أكتب_فإنك_بالضرورة_تكذب لكن لنكن حقيقيين، لربما بدأت الكذبة قبل ذلك)، ولكن في الواقع، تعود الظاهرة إلى قرن أو قرنين على الأقل. فالعديد من المؤلفين المعروفين، ممن خطفت أعمالهم قلوب ملايين القراء، كتبوا أيضاً افتتاحيات مجلات أو رسائل كئيبة أو متوترة حول فشلهم في القبض على الكلمات وترتيبها على الورق. وتيبن أن قفلة الكاتب قد تصيب أي كاتب (وقد حدث هذا بالفعل). ولإثبات ذلك، انتقيت مختارات من المجلات والرسائل التي كتبها عدد من أعظم الكتّاب، والتي آمل، إن كنتم تسوّفون الآن وتماطلون، أو تمرون بمرحلة من القحط، بأنها ستبث فيكم مشاعر من التضامن والتشجيع. ففي نهاية المطاف، عانى كافكا ولأيام متواصلة من عجزه عن الكتابة- لكن مهلاً، ألم يقرأ معظمنا تقريباً عملاً واحداً له على الأقل؟

فرانز كافكا

(مقتطفات من يوميات فرانز كافكا، 1910- 1923، المصدر موقع Open Culture)

20 كانون الثاني. نهاية الكتابة. متى ستتلبسني الكتابة ثانية. في أي وضع مزرٍ سأقابل الآنسة إف! التفكير الأخرق الذي يبرز على الفور عندما أتخلى عن الكتابة، وعجزي عن الاستعداد للاجتماع؛ بينما استطعت بالكاد في الأسبوع الفائت تحرير الأفكار التي تبادرت إلى ذهني. هل من المفترض أن أستمتع بالفائدة الوحيدة التي يمكن تخيلها من هذه الأفكار- من الأفضل أن أنام.

رايات سود. يا لسوء ما قرأته. وبأي ضغينة أو ضعف أنظر إلى نفسي. على ما يبدو لا يمكنني شق طريقي في العالم، ولكن يمكنني أن أكذب بهدوء، أتلقى، وأنشر داخلي ما تلقيته، وأرتقي بعدها بهدوء.

. . .

29 كانون الثاني. أنا متعب مجدداً لدرجة لا أستطيع فيها الكتابة، ونظرياً أنا عديم النفع. خلدت خلال اليومين الماضيين باكراً إلى السرير، قرابة الساعة العاشرة، وهذا شيء لم أفعله منذ وقت طويل. انتابتني مشاعر حرة خلال اليوم، الرضا الجزئي، وكنت مفيداً أكثر في المكتب، واستطعت التحدث إلى الناس- هناك ألم حاد في ركبتي الآن.

30 كانون الثاني. العجز القديم. انقطعت قرابة عشرة أيام عن الكتابة ونحّيتها جانباً بالفعل. ومرة جديدة تقف في مواجهتي جهود جبارة. عليك الغوص أعمق، إلى حيث تكون الكلمات، الغطس بشكل يفوق سرعة ما يغوص أمامك. 

7 شباط. جمود كامل. عذابات لا تنتهي.

. . .

11 آذار. كم يمضي الوقت مسرعاً؛ مرت عشرة أيام أخرى ولم أنجز فيها شيئاً. لم يُقضَ الأمر. تعتبر كتابة صفحة هنا وصفحة هناك إنجازاً، ولكن لا أستطيع المواصلة، إذ أكون في اليوم التالي منهك القوى.

. . .

13 آذار. إنه المساء. استلقيت عند الساعة السادسة على الأريكة. ونمت حتى الثامنة تقريباً. لم أستطع النهوض، وانتظرت لتدق الساعة، وفي نومي لم أستطع سماعها. نهضت تمام التاسعة. لم أذهب إلى المنزل لتناول العشاء، ولا إلى منزل ماكس أيضاً، حيث كان هناك ملتقى الليلة. الأسباب: نقص في الشهية، خوف من العودة في وقت متأخر ليلاً؛ ولكن الأهم من هذا كله فكرة أنني لم أكتب شيئاً البارحة، وأنني أبتعد أكثر وأكثر عن الكتابة، وأنا معرّض لخطر خسارة كل شيء اجتهدت لتحقيقه خلال الأشهر الست الماضية. ولدي إثبات على ذلك وهو كتابة صفحة ونصف بائسة من قصة جديدة قررت مسبقاً إتلافها… وأشعر من حين إلى آخر بالتعاسة التي تكاد تمزقني، وفي الوقت نفسه أنا مقتنع بضرورتها وبوجود هدف يقوم المرء بالسير نحوه من خلال تحمل كل أنواع الشقاء.

. . .

23 آذار. عاجزة عن كتابة سطر واحد.

سيلفيا بلاث

(مقتطفات من “اليوميات المطولة لـ سيلفيا بلاث” The Unabridged Journals of Sylvia Plath)

الإثنين، 7 تموز (1958): أعيش بشكل واضح مرحلة الكتابة المبكرة على غرار مرحلة الشهرين اللذين قضيتهما في حالة من الهيستيريا عند بداية مزاولة مهنة التعليم في الخريف المنصرم. مرض، سُعار من الاستياء من كل شيء، ذاتي في الحضيض. أستلقي وأنا مستيقظة ليلاً، مستيقظة ومنهكة بسبب إحساسي بالأعصاب التي تم جزها بالموس. لا بد وأن أكون طبيبة نفسي. يجب أن أعالج هذا الشلل المدمر والجزع الطاحن وأحلام اليقظة. إن أردت الكتابة، فإن هذا بالكاد السبيل الناجع للتصرف- برعب من الكتابة، والتجمد بسببها. شبح الرواية التي لم تولد بعد أشبه برأس ميدوسا. ومضات من الأفكار أو مشاهدات بسيطة حول الشخصيات تخطر على بالي. ولكن ليست لدي أدنى فكرة كيف أبدأ. يتعين عليّ، ربما، أن أبدأ وحسب. ثمة شيء في داخلي يؤكد بأنني سأكتب “ديوان شعر” جيد في اليوم الواحد- ولكن هذا هراء- فأنا أجن عندما أمضي يوماً واحداً في كتابة اثني عشر سطراً رديئاً- كما حدث البارحة. الخطر الذي يحدق بي، بشكل جزئي، كما أعتقد، ينبع من اعتمادي المفرط على تيد (زوجها الشاعر تيد هيوز)… وأنا أستمتع بالحياة عندما يكون تيد في إجازة لفترة وجيزة ويكفّ عن فعل هذا. يمكنني بناء حياتي الداخلية الخاصة، وأفكاري الخاصة، من دون السؤال الذي يكرره بشكل دائم “ما الذي تفكرين به؟ ماذا ستفعلين الآن؟” وهو ما يدفعني في الحال وبطريقة متمردة للتوقف عن التفكير وعن فعل أي شيء. إننا منسجمان بطريقة رائعة. ولكن يجب أن أكون نفسي- أصنع نفسي بنفسي ولا أدعه يقوم بصنع ذاتي…

لن أحصل على جدول كتاباتي من الخارج- يجب أن يأتي من داخلي. سأنصرف عن كتابة الشعر لفترة قصيرة- وأنهي الكتاب الذي أصبحت في منتصفه الآن (أنجزت خمسه على الأقلّ) أتعلم الألمانية (يمكنني فعل هذا) وأكتب مقالاً عن المطبخ (لمجلة “أكسنت أون ليفينج” الأطلسية؟) ومقال عن حياة الطلبة في كامبريدج لمجلة “هاربر”- وقصة “العودة” وأباغت على حين غرّة روايتي في المنتصف. ولا شيء حول الحبكة.

الأربعاء، 9 تموز: أصبحت كتابة النثر بمثابة رهُاب بالنسبة لي: دماغي عاطل عن العمل وأنا أنكمش. لا أستطيع أو لن أستطيع التفكير بصفاء ذهن بحبكة ما. يجب أن أضع الشعر جانباً وأبدأ كتابة قصة ما غداً، كان هذا اليوم عديم الجدوى، شعور قوي مفاجئ بالإرهاق حطّ عليّ مثل طائر. أختلق الذرائع دائماً… يتعين عليّ الشروع في كتابة الخطوط العريضة لحبكة القصة: من الواضح أن هذا يستغرق وقتاً- أتوقع أن أطير إلى الآلة الكاتبة وأشرع بالكتابة. صراع مركزي- حياتي مليئة بهذا. أبدأ من هناك. الزواج: المغازلة. الغيرة. أعرف الزمان والمكان: أجرب وليسلي- الضواحي. شقة في “كامبريدج”، “لو هيلي”، أسلوب مجلة “سات إيف بوست”. الغيرة: غيرة الأخت من أخيها الذي تزوج حديثاً. شاعرة مسكينة. صراع بين زوجين بسبب طفل: لِمَ الخوف؟ رجل لا نظير له بين الرجال. يعيش في الضواحي. لدي بعض الشذرات. مقالات قصيرة. السيدة سبولدينغ قصة لوحدها. يجب أن ألاحظ وظائف الخلفيات التي تتحرك أمامها شخصياتي. السرقة الأدبية في الجامعة. المعلم الشاب. اتخاذ القرار. سأبدأ بهذا: كتابة من 15 إلى 20 صفحة أسبوعياً. لِم لا. وضع متباين. رومانسية في الأجواء. حيثيات الحرم الجامعي. أعرف هذا. سأكتب غداً صفحة عن حبكات القصة والمواضيع. هذا –فقرة عن كل موضوع- الأسلوب والجنس الأدبيان. عديدة أيضاً في “العودة”. سأستخدم باسكن. ها ها. الجميع هنا. إنها حفلة الكوكتيل التي يقيمها أرون. مثلث س**، جايمس وجون. من وجهة نظرة أي شخص؟ فكري، فكري. ادرسي من وجهة نظر التعاطف- المركز العاطفي-

فرجينيا وولف

(مقتطفات من “يوميات كاتبة” A Writer’s Diary)

الجمعة، 8 نيسان. عشر دقائق قبل تمام الحادية عشرة صباحاً (1921)

ويجب أن أكتب “غرفة يعقوب” Jacob’s Room؛ وأعجز عن ذلك، وبدلاً من هذا سأدوّن السبب الذي يمنعني من الكتابة- لتكون هذه اليوميات بمثابة مؤتمن عتيق على الأسرار يحمل وجهاً جامداً. حسناً، كما ترون، أنا فاشلة ككاتبة. أنا قديمة الطراز: قديمة: لن أكتب أفضل من هذا: لا أملك أي خوذة: الربيع في كل مكان: صدر كتابي (قبل أوانه) من دون أن يكتمل، ألعاب نارية رطبة. الآن البذرة الصلبة للحقيقة هي أن رالف أرسل كتابي إلى جريدة “ذا تايمز” لمراجعته من دون تحديد موعد للنشر في المجلة. وكانت النتيجة وصول إخطار قبل فترة قصيرة بأن النشر سيكون “يوم الإثنين على الأكثر” حاصلاً مكان غامض، أو بالأصح مفكك، إطرائي بما كافٍ، لكنه غبي تماماً. وأقصد من ذلك أنهم لا يدركون سعيي وراء شيء مثير للاهتمام. وجعلني هذا أشك بأنني لست كذلك. ولهذا لا أستطيع مواصلة كتابة “يعقوب”. أواه وكتاب “لايتون” قد صدر واستحوذ على ثلاثة أعمدة؛ تثني عليه حسب اعتقادي. لا أكترث لرسم هذا بالترتيب؛ وتعكر مزاجي أكثر فأكثر وخلال نصف ساعة أصبحت يائسة أكثر من أي وقت مضى في حياتي. أعني أنني فكرت بالتوقف عن الكتابة- باستثناء كتابة المراجعات… وأحبطتني فكرة أنني لم أعد أثير اهتمام الناس- في اللحظة ذاتها عندما، بمساعدة الصحافة، فكرت بأنني أقترب من نفسي أكثر من ذي قبل. لا يرغب المرء بسمعة راسخة، كالتي ظننت أنني حصدتها، كإحدى روائياتنا الرائدات. يتوجب علي بالطبع جمع كل النقد الخاص، الذي يعتبر الذوق الحقيقي. وعند تقييمي يجب أن أكون قادرة على تحديد إن كنت كاتبة “مثيرة للاهتمام” أم قديمة الطراز. على أية حال، أنا متحفزة بالشكل الكافي لأتوقف، إن كنت قديمة الطراز. يجب ألا أتحول إلى آلة، ما لم أكن آلة لطحن المقالات. وبينما أكتب، يبرز في مكان ما من رأسي شعور مريب يبعث على السعادة حول شيء لا أستطيع كتابته؛ إنها وجهة نظري الخاصة. مع ذلك أتساءل إن كان إحساسي بأنني أكتب ست مقالات عوض 1500 مقال قد يشوه هذا؟ – يجعلني غريبة الأطوار- كلا، لا أعتقد ذلك. ولكن كما قلت، يتعين على المرء مواجهة الغرور الأجوف الذي هو في العمق تافه ومساوم. أعتقد أن الأمر الضروري الوحيد بالنسبة إليّ هو أن يكون لدي آلاف الاهتمامات- وهكذا إن تعطلت إحداها، فإنني أستطيع على الفور جعل طاقتي تتدفق نحو الكتابة بالروسية أو اليونانية أو نحو الصحافة، أو الحدائق، أو الناس، أو نشاط لا علاقة له بكتاباتي.

 غوستاف فلوبير

(مقتطفات من رسالة بعثها إلى جورج ساند)

أنت وحيد وحزين هناك، وينتابني الشعور نفسه هنا.

من أين يأتي هذا الفيض من الحزن الذي يغمر المرء أحياناً، إنه ينشأ كالمد والجزر، لينتابه شعور بالغرق، ويتعين عليه الهرب. أجلس ساجداً. لا أفعل أي شيء والمد والجزر يعبران.

روايتي تسير على نحوٍ سيء للغاية في هذه الفترة. هذه الفكرة إضافة إلى الوفيات التي سمعت عنها؛ موت كورمنين (صديق موفور الصحة في الخامسة والعشرين)، موت جفارني، ومن ثم موت البقية، ولكن هذا الأمر سيعبر. لا تعرف ما هي تلك الحالة التي تظل فيها طوال اليوم واضعاً رأسك بين يديك محاولاً عصر دماغك البائس للعثور على كلمة ما. الأفكار تعبرك بسهولة بالغة، باستمرار، مثل التيار. الأمر بالنسبة لي خيط رفيع من الماء. العمل الشاق في الفن أمر ضروري بالنسبة لي قبل الحصول على الشلال. آه! أعرف بالتأكيد عذابات الأسلوب.

باختصار أمضي حياتي مرتدياً قلبي وعقلي، تلك هي حقيقة صديقك الواقعية.

______________________________

(يتبع في العدد المقبل)

عن موقع “ليترلي هب”.

*****

خاص بأوكسجين