قصّتان قصيرتان
العدد 242 | 17 آذار 2019
روبرت فالزر


روبرت فالزر (1878- 1956)، كاتب سويسري، يكتب بالألمانية، وُلد في مدينة بييل بسويسرا. لم يُكتب لأعماله الذيوع في أثناء حياته. كتب فالزر الرواية والقصّة القصيرة والمقال الأدبي، يُعدّ أحد آباء الحداثة النثرية في الأدب الألماني في القرن العشرين.

من أشهر رواياته: “ياكوب فون جونتِن”، و”المُعاون”، و”الإخوة تانير”. أثنى على أدبه  كُتّاب كِبار من أمثال هيرمان هسّه، وشتيفان تسفايج، وفرانتس كافكا، وروبرت موزيل. قال عنه فالتر بنيامين في مفتتح مقال قصير عن أعمال فالزر: “يمكنك قراءة الكثير  لروبرت فالزر، لكنكَ لا تستطيع معرفة الكثير  عن حياته”، وذلك في إشارةٍ إلى لزوم فالز العُزلة، والتفرّغ لجولات المشي الطويلة. وقال عنه الكاتب الألماني مارتن فالز  أنّه توأم كافكا الروحي. بينما كتب عنه أديب نوبل الجنوب إفريقي، جون ماكسويل كوتسي مقالًا رائعًا تحدّث فيه عن عبقرية فالزر الأدبية.

تجدر الإشارة إلى أن أسلوب فالزر النثري مارس تأثيرًا واضحًا في جيل كامل من الكُـتّاب المعاصرين، من أهمهم الكاتب النمساوي الكبير بيتر هاندكِه، والألماني الراحل فِنفريد جيورج زيبالد وغيرهم. المفارقة أنّ الباحثين لم ينتبهوا إلى قيمة أعمال فالز  الأدبية إلا في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، أي بعد مرور ربع قرن على وفاته تقريباً.  

تتسم نصوص فالزر القصصية تحديداً ببنائها المُبتكر، مقارنةً بوقت كتابتها (أوائل القرن العشرين)، فهي نصوص غنائية بسيطة، تخلو من الحبكة والحدث الدرامي، لكنها لا تعدم بعداً إنسانياً عميقاً، تطغى عليها الشاعرية، ويسيطر عليها الانغماس التام في عالم الأحلام والطبيعة، إذ لا نكاد نرى وجوداً لعالم البشر، ولا صراعاتهم وانشغالاتهم، وسخافاتهم اليومية.

في نصوصه النثرية القصيرة، خلق روبرت فالزر- الذي عانى طويلًا من شظف العيش، ومن امتهان وظائف مضجرة لا تتناسب مع طبيعته- عالمًا فريدًا مُكتمل الأركان، كان يلوذ إليه إثر  عودته من العمل كل يوم، وهو ما يذكرنا بنمط حياة أحد كبار المُعجبين بأدبه، أقصد التشيكي فرانتس كافكا في أثناء فترة اشتغاله في شركة التأمين على حوادث العمال، وكان كافكا يغرق نفسه في الكتابة المتواصلة ليلًا بعد عودته من العمل، مكرسًا نفسه لأداء مهمّة ينبغي إكمالها.

ترجمتُ النصّين التاليين عن الألمانية مباشرة من كتابه “نصوص قصيرة”، الصادر للمرّة الأولى سنة 1914 عن دار “كورت فولف” في لايبزغ، وذلك ضمن مشروعٍ لنقل مختارات من أعمال روبرت فالز القصصية إلى اللغة العربية قريباً. 

استراحة غداء

في يوم من الأيام اضطجعتُ خلال استراحة الغداء فوق العشب تحت شجرة تفاح. كان الطقس حاراً، وبدا كل شيء أمام عينيّ سابحًا في ضوء أخضر خفيف. هبّت نسمة رقيقة عبر الأشجار، هزّت العشب الجميل.

خلفي مباشرةً، بدت حافة الغابة مُعتمةً بسبب أشجار التنوب المتجهمة. لعبتْ الأمنيات برأسي. تمنيّت لو هبطتْ عليَّ معشوقة تكمل جمال هذه النسمة الحلوة العطِرة. أغلقتُ عندها عينيَّ، ووليت وجهي ناحية السماء، مستلقيًا بهدوء على ظهري، أدندن أغنية صيفية، ومن بين النور الساطع للسماء والبحيرة، لمحتُ عينيْن تنظران نحوي برقةٍ وحنوّ لا حدود لهما. رأيت الخدّين رؤية واضحة، اقترب الخدّان مني كما لو كانا يودّان ملامستي. وعبر نسمة الهواء الزرقاء المخضبة بلون ورديّ خفيف، دنا مني فمُّ ذهبي جميل، مغزول من أشعة الشمس، له شفتان مكتنزتان، دنا الفمّ كما لو كان يودَّ ملامستي.  بدتْ السماء، التي رأيتها بعينيْن مغمضتيْن، زهرية اللون، ومسربلة بمخمل أسود فاخر. خلتني أنظر إلى الفردوس. لكنني، وبمنتهى الحماقة، فتحت عينيَّ فجأة، فتلاشى كل شيء: اختفى الفمُّ الذهبي، والخدّان والعينان، وسُلبتْ مني القبلة السماوية العذبة.

كان الوقت قد حان للعودة إلى المدينة،  وإلى المكتب، وإلى العمل اليومي.

بحسب ما أذكر، نهضت متثاقلًا على مضض، بسبب مفارقة العشب الجميل، وشجرة التفاح، والنسيم وانتهاء الحُلم. لسوء الحظّ فكل ما يأسر قلوبنا في هذا العالم، ويُسعد أرواحنا عمره قصير، ولكن، ولحسن الحظ أيضاً، فكل ما يبعث على القلق، ويثير الضيق في نفوسنا عمره قصير. ولما فطنتُ إلى ذلك، قفزت من فوري، متجهًا إلى مكتبي البارد، مواصلًا العمل بسعادةٍ ونشاط حتى نهاية اليوم.

 

الخادمة

يُحكى أن سيدة ثريّة كانت لديها خادمة، عُـهدَ إليها برعاية طفلة صغيرة. كانت الطفلة رقيقة مثل ضوء القمر، نقيّة مثل ندفة ثلج، محبوبة مثل أشعة الشمس. أحبّتْ الخادمةُ الطفلة بقدر حبها للقمر، وبقدر حبها للشمس، بل وربما بقدر حبها للربّ ذاته.

في يومٍ من الأيام فُقِدتْ الطفلة، لا يعرف أحد كيف فُقِدتْ. سرعان ما هرعت الخادمة للبحث عنها في كل أرجاء العالم، طافت المدن والبلاد كلها، حتى وصلتْ إلى بلاد فارس.

وفي ليلة بعد وصولها، وقفتْ الخادمة أمام برج مُظلم عريض، ينتصب أمام نهر مُظلم عريض. أعلى قمّة البُرج لاح نورٌ أحمرٌ متوهّج. سألتْه الخادمة المؤمنة بالقدر: هلا تدلّني على مكان طفلتي؟ فقدتُها منذ عشر سنوات، وأنا أبحث عنها منذ ذلك الحين. قال النور: اذهبي وابحثي عنها لمدة عشر سنوات أخرى. ثم ذهب النور فجأة.

واصلت الخادمة البحث عن الطفلة لمدة عشر سنوات أخرى، فتّشت عنها في كل مكان، جابت طرق الأرض ووهادها، حتى وصلت إلى فرنسا. وهناك، ذهبتْ إلى مدينة عظيمة رائعة اسمها “باريس”. وفي ليلة وقفت الخادمة أمام بوابة حديقة جميلة، وأجهشتْ بالبكاء لإنها لم تعثر على طفلتها. أخرجتْ منديلها الأحمر لتجفف دموعها. وفجأة، فُتحت بوابة الحديقة، لتخرجَ إليها الطفلة. وما أن رأتها، حتى قضتْ الخادمة نحبها من فرط السعادة.

لماذا ماتت الخادمة؟ وما فائدة موتها الآن؟ أمست الخادمة عجوزًا لا تقوى على الحياة، بينما صارت الطفلة امرأة ناضجة جميلة. لو قُدَّر لك رؤية هذه المرأة الجميلة، أبلغها تحياتي.

__________________________

*****

خاص بأوكسجين


روبرت فالزر (1878- 1956)، كاتب سويسري، يكتب بالألمانية، وُلد في مدينة بييل بسويسرا. لم يُكتب لأعماله الذيوع في أثناء حياته. كتب فالزر الرواية والقصّة القصيرة والمقال الأدبي، يُعدّ أحد آباء الحداثة النثرية في الأدب الألماني في القرن العشرين. rnمن أشهر رواياته: "ياكوب فون جونتِن""، و""المُعاون""، و""الإخوة تانير""."