وقبل أن تخوضوا غمار قراءة هاتين القصيدتين البديعتين، فإن عليكم معرفة أنهما من كتاب “مرثية الأبطال الخارقين” الصادر أخيراً عن محترف أوكسجين للنشر:
ثمَّ غنَّيت للطبقات الكادحة
القارئ/ة العزيز/ة:
…ثمَّ إنَّ الوطنَ لا يحتاجُ إلى مديحٍ أو تجريحٍ أو رثاء. ثمَّ إنَّ الحياةَ الخاصَّةَ بالأفراد لا يُعتدُّ بها في تقييمِ مستوياتِ الحرِّيةِ والعدالةِ الاجتماعيةِ والسعادة. ثمَّ إنَّ الشِّعرَ كائنٌ أخضرُ مغمورٌ بالطحالبِ والرطوبةِ ورائحةِ التَّبغ والأوراقِ العَفِنة. ثمَّ إنَّه، ورَغمَ ذلك، يصعبُ الفكاكُ من سطوةِ الكتبِ التي تُبلِّلُها قطراتُ العرَق، والنمائمُ الصغيرة، وهي تحاولُ سحبَ البساطِ من تحتِ العرشِ لتُعيدَ توزيع الثروة.
أما بعد،
ثمَّ حدثتِ المهزلة. قف.
تقبل/ي فائقَ الاحترامِ والتقدير.
يومٌ تالفٌ آخر، والشمسُ من خلفِ سحُبٍ رماديَّةٍ تتركُ كدَمَاتٍ قاتمةً على المبَاني. الشرفةُ التي أمرُّ بها لألقيَ عليكِ تحيةَ الصباحِ بَدَتْ كهيْكلِ عِبَارةٍ فارغَة. يمرُّ بجانبي آخرون ويظنُّون أنِّي أعمى يتحسَّسُ الرصيفَ بلا عصا، بلا يدٍ لتعبُرَ به الطريق. لا أحدَ منهم يدرِكُ أنِّي، من كثرةِ أذَى الحاضرِ، أحفرُ بعينيَّ شبْهِ المغمضتيْنِ خنادقَ وممرَّاتٍ سرِّية تحت الأرض، في رحلَةٍ داخل الرحلَة. ماذا يفعلُ الجزائريُّ حينَ يشعرُ أنَّ ظلالاً قاتمةً تلاحِقُه؟
هل تنامينَ إلى هذا الوقتِ المتأخِّرِ من النهار؟ ما شكلُ جسَدِكِ على السريرِ في يومِ ميلادك؟ هل تتذكَّرينَ الأيامَ المُشرقَةَ في غرفةٍ بلا ضوء؟ كيفَ كنَّا نتضاجعُ وحولَنا دباباتٌ بلاستيكيَّةٌ صغيرةٌ تصوِّبُ مدافعَها نحونا، بينما الشرفةُ -في حربٍ أخرى- تطلُّ على رجلٍ أعمى تُكاتِفُهُ الظلال.
حتماً سيَنْتَهي العالمُ وأنتِ نائمة، وحينها ستنبتُ لي أجنحةٌ لأطيرَ إلى شرفتِكِ ككائنٍ غيرِ مرئيّ، وسأختطفُكِ بعدَ أنْ أرتِّبَ ملابسَكِ في حقيبةٍ، أشمُّ فيها رائحةَ الصنوبَرِ الذي يحيطُ بالبيت. بيتُكِ العالي المسَوَّرُ بالخرسانَةِ والأسلاكِ الشائكة، بصالونِهِ المليءِ بالصوَرِ العسكريَّة والنَّيَاشِين.
أعبُرُ، أولاً، إلى نومكِ لألْعَقَ شفتيكِ. وأكتشفَ، متأخِّراً، أنَّ ملامحَكِ الرقيقةَ والمنَمَّشة هي ما يُدمِّرُني أكثر.
على أطرافِ الأصابعِ أمرُّ إلى غرفةِ المعيشة، متذكِّراً أمَّكِ الشقراءَ في مدرسةِ الحيِّ، تنصبُ لي فخَّاً حيثُ كنتُ أبولُ مسترخيَّاً كحيوانٍ أليف، لتَسحَبني إلى ساحةِ العَلَم، وكانَ كلُّ ما أتذكَّرُهُ رذاذَ البَوْلِ على ملابِسي الفقيرة، وضحكاتِ زملائي التي ترنُّ في أذني، إلى اليوم، كصوتِ تكسُّرِ قشورِ البَيْض.
أنا الذي رأيتُ الأيامَ الطويلةَ، ومسيراتِ السقوطِ العظيم، والجراحَ التي تبلِّلُ هذا الترابَ الجافَّ، أمرُّ عبرَ السياجِ والأسوارِ العاليةِ مثلَ كلماتي وهي توَشوِشُ في أذنكِ: «نحتاجُ في رحلتنا القادمةِ إلى الكثيرِ من الجليدِ لنشهدَ نهاية العالم»، وكرجلٍ أيامُهُ تالِفةٌ سلفاً، أحمِلُكِ أغنيةً عبر شوارع المدينة، تُردِّدها الطبقاتُ الكادحةُ في الأقاصي، لنُعيدَ توزيعَ الثروةِ في بلدٍ نحبُّه كأنَّنا فقدناه. وفي شارعٍ مأهولٍ بالأشباح، نفكِّكُ الأوقاتَ التعيسةَ ونتساءل: كم لدينا من الغدِ، لنقرأ كلَّ هذه الشتائمِ على الجدران؟
أجسادٌ محلِّيةُ الصنع
أخاديدُ المدينةِ أنهارٌ جفَّتْ قبل الأوان. شرايينُها طرقٌ ذابتْ تحتَ أقدامِ السائرين، وهذهِ الأفكارُ الفاسدةُ أسلخُها من جلدي لأتحدَّثَ عن الحرِّيةِ والديمقراطية، بلا حرِّيةٍ وديمقراطية، إنَّما بأيدٍ تحتجُّ كأزهارِ عبَّادِ الشمس.
أكتبُ مستعيناً بلغةٍ مليئةٍ بأشباحٍ مرئيَّة أراها تمشي بحذرٍ على صفحاتٍ فارغةٍ تشبهُ أرضاً مزروعةً بالألغام.
أكتبُ كمَنْ يعودُ إلى البيتِ بكلِّ ما خسِرَهُ في الطريقِ إلى البيت.
على ضفافِ نهرٍ بعيدٍ ألمحُ امرأةً تمشي فوقَ الماء، حيثُ لا يوجدُ ماء.
ألوِّحُ لها، وقد تحوَّلتُ إلى جزيئاتِ غبارٍ ممزوجةٍ برائحةِ كتابٍ قديم.
المروحةُ تذكِّرني بالدورانِ في مكانِي كهواءٍ مستعمَلٍ، كصورةِ GIF متحرِّكة.
من مكاني، أعيدُ ترتيبَ العالَم بلهجتي القاسية، بكلماتٍ هجينةٍ تنمو على لساني كنبتةٍ برِّية، وأتساءل: بأيِّ الشتائمِ أحتفظ؟ وعن أيِّ ذاكرةٍ أتخلى؟
كيف أدرِكُ أنَّ الماضي ليسَ من الماضي في شيء؟
وأنَّ الخسارةَ مسألةُ وقتٍ فقط،
مثلُ محيطٍ يبتلع، على مهلٍ، مدينةً بأكملها.
«من هنا بدأَتِ الحكاية، وستظلُّ تبدأُ دائماً» -أقولُ لها، ونحنُ نمشِي عبرَ شوارعِ المدينة الرطِبة: يمكن هنا أن تنتهيَ صلاحيتُنا، ونتعفَّنَ كأجسادٍ محلِّيّةِ الصُّنع. يمكنُ أن نضيعَ في الهواءِ كجزيئاتِ غُبار، وأنْ نطيرَ كأوراقِ شجرٍ ميِّتةٍ قبلَ أن تدوسَنا الأقدامُ المستعجِلة.
«إنَّها الملهاة» -تقولُ لي، «هذا بلدٌ حقيقيٌّ، تماماً كما هو القفصُ لعصفورٍ ينتفُ ريشَهُ كلَّ صباح».
وحياتُك: «ذبذباتٌ لموجةٍ إذاعيّةٍ متقطِّعة… ثمَّ فجأةً يتوقَّفُ البث».
*****
خاص بأوكسجين