في مديح أبي
العدد 187 | 07 شباط 2016
محمد المطرود


(1)

لم يكن أبي بعثيا، كانَ له أصدقاء بعثيين وسُقطٌ وحثالات، فيهم مجدوعَ الأنف ثقيل السمع واللقيط والموظف الصغير بقراءته المتكسّرة وخطّه المنفلش، يوهمُ جلاّسه الأميين ومنهم أبي بالثقافة، هو آذن المركز الثقافي في المدينة، يتحدث باسم رئيس المركز، يصحُّ عليه المثل: ” الكلب الراكض في ظل العربة يظن ظل العربة ظله” أبداً لاينطبق عليه المثل” كلبُ الأميرِ أميرٌ” فمدير المركز ليس أميراً وإنما أجيراً رخيصاً وكلبه لن يكون إلاَّ رخيصاً مثل صاحبه. يجلسون في مقهىَ صغير، كراس من القش وطاولات واطئة، يدفعُ أبي دائماً ثمنَ المشاريب ليؤمن ضحكة اليوم بهذا الثمن البخس، وكانَ هذا المبلغ الصغير آنذاك كافياً ليهزَّ هؤلاءَ(السقط) ذيلهم، فيكيلونَ المديح ويقسمون لو أنَّ أبي تعرضَ لأمرٍ سيفدونه بأرواحهم، لقد كانوا من هيئتهم المتداعية للسقوط كحيطان مائلة بنصف روح ونصف جسد، ولايعول عليهم بأكثر من نكاتهم السمجة وبطولاتهم الوهمية جلها أيام شبابهم، وإذا كان المكتوب يُقرأ من عنوانه فمن الواضح أنَّ شبابهم الذي ولى لايختلف عن يومهم الذي هم فيه. وأبي يقول عن هذه الصحبةِ غير المتكافئة:” ضرورة”!.

(2)

يخرجُ أبي صباحاً، أمرّهُ في طريقي إلى إعدادية( البحتري) جالساً في مقهىَ القصر بوجهه الجميل وهندامه النظيف والمرتب، في ذلك الوقت لايترك أبي فرشاة الأسنان والعطر الفاخر، تحول من رجل بدوي إلى رجل عصري من الداخل، يضبط انفعالاتهُ ويستطيع أن يدير حواراً ويستشهدَ بالقصص والقصيدة، وكنتُ أفتح فمي مع من معي مندهشاً بهذه السلاسةِ والذاكرة النار، وهنا أبي ليس أبي في المقهى ذي الكراسي الخشبية البائس، له أصدقاؤه من عليةِ القوم، يتحدثون في أمور عظيمة، وتتلصص عليهم الطاولات المجاورة، وحينَ استفزَ حديث أبي أحدهم من طاولة أخرى فردة فعل البدوي بلكمته للمستفز_ هذه المرة_ سبقت حلمه وحكمته، قبضة أبي الذي يفاخر بأنه فطم على حليب النياق والسمن العربي الثقيل كانت ثقيلة على المفعول بهِ، لقد قلبنا الطاولةَ على المساعد أول في الأمن، فقلبَ( المساعد) علينا الدنيا. ضُربتُ أنا ودفعَ أبي جيبه، ولأنَّ الرجل تمدد على سرير في مشفى، رعيناه وأسرته لأشهر، كان على البدوي الذي هو أبي أن يتحلىَّ بالصبر أكثر في دولةِ البعث ويمرّق بالتجاهلِ تلك الطعنة في الظهر. أنها دولة البعث يا أبي!.

(3)

في الأشهر الأولىَ التي تلت مجيئي للحياة، أعتقلَ أبي المهرّب، وفي (قصر النهاية) و(أبو غريب) تحولَّ الأمي من مهرب إلى سياسي، وعندما حبوتُ، تبعتُ أطفالاً أكبر مني إلىَ بيت المونةِ، فسقطت ثلاثة أكياس من الحنطة، شكلّت مثلثاً حولي، ولمْ أمت، في السنة الثالثة شربتَ الكاز المُعد للفوانيس واللمبات، أردتُ أن أشتعلَ وأضيءَ مثلها، ولم أمت، عندها وعدتني جدتني أن تصحبني إلى بغداد، إلى سجنها المركزي، كنت قاربت الخامسة، كان أبي مبتسماً ومطمئناً، وقال لجدتي أنَّ السجانَ الذي عذبهم كثيراً ووشم أجسادهم بالكهرباء وأسياخِ الحديد، سقطت طائرة شراعية فوق بيته فأحرقت أسرته   بالكامل ونجا وحده لوجوده خارج البيت منشغلاً بالتعذيب، كلُّ الذين سمعوا الخبر أفرحتهم نجاته، موته كان يعني الخلاص وهذا لاعدل فيه، الجيد أنّهُ سيموت في اليوم الواحد أكثر من مرة، كلمّا تذكّر الأسرة التي أصبحت رماداً بعد عين. حوقلت جدتي، والتفتت إليَّ، قالت لي فيما بعد أنَّ دمعة كبيرةً خرّت من عيني اليسرى.

لا أدري لمَ تلكَ الدمعة، هل كانت لارتخاء في عضلة العين، أم أنها عاطفةٌ زائدة، سيبقىَ الطفل الذي كان وكبرَ سريعاً أن يدفعَ ضريبتها الكثير من مثالب الأهل وطعنات الأصدقاء والنساء وعابري السبيل والطارئين؟!.

(4)

أبي كان مغامراً، رأيتهُ يركبُ الخيلَ، ورأيتهُ مقعداً أيضاً، كانَ مهرباً للأسلحة ويفاخرُ أنه باع لصدام حسين في القامشلي ثمانية بواريد( إسترلنغ)، النائب في السبعينيات الذي أشرف بنفسهِ على إحدى حفلات التعذيب للرجل الذي باعه السلاح، يتذكر هذا الرجل المقعد اليوم الكثير من تلك الأيام، بل يتذكر الست سنوات العراقية أكثر مما يتذكر سني عمره ومنها إشتراكه في غزوات القبائل وكذلكَ عمله كقاطع طريق(حنشَل). الآثار على الجسد والوهن في العين اليسرى من ركلة (التوديع) من قصر النهاية إلى السجن المركزي، جعلت أبي مرناً لايضرب زوجه ولا أطفاله، بل كنتُ أخمش وجهه كقط وأوجه له الضربة تلو الآخرى حتى الحصول على وعد قاطع بشراء دراجة هوائية أو مسدس خلبي، وأبي لم يكن إقطاعياً لكنهُ لايحبُ اليسار، لذلك صرتُ يسارياً بحكمِ الخؤولة، وأكتبُ ” الأرض لمن يعمل بها ولكل حسب جهده” وكانَ أبي يصرُّ على أن الأرض لمن يحتلها، لم تكن نبوءة من البدوي، لكنَ الذي يحدث يجعلني أن أصدق أبي أكثر من ميشيل عفلّق وكارل ماركس!.

(5)

مَدحُ أبي لايقلُ عن ذمهِ، تزوجَ من أمي الصغيرة، الكردية البيضاء، بقلبها الأبيض وخفتها التي تشبه حركة الغزالة ورنين خلخالها ودنين ذهبها، وأحالَ زوجته الكبيرة إلى التقاعد، وكما كانَ يجيد استخدام السلاح والتصويب في أسفل ومنتصف الهدف، كانَ يصيبُ قلب زوجتهُ العبطة الشهية، أنجب منها أنا وآخر، طفلانِ محكومان باليتم، ولأن أمي كانت جميلة بشعرها الأسود الطويل وعينيها السوداوين، اختارتها مشيئة الله مبكراً، ولأنَّ أبي يحبها كثيراً، أرادَ أن يسقط في بئر نسيانها، تزوجَّ بعدَ شهرين من رحلتها الأبدية امرأة غريبة، أنجبت له أولاداً صبيان وبنات، ولأنها مثل أبي أحبتنا، رأت بقاءنا تحت سقف واحدة مفسدة للمحبة، فاختارت لنا طريقا يفضي إلى يتم أكبر، لذلك عندما رأى أبي حذائي المفطور كقلبي إلى قسمين، وكنتُ وقتها طالباً في السنة الأولى من إعداد المعلمين، وخارجاً عن سلطته في غرفة آجار بائسة في طرفِ المدينة، تحديداً في أوسخِ أحيائها دس في جيبي ثمن حذاء جديد، وقال لي: لاتخبر أحداً، (الأحد) هذا زوجتهُ. منذ ذاك الوقت ياأبي وأنا أشتري الأحذية دون أن ألجم شهوةَ امتلاكها العارمة!.

(6)

يحبُّ الشعر، يحبُّ الويسكي، يحبّ سميرة توفيق وساجدة عبيد وصبيحة ذياب، عندما قلت له مرة رأيت صبيحة ذياب تجلس مذلولة في كازينو بدمشق في الصفوف الخلفية وتنظر إلى ابنتها الطويلة الممشوقة ترقص في صحن الصالة، تأثرَّ كثيراً، قال: “كانت ملكة زمانها، وكم تقاتلَ الرجال للظفر بقلبها واهتمامها”، قالها بحسرة كما لو أنَّ صبيحة بنت ذياب صديقة شخصية له،  وقال عنَ الشعر:” أنهُ لايطعم الجياع خبزا، وهو ليس شهادة، لتفاخر بها” وكلما رآني منهمكاً في كتابةٍ قال:” الشعر عملَ الفاشلين” إلى أنْ حملتُ له بعضاً من جائزة فزتُ بها، وصار اسمي يتردد على الألسنة، كان أبي يقول لمجالسيه:” كنت أعرف هذا الولد سيحترقُ بهذه النار”.

في آخر اتصال هاتفي، إذ فصلت بيننا أبحر وأنهر وبلدان كثيرة وسنوات كثيرة، كان هادئاً وحنوناً وتمنىَّ على نفسه لو يراني مرة ومن بعدها يغمضُ عينيه إلى الأبد، وسألني عن الثورة والشعر وأولادي، يبدو أنَّ الثورات تطالُ النفوسَ قبل البلاد. غيرّتني وغيّرتكَ يا أبي.

أبي كانَ مظلوماً وظالماً وقاسياً وحنوناً، يحبُّ نفسهُ، ويحبُّ الآخرين، عادلاً في تركنا لحالنا تعصف بنا الأيام وتقلع خيامنا التي لم نقوَ على دقِّ أوتادها في تربتنا الهشة، توزعنّا على المنافي وأحببنا الثورات أكثر، وصرنا نتابع التلفزيون يا أبي لا لشيء وإنما لنعرف حصيلة عدد الشهداء كل يوم.

شكراً.. شكراً من القلب على الحذاء والدراجة الهوائية وتلك الدفعة المهمة من أعلى التل، وأنت تدفعني لأطير نحو الأسفل إلى تلك السهول الصعبة وقد صارت بعيدة، بعيدة جداً يا أبي.

__________________________________

كاتب من سورية صدر له “اسمه أحمد وظله النار” 2014.

الصورة من فيلم “مكبث” 2015 ، إخراج جاستن كارزل.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. صدر له "اسمه أحمد وظله النار"" 2014.rn"

مساهمات أخرى للكاتب/ة: