جاء في إحدى رسائل ريلكه: “معظمُ الأحداثِ لا يُمكن التَّعبير عنها بالكلمات، وتحدُث في مكان لم تطأه يومًا كلمةٌ”. كثيرةٌ هي الكلماتُ العاجزة عن المشي اليوم، لا تُسعفها أقدامُها لأن تطأ ذلك المكان، حيث تقعُ معظمُ الأحداث. بات كلُّ شيءٍ موجزًا، ويمرُّ كشريطِ أخباريٍّ. مثل ومضاتٍ خاطفة، كما لو أنَّها لحظةُ استعادةٍ مؤلمةٍ لذكرى ما، تضرِبُنا كالبَرقِ وتمضي.
تغوصُ عينايَ في الشَّاشةِ، تخترُقها، ويتحوَّل شريطُ الأخبارِ إلى جملٍ شِعريَّة عاجِلة، تعبرُ رأسي ببطءٍ، ثم تلتصقُ بالشاشة وتتكرَّرُ بشكلٍ ساحر: “أحِبّ عُزلتك” – رينيه ماريا ريلكه. “قد يكون الضوءُ حزنًا آخر” – قسطنطين كفافيس ..
أستغلُّ الوضع وأحاولُ إقحام كلماتي، شتيمة مخبَّأة في أعماقي، لمثل هذا اليوم، “ليوم كأنّه الدَّهر” كما يمرُّ أمامي الآن لروبرت فروست، أطلق شتيمتي بصوتٍ عالٍ كأنّها آخر صرخاتي؛ يُقطعُ شريط الأخبار، ويُعلَن عن نشرة أخبار عاجلة، تقول فيها المقدّمة الجميلةُ، التي تظهرُ عارية الصّدر، بشعرٍ مُبلَّلٍ كأنها خرجت للتوِّ من الحمّام:
“الكلمةُ التي ستَختِم القصيدة
ستكونُ أقربَ إلى الموت
من الكلمةِ التي تفتتحُها”
كتبَ ذات يومٍ فيليب جاكوتيه، تُضيفُ، عاريتي، معلِّقةً، وتختفي.
*
المواربةُ انتهاكٌ لليقين، جرحٌ قديمٌ على ذراعٍ رُخامية، قُبْحٌ يُقاسُ به النقصُ الفادِح في الجمال. المواربةُ شكٌّ مكتملٌ، كتابةٌ ومحوٌ، دربُ المرتابينَ، طرقٌ هامشيةٌ نحوَ وجهةٍ مجهولة، تلك التي يَسلُكها العاطلونَ عن الأمل، والكادحونَ الذين يكتبون الشِّعر، يكتبونَ أجسادهم، يكتبونَ مُدنهم، وأوطانهم المشتعلة في الخرائط. في هذا الحشدِ أنا: قدمانِ وسيرٌ لا ينتهي، في الواقع وفي المنام وفي الخيال. كلُّ حياتي تتلخَّصُ في المشي، في حثِّ الخطى، ذهابًا وإيابًا، على الأرصفة وإسفلت الُّطرقات وتراب الممرّات وحصى المسالِك الوَعرَة، وفيما يجعلُ الألمَ يرتكزُ في منطقةِ القدميْن، اتصالُنا الأول والمُباشِر والدَّائم بالحياة، باليابِسة قبل البحر، بالأرض قبل السماء، بالجغرافيا قبل التاريخ.
*
قدمكِ الحافيةُ من تحتِ المكتب، وقد انسلت من كعبكِ العالي؛ إحدى وسائل التَّعذيب غير المُوثَّقة.
*
الزَّمن تكلَّسَ، والجدران تتآكل من أنفاسنا الرَّطبة. في غرفةِ النَّومِ، يمتدُّ، من النافذة، شارعٌ فارغٌ، بحاناتٍ مُغلقة، وإشاراتِ مرورٍ وحيدة، تبحثُ عن أيِّ عابرٍ ليليٍّ لتوقفه، من أجلِ استبقائه إلى جانبها مدَّة أطول. ضوء أحمر وضوء أخضر، وما من برتقاليّ بينهما، الخطرُ انتقلَ إلى أمكنةٍ أخرى، وباتَ جسدًا، تُبعدهُ المسافات، والعوازل، القفازاتُ والكمَّامات. أتحدَّث عن صالة العالم الفارغة، بينما أحضنكِ وأتمادى في حكِّ قدميَّ بقدميْكِ.
****
خاص بأوكسجين