في انتظار الضيف
العدد 261 | 14 تشرين الثاني 2020
مروان عثمان


 

 لم يتركه عقله الباطن للنوم في تلك الليلة، ولا هو فَضَل إغلاق عينيه والجلوس في الظلام الدامس، هب واقفًا في مكانه، ضغط زر المصباح الكهربائي في غرفته، ثم تركها واتجه إلى المطبخ، وضع براد الشاي على النار، وبشعلة البوتاجاز أشعل سيجارته، وشرد عقله وهو يمج منها متأملًا ما أوصله لتلك اللحظة…

 بدأ هذا الحدث الجلل برمته عندما شعر ببعض الضيق من حجم أرغفة الخبز التي اشتراها في طريقه للمنزل، فالتقط لها صورًا ورفعها على حساب فيسبوك الخاص به كاتبًا “بعد كدا هجيب عيش من برا التموين أكله، وهجيب عيش التموين أحلف عليه، دي صورة للعيش قبل ما يتاكل والله ههههه”

 ونالت سخريته المريرة تلك إعجاب أصدقائه القلائل على فيسبوك، وبعض أصدقاء أصدقائه الذين رأوا ما كتب.

 وكاد موضوع الرغيف الصغير هذا أن ينتهي في لمحة صغيرة كالرغيف نفسه، لكن الأمور تعقدت عندما دخل أحد زملائه في العمل الجديد معلقًا:

“طب وأنت مزعل نفسك أوي كدا ليه ما طالما البلد مش عاجباك ما تسيبها وتمشي”

 بدا الضيق في تعليقه، وفطن هو للأمر، فطن لتعليقه السلبي، كما فطن لقيام الزميل منذ البدء بإرسال طلب صداقة له ليس تقربًا منه، وإنما تصيدًا ولو لنصف خطأ باستطاعته تكبيره وإلقاء الضوء عليه.

 لكنه رغم ذلك فَضَل تسلية نفسه بإغضابه فرد عليه:

“والله الواحد من زمان بيفكر يسيب البلد ويمشي بس في رقبته حكومة بيصرف عليها”

 وأغرق زميله الجلف في موجة من الضحكات والسخرية من الأصدقاء وغير الأصدقاء الذين اقتطعوا تعليقه الطريف وجعلوه مادة للسخرية من الحكومة.

 وفجأة دون مقدمات دخل مديره نفسه ورد على تعليقه الأخير:

“والله عال، في رقبتك حكومة بتصرف عليها!، ده ناقص تقول إنك بتقبضني كمان”

 ولم يفهم سبب وجود المدير ولهجته المنفعلة دائمًا في هذا المكان وفي هذا الوقت، لكنه بلا شك ربط القصة كلها بالزميل الخبيث، وظل ينظر للتعليق محاولًا التفكير في كتابة تعليق آخر يمحو به هذا المأزق الذي دخله بقدميه، لكنه تراجع.

 ثم عاودته الفكرة مجددًا في شكل آخر، فقرر الدخول عند المدير وإرسال رسالة اعتذار خاصة، وبدأ يكتب…

 ثم قال لنفسه “وعلام الاعتذار! لم أوجه إليه كلمة من الأساس!”

 وصرفت فكرة انتصار الزميل الخبيث عليه فكرة الاعتذار نهائيًا!

 فعاد إلى منشوره وحاول التفكير في كتابة جملة لا تحمل إهانة لأحد وفي نفس الوقت تخرجه من المأزق، لكنه وجد تعليقًا من شخص لا يعرفه:

“إنت مين عشان تشتم الحكومة يا خروف، الحكومة هتعرفك تاكل ازاي وتقول إيه!”

 ظنها تهديدات من تلك التي تملأ كل زوايا الموقع الأزرق حتى أفقدت التهديد لذته، لكنه تلقى رسالة من صاحب التعليق الغامض افتتحها بعنوانه تفصيليًا، وعرفه بنفسه أنه ضابط، وسيأتون لتلقينه درسًا في قواعد استخدام الانترنت!

 رأى صاحبنا الرسالة، وغاص في فلك بدأه بمن هذا؟!

وصولًا إلى من أين له بعنواني!

وإنتهاءً بالغرق في البحث عن إجابة منطقية لهذا اللا منطق!

* * *

 أعاده للحياة مجددًا صوت المياه وهي تغلي في البراد، صب كوب الشاي، ونظر للساعة المثبتة على جدار المطبخ “إنها الثانية والنصف، لقد حدد الفجر موعدًا لمجيئه، وها قد اقترب الفجر..”

 جلس على الكرسي الموجود في المطبخ، ونسى أنه جاء إليه لعمل كوب من الشاي فقط، دقائق ورشف أول رشفة منه، وقال بصوت بدا مسموعًا “أظن أن القادمين هم الوحيدون الذين يتمنى المرء لو تأخروا عنه أو نسوه”، أخذ رشفة أخرى وقال بصوت تأكد أنه أعلى “يليهم في الترتيب ملاك الموت بالتأكيد”.

 ورغم هذا المونولوج الساخر الذي قدمه، لم تند عن وجهه ولو شبه ابتسامة جافة، لكنه كان يعلم جيدًا، لو كان شخص آخر موجودًا معه بالمطبخ، لاشتكى الجيران من جلجلة ضحكاته في هذا الوقت المتأخر.

 عاد لغرفة النوم وتمدد على السرير، سمع صوت سيارة مسرعة في الشارع، فقام وركض مفزوعًا إلى الشرفة التي كاد يواصل جريه بعدها نحو الشارع دون أن يشعر.

 دقق النظر فوجدها سيارة إسعاف في شارع بعيد عنه، فتنفس الصعداء وعاد للداخل اتقاءً للبرودة.

 دخل إلى غرفة ابنيه النائمين فقبّلهما بتأثر، وأخذ غطاءً خفيفًا، وعاد للاستلقاء على الأريكة الموجودة في الصالة…

 سمع صوت نباح كلاب الشوارع، نفس الصوت الذي يسمعه بانتظام ولا يلقي له بالًا، لكنه بدا مرعبًا هذه الليلة!

 أقنع نفسه أنه لن يستطيع النوم، فقام ليفعل شيئًا مفيدًا، دخل الغرفة التي تنام فيها زوجته وفتح الدولاب، أخرج حقيبة سفر كبيرة، والكثير من الملابس الداخلية.

 عاد للمطبخ ولم يلتفت لكوب الشاي الذي نسي إنهائه، فتح الثلاجة وأخرج بعض الأطعمة المعلبة، وعاد للصالة ليبدأ ترتيب حقيبة السفر.

 تذكر في تلك اللحظة، قصة كان قد قرأها من قبل على فيسبوك أيضًا، قصة تتعلق بملك فرنسا لويس الرابع عشر عندما أخبر سجينًا قبل إعدامه بليلة واحدة، أنه سيترك له فرصة أخيرة للهرب، وظل يبحث طوال الليل عن نفقٍ مخبأ تحت الأرض، أو قطعٍ في حديد الزنزانة، جزءٍ ضعيفٍ من الجدار…

 حتى وجده الحراس في صبيحة اليوم التالي وقد مات من الصدمة، ولم يلاحظ طوال الليل أن باب الزنزانة لم يكن موصدًا بالقفل…

 حاول ربط تلك القصة بالأحداث التي يمر بها، فكر قليلًا، اضطرب، تشوش عقله، شعر أن قصته لا علاقة لها بتلك القصة!

 سمع صوت المصعد، وهو صوت من النادر سماعه بالتأكيد في تلك الساعة من الليل، اعتدل في جلسته وقال لنفسه “أظنهم جاءوا أخيرًا!”، لولا أنه سمع بعد ذلك بابًا يُفتح في الطابق الأعلى منه، فتنهد وعاود التنفس من جديد.

 قال في نفسه “لعلهم جاءوا ولم يتمكنوا من الصعود بسبب شفرة المصعد!، ثم حاولوا إيقاظ البواب من نومه الثقيل ففشلوا وقرروا العودة يائسين من حيث جاءوا!”

 سمع صوت أذان الفجر وقد اقشعر بدنه لسماعه لأول مره في حياته، توضأ، وصلي ركعتي الفجر، متبوعة بركعتين من الشكر، وذهب للسرير ولسانه يلهج بالدعاء لمخترع شفرة المصعد الذي أنقذه، والذي لطالما تأفف واستعجب من فكرة اختراعه الغريب!

*****

خاص بأوكسجين


قاص ورائي من مصر. صدر له رواية بعنوان "حكاية سقطت من الزمن"" (2017)."