(أ)
في الساعة التاسعة أو الحادية عشرة تحس هواء المكيف يحك جبهتك كلما تحركت موجة الهواء للأسفل، بحركة نمطية هادئة. هواء منعش وغامر. تجلس لتشرب الشاي برخاوة مفرطة، ونسيان مريح للزمن. أشعِل سيجارة إن كنت مدخناً، لا عليك، إن حافظت على تدخين عدد محدود من السجائر لن تصاب بسرطان الرئتين. وفي بعض الأحيان لن تصاب بسرطان الرئتين حتى مع تدخين عدد غير محدود من السجائر ـ لاحظ أن السرطان يُعرّف على أنه انقسام خلوي غير محدود ـ تشرب الشاي، وتمد ساقيك بعد أن شعرت بتنمل وانقباض. مطمئن أن ابنك في غرفته بسبابته الطرية يقلب اليوتيوب بجوال أمه، بينما ابنك هذا في غرفته يعبث بماكينة الحلاقة التي اشتريتَها من أمازون شبه جديدة، وربما جز بعض شعره وبكى. تلوم زوجتك وأنتما مستلقيان على السرير، قالت لك إنها تريد أن تنام بينما أرادت أن تقول إن الموضوع لا يستلزم كل هذا، وفيما بعد تحلق لابنك شعره بتساوي. تشرب الشاي الأحمر بكاسة ليس لها يد، تتذكر أنك رأيت مثل هذه الكاسات في مسلسل الحيالة وأعجبتك، لكنك متوهم، في الحيالة شرب دواس بن علف الشاي الأحمر في مقهى النوابغ بكاسة ذات يد. يحيى الشهري – يزعجك ضيق سروالك الداخلي – يمرر كرة بعرض الملعب على القناة الرياضية الأولى، إذاً ليست الساعة الحادية عشرة كما توهمنا نحن أيضاً. تفكر إن كان يمكنك الخروج للاستراحة، تأخر الوقت، أو أن الرخاوة المفرطة وبطاقة دعوة الزواج التي طرحتها عند قدمك بعد أن قرأتها تمنعك من التفكير في الخروج، لابد أن تنتظر زوجتك لتوصلها إلى قاعة الأفراح. زوجتك التي “تسشور” شعرها الآن وتنتظر رد أختها على “الواتس آب”. بطاقة بيضاء بإطار فضي لامع، بحروف بارزة: يتشرف العميد الطيار… أبناء المرحوم الشيخ قبلان … بدعوتكم لحضور حفل زواج ابننا المهندس بدر … على كريمة اللواء محسن … في الطريق قل لها أن ترجع مع أخيها أو أن تتدبر أمرها. أبوسعود الذي يمسك جواله الآن ويقربه لأذنه، أذنه التي نمى على جلد غضروفها شعر قبيح المنظر، وامتلأت بالشمع المتجلط، يطلب منك أن تحضر للاستراحة لأن الليلة حامية. العشاء سمك سيجان مقلي ورز أبيض. أنت تعرف لماذا يحرص على دعوتك؟ يريد أن يعوض خسارة البارحة، يشعر بمرارة لا تظهر، لو أن الحضري عبدالرزاق لم يقل له: يا غشيم ضيعت الكبوت* ويضرب الورق بالأرض ربما لن يشعر بمرارة لا تظهر، ولن يُذكرك بالسيجان المقلي. لذلك لا تلعب، وقل له أنك لا تلعب ضد مبتدئ. أبو سعود ضعيف عقل، أو هكذا يبدو. والله إن في عقله شيئاً، لكن لا أستطيع تحديده. لا يبعد أن يكون مثل معرّض – وهو من أخوال جرير – حينما غزا أخوته قبل الإسلام وخلّفوه عند أهلهم، قالوا له تكون عند نسائنا حتى لا يسبين. فلما ذهب أخوته، أتى النساء وأولادهن، فأتى بهن بئراً غير مطوية واسعٌ أسفلها ضيق فمها، فألقاهم فيها. وأخذ صفيحة من الحجارة وأغلق بها فم البئر. ثم اتّبع أخوته فلما لحق بهم، قالوا له لم تركت نساءنا، فأعلمهم خبره. فرجعوا فأخرجوهم وقد مات بعضهم. وكاد بعضهم يموت من الجوع والغم. أبو سعود الذي تجلط شمع أذنه ولم يفعل له الدكتور في عيادة الأنف والأذن والحنجرة شيء سوى أنه أعطاه قطرة مذيبة، وقال له تعود لي بعد يومين أو ثلاثة، نسيت. أبو سعود هذا لا يبعد أن يكون مثل معرّض إلا أنه لن يُقاتل، وفي بعض المرات حينما ينزعج من غباء بعض الكلام الذي يسمعه في الاستراحة وتتعرق كفه ويشعر بعجز عضلاته عن حمل وزنه الزائد، يقول سؤاله الاعتراضي الأبدي، الذي وُجد مع أول موظف بيروقراطي استلم أجرته: إذا انقطع الراتب كيف بنعيش؟ يلفظ “نعيش” بهدوء وثقة من أفحم ستة وثلاثين عالماً من علماء الشيعة والجهمية والمعتزلة وخمسة من عوام السنة ونسيت من أيضاً. لكنه لن يُقاتل، وإذا طُلب للتجنيد الإجباري – وأنا أتخيل هذا من عندي لأن التجنيد الإجباري لم يسن حتى الآن – سوف يستخرج تقريراً طبياً يثبت أنه يعاني من الروماتيزم، وزيادة الوزن، وضيق في التنفس وصلع، وتصلب لويحي، وبهاق، وزوجة غير متفهمة. يجلس أبوسعود في الاستراحة. هو شيخها في الحقيقة، من اتصل بك وقال لك سمك سيجان؟ من يشتري السكر والشاي؟ يشتري البن المحموس من محمصة المرواني؟ من جدد اشتراك bein sports عن طريق شخص كويتي رغم أنه لا يهتم بالكرة؟ اشترى أوراق لعب البالوت، هي نفسها الأوراق التي خسر بها البارحة. أبو سعود كريم، مهما قلنا إلا أنه كريم والله. إذا انتهت الأموال المخصصة للاستراحة لا ينتظر، يشتري كل ما يلزم من مرتبه الذي يستلمه آخر الشهر ويقول كيف نعيش بدونه. أبو سعود الذي خرج من منزله منتصف العصر، الذي أنجب من زوجته طفلهما الأول بعد ثمان سنوات من الزواج، أبو سعود الذي باع أرضاً له بأربعين ألفاً، ترك تشجيع الاتحاد من أيام الحسن اليامي، وإذا شاهد لاعباً اتحادياً أسود على القناة الرياضية يسأل هل هذا حمزة إدريس؟ بعد مشاهدة المباراة وبعد العشاء وبعد كاسة شاي أحمر تستطعم به حلاوة السكر، يجادل حول أي شيء يُقال. يقرأ من حسابه على تويتر بعض الأخبار الغريبة ويعلق عليها، ثم يقول: لا.. لا طلع خبر قديم. ويشعر بالحرج، وعجز عضلاته. عبدالرزاق الحضري يعارضه في كل كلمة يقولها، لأن أبو سعود لن يُقاتل حينما يُسخر منه، بل يٌصبح مضحكاً. يحّمر وجهه الأبيض، ويحرك يديه، وتخرج بعض قطرات بول لا يدري عنها، يغضب ولا ينتفخ، نعم، لا ينتفخ. يرتفع صوته ويردد كلامه مقاطعاً وعبدالرزاق يضحك ويقاطعه ويرفع صوته ليغضبه. ولا تعجب من قولي لك أنه لا ينتفخ ولا تظن أنني أُبالغ، لأنك في حياتك لم تر من ينتفخ. حسناً، البارحة أو قبل البارحة لعبنا صكة بالوت، عبدالرزاق الخسيس مع أبو سعود وأنا مع الدكتور، أبو سعود الذي يلعب البالوت بأوراق لعب هو اشتراها تسبب بإضاعة كبوت، لأنه لم يلعب إكة الديمن التي يمسكها بأصابعه القصيرةالمدببة. الحضري عبدالرزاق انفعل وقال: يا غشيم ضيعت الكبوت، وضرب الورق بالأرض. وتعلّق – كلاهما جالس – بأبو سعود حتى طرحه على ظهره، وركب فوقه وهو يقول له: العب أكتك العب أكتك، أنا والله ضحكت. أبو سعود يتقلب مثل أسد البحر محاولاً النهوض، لم أقل مثل فقمة، بل مثل أسد البحر. حينما أطلقه عبدالرزاق لم ينهض، شعر بمرارة لا تظهر، وعجز عضلاته عن انهاض أسدالبحر. لكنه لم ينتفخ، والله أنا رأيته. لم ينتفخ مثل ابن صياد، ابن صياد الذي همّ أن يأخذ حبلاً ويعلقه بشجرة ويخنق نفسه مما يقول له الناس. ابن صياد الذي استوحش منه أبو سعيد الخدري، ابن صياد الذي اختفى يوم الحرة ولم يره أحد أبداً، ابن صياد هذا انتفخ حتى سد الطريق حينما غَضِب من ابن عمر. نعم، انتفخ حتى سد الطريق. على أي حال، أبو سعود لو انتفخ لن يسد حتى حلقة الباب. لأنه ضعيف عقل، وأنا أبغضه بعض الشيء، لأن عجزه يستفزني، لم أُظهر له هذا البغض، لكن لا شك أنه لاحظ تململي لما طلب مني أن أشرح له طريقة تحويل الفلوس على تطبيق الأهلي موبايل. لم يُفلح ولم يحذف التطبيق. قلت الفلوس لأني تذكرت الآن أنه حتى الصف السادس كان لا يقول ريالاً، يقول: عطني ستة فلوس.. خمسين فلوس. ولا شك أن في هذا إشارة إلى نوع من العته غير الملاحظ. أبغض أبو سعود بعض الشيء لأنه أيضاً يَظهر في هذه القصة ساذجاً، ثقيلاً، غير مدرك لسياقه التاريخي ولا يعرف شيئاً عن طبيعة الروابط الاقتصادية الاستعمارية، ولم يطوّر خوفاً غريزياً من طائرات سلاح الجو الأمريكي. وربما طوّر شيئاً من هذا الخوف لكنه لا يظهر في هذه القصة، لا أدري والله. ولعلي أبالغ في كل هذا، أو أن شعوراً بالحسد دفعني لبغضه، لأن جلسته مرغوبة، رجل طيب وصافٍ. وتعب حتى صار مخرجاً في الإذاعة. لم يعمل مذيعاً، عمل في الإعداد وبعض الشؤون الإدارية ثم بعد ليالي كثيرة صار مخرجاً. أخرج برامج لم أسمعها، ربما كانت جيدة. لكن على الأغلب أنها من تلك البرامج الإذاعية التي تسمعها ولا تدري ما دور المخرج فيها. وربما استضافوا مرة في برنامجهم مفكراً ليبرالياً محترماً، شديد النباهة، كان في الأصل رئيسَ بلدية، رئيس بلدية لم يطور خوفاً غريزياً من طائرات سلاح الجو الأمريكي. شرب كوب الشاي الذي قُدم له في الاستديو، شاي أحمر دافئ مخلوط بفاكهة البرغموث، حين استطعم نكهة البرغموث تذكر أياماً صيفية لطيفة وصورة ضبابية لمكتبة. وأثار في تلك الليلة هذا السؤال اللطيف، لماذا لم تفكر عاتكة بصناعة القنبلة العنقودية؟ بصوته المتحمّس وبلسانه الذي لصقت به رائحة البرغموث وبعد أن قاطعه المذيع مرة مشيراً بيده، حكى رئيس البلدية قصة ضعيفة السند عن عاتكة بنت عبدالمطلب، قصة عادية، إلا أن المفكر شديد النباهة رئيس البلدية، استدل منها على تخلفنا. وقد أعجبني هذاالربط جداً، وقد حكى رئيس البلدية أن عاتكة رأت رؤيا أفزعتها. رأت راكباً أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح وصرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، واجتمع الناس إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غُدَر لمصارعكم. ثم اعتلى ببعيره رأس جبل أبي قبيس فصرخ، ثم أخذ صخرة فأرسلها – كرر الأستاذ الليبرالي المحترم شديد النباهة كلمة صخرة مرتين أو ثلاث ودفع يده – فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضّت، فما بقي بيت من بيوت مكة إلا دخلته منها فلقة. قال رئيس البلدية: هذا العرب هذا العرب. تبسم الذي فاحت من فمه رائحة البرغموث وأحس بخفة ونشاط لأنه انتصر لرأيه بهذاالربط الدقيق بين افتضاض الصخرة والقنبلة العنقودية: هذي هي القنبلة العنقودية. لم تفكر عاتكة بصناعة سلاح مثل هذا الذي رأته. خافت أن يتهمونها. ها.. نخاف من العار والسمعة، ما نفكر. ثم تكلم عن جوهر العرب وهذا الكلام. لم يقل في كل كلامه أن العرب لا تفهم هذه القوة التدميرية الهائلة التي لا يحتاجها إلا مستعمر. أتعرف قصة أحمر؟ قَتل أحمر ـ وهو من بني عدي بن النجار – رجلاً من أصحاب تُبع اليماني الذي نزل بهم في يثرب، فاقتتلوا فكانوا يقاتلونهم في النهار، ويقرونهم في الليل. والله يقرونهم في الليل. طيب، كيف تقري من نزل بك إذ أنت ألقيت عليه قنبلة مثل تلك التي نزلت على رأس السيد فوجي في هيروشيما؟ أحَمر لا يفهم هذه الرغبة في قتل الذين لا يبرزون لقتاله، هؤلاء الذين يمشون في الشارع ويذهبون للبقالة، ويضحكون في المساء على رصيف النهر. على أي حال لو سألت أبو سعود عن عمله في الإذاعة لن يتذكر هذا البرنامج وربما ينكره، ويقول لك أنه يُعد برنامجاً ضخماً – غالباً قال ذلك قبل كل البرامج التي أخرجها في الإذاعة – هل قُلت إنني أكره أبو سعود؟ لعلي بالغت، أو كنت في مزاج حاد حينما قلت ذلك، أبو سعود طيب. ويحزنني أن برامجه الإذاعية لا تشتهر، لكن في الحقيقة أنا أستغرب كيف لم يطور خوفاً غريزياً من سلاح الجو الأمريكي وقد كان منزل حسين كراد الذي قُصف لا يبعد عنه إلا ما يقارب السبعة مئة كيلو. مسافة ليست بعيدة بالنسبة لمقاتلة مثل النايت هوك.
(ب)
حسين كراد، مثل فاضل عباس مهاجر. مهاجر عراقي. ترك العراق واستقر في ألمانيا، وبروكسيل وأظن في آخر أيامه عاش في نيويورك. نام في الطريق، ثم في شقة من غرفتين وحمام مشترك، ومرة نام في المطبخ. قرأ روايات حسن مطلك، ورواية بيرة في نادي البلياردو بطبعتها الإنجليزية. وكتب الشعر: فتاة غجرية، الليل للأنبياء.. وهكذا. أكل في مطعم يديره حضرمي اسمه بَكران. يشرب، وإذا سَكِر هوّس وخبط الأرض بقدمه. قبل أن يهاجر، أصابه اضطراب نفسي غير مشخص بعد أن رأى جثث الأطفال المتفحمة في ملجئ العامرية، قصفه الأمريكان بقنبلة ذكية، نعم ذكية. وظن أنه محظوظ بعض الشيء لأن بيتهم لم يتضرر في القصف الذي رافق عملية عاصفة الصحراء، وكذلك لم تتضرر شجرة قلم طوز التي تقف منتصبة في حوش البيت. الملابس التي نشرتها الأم في حوش المنزل لم تتأثر، لكن روح الأم تأثرت. حسين قال لأخيه أن الظروف تتحسن. أخوه لم ينتظر، وشنق نفسه على الشجرة. لم يكتب رسالة، ولم ينم. مشى بسكينة ورحمة، وقف ينظر في الملابس المنشورة على الحبل، هذا سروال حسين يتموج مع الهواء البارد. ليلة من ليالي شباط. ليلة ساكنة، لأن طائرات سلاح الجو الأمريكي لم تعد تحلق هنا. أخذ يجمع الملابس المنشورة على الحبل ورتبها فوق مشمع كانت الأم تجمع فوقه الملابس، جمع المشابك الخشبية. دخل البيت بسكينة. عاد وسط الظلام والبرد، معه كرسي خشبي وسكين، برحمة وحزن قطع حبل نشر الغسيل. حبل قوي وجيد. يسمع صوت محرك سيارة، ويرى غباشة بعيدة من نورها. لم يتكلم، ولم يكتب رسالة. نظر إلى ملابس العائلة المكومة فوق المشمع، ألوان الملابس بهتت بعض الشيء، انتبه لتراب فوق المشمع، ومسحه بيده. ركز الكرسي الخشبي في الأرض، ربط نهاية الحبل في جذع الشجرة، وصعد فوق الكرسي. مد الحبل من فوق الغصن. عقد العقدة، أحس بأن الظلام مزعج، والبرد ثقيل. أدخل رأسه في حلقة العقدة. توثق منها. أخرج رأسه من حلقة العقدة ونزل، تناول من بين الملابس التي رتبها فوق المشمع كنزة صوفية رمادية تنسلت بعض خيوطها، السكون ثقيل. لبس الكنزة، وصعد فوق الكرسي، أدخل رقبته في حلقة العقدة، أراد أن يفكر بشيء، برحمة نظر إلى باب البيت ثم أغمض عينيه. انسحج جلد رقبته، رفس بعض الرفسات، ومات للأبد. تمايل جسده بعض الشيء مع الهواء البارد، ولم يشعر بالبرد ولا بثقل الظلمة ولم يسمع صرير صرصار الليل. مع آذان الفجر، رأته الجدة واقفاً يتمايل، ولم تتوثق مما ترى، قالت له أن يدخل حتى لا يُمرضه البرد. في الصباح قرر حسين أنه لن يعيش في هذا البيت، هذا البيت الذي رأى فيه أخيه يتطوح فوق شجرة. حسين الذي لم يبق له من والده إلا ساعة بسوار حديدي مذهب، وبدلة ارتداها الوالد في يوم زفافه، ومشهد رديء من ثلاث ثوانٍ يظهر فيه الوالد متردداً في فلم تسجيلي عن انتفاضة ١٩٩١. قال لأمه إنه سوف يهاجر، لم تتكلم. جلست بخشوع وصمت متربعة في الصالة، المروحة تدور فوقها برتابة. ضوء الشمس ينزل على شعرها ليُظهر له لوناً أفتح من لون الخصل التي في الظل. الأخوات وأبناء العم تكلموا بشفقة ظاهرة. هاجر، ولا أدري إن خرج إلى الصحراء السعودية في الليل باتجاه مخيم رفحاء، أو خرج إلى الأردن. في تلك الأيام أكل في مطعم بَكرَان، وتعرف إلى مصري من بورسعيد يُسهل كل الأمور بالكلام. المصري الذي من بورسعيد لا يعرف شيئاً عن قاذفات الكانبيرا التي أرادت أن تستهدف مطار ألماظة بنصف طن من القنابل لكنها أخطأت وضربت مطار غرب القاهرة. لا يعرف شيئاً عن القاذفات لأنه وُلد بعد تلك الحوادث بسنوات. على أي حال، مضت أيام حسين كراد بحنين غامض، صورة أخيه، نحيل متوتر يتدلى من شجرة. لا تفارقه الصورة، حتى حينما خرج من شقة البورسعيدي وتحسنت أموره بعض الشيء، لم يطمئن. ربما قلق، أو اضطراب نفسي قديم مرتبط بسقوط الأشياء على رأس الإنسان. يذهب رفقة الفتى النحيل الذي تدلى من شجرة قلم طوز إلى المدرسة، يعودان. يتعاركان، ويشعر بألم في كتفه. لم يذهب مع البورسعيدي إلى أي مكان. رفقة عراقيين حضر بعض العروض الموسيقية، صاحب مريم وشرب، تكلم معها عن رواية الإنسان الصرصار، أكد لها إعجابه بالفصل الأول من الرواية الذي سخر به دستويوفسكي من فكرة عقلانية الإنسان، وشرب المزيد. شعر بمرارة وبطء. مريم ليست معجبة به، وجدته لطيفا وذا لهجة عراقية محببة. تعلمت منه لفظة “زِلم” ثم ذهبت، لعلها تزوجت مغربياً. الآن إذا تمدد على السرير لا يتذكرها. لم يكتب لأجلها قصيدة، كتب لأجل أخيه، لم يذكر شجرة قلم طوز وذكر النخلة. شارك مرة قبل أن يغادر إلى نيويورك في نشاط ثقافي محدود. في نيويورك تحسنت أموره بعض الشيء، لكنه حينما ظن أن الحياة طيبة، وكتب قصيدة عن المساء الجميل والسيارات الخضراء المصطفة، عن فتيات النوادي الليلية، واشترى بدلة أنيقة أفضل من تلك التي تركها الوالد، وقرر أن يفتح مكتبة مع فاضل عباس، أقول حينما تحسنت الأمور قليلاً، وظن أن الحياة طيبة، تعطل تكييف السيارة، وقصف الأمريكان بيتهم في العراق، ماتت أمه، ماتت صابرة حزينة.
(ج)
الحالات التي سجلها الأستاذ فرانتز فانون طبيب الأمراض العقلية باعتبارها حالات مرضية مرتبطة بالاستعمار الفرنسي للجزائر.
الحالة رقم خمسة، مفتش أوروبي يعذب امرأته وأولاده: جاء يستشيرنا من تلقاء نفسه، مفتش في الشرطة. يلاحظ منذ أسابيع أن حالته ليست طبيعية. متزوج وله ثلاثةأولاد. يدخن كثيرا، مئة سيجارة في اليوم. فقد شهوة الطعام، ويحلم أحلاماً مزعجة كابوسية. وليس لهذه الكوابيس خصائص معينة. الذي يضايقه أكثر من أي شيء آخر هو ما يسميه: نوبات الجنون. لا يُحب أن يعارضه أحد، قال: فسّر لي هذا الأمر يا دكتور، إنني متى صادفت معارضة ما، أحسست برغبة في الضرب. حتى في خارج عملي، أتمنى أن أعذب من يعترض طريقي. أي شيء تافه يثير في نفسي هذه الرغبة. مثلاً، ذهبت مرة إلى بائع الجرائد لآخذ جرائدي. كان هنالك ناس، لا بد إذن من الانتظار. مددت ذراعي لآخذ جرائدي – بائع الجرائد صديق لي – فإذا بأحد الواقفين في طابور الانتظار يقول لي بشيء من التحدي: انتظر دورك. فشعرت برغبة في أن ألطمه، وقلت بيني وبين نفسي: لو أوقفتك بعض ساعات يا عزيزي لأقللتَ من المشاغبة بعد ذلك. لا أحتمل الضجة، في البيت أتمنى لو أضرب جميع من في البيت، طوال الوقت. بل ضربت أولادي فعلاً، حتى ابني الصغير الذي لا يزيد عمره عن سنة ونصف، ضربته بوحشية نادرة. غير أن الأمر الذي أخافه هو أن امرأتي انتقدتني ذات مساء على ضرب الأولاد، قالت لي: لقد جننت. فما كان مني إلا أن ارتميت عليها، وضربتها، ثم أوثقتها على كرسي، وأردت أن أضربها بوحشية إلا أن الأولاد أخذوا يبكون ويصرخون. فأدركت خطورة الأمر. فككت وثاقها، وقررت أن أستشير طبيباً. قال إنه لم يكن من قبل كما هو الآن، وإنه كان لا يعاقب أولاده إلا نادراً، ولا يتشاجر مع زوجته أبداً، وأن سلوكه الحالي إنما ظهرت أعراضه عند قيام الأحداث الجارية. وشرح ذلك: إننا نقوم الآن بأعمال سلاح المشاة. في الأسبوع الماضي خضنا معركة كما لو كنا ننتمي للجيش، إن هؤلاء السادة – يقصد رجال الحكومة – يدّعون عدم وجود حرب في الجزائر، وإن قوى الأمن، أي الشرطة التي أعمل بها يعيدون الهدوء إلى نصابه. إلا أن في الجزائر حرباً، والشيء الذي يقلقني خاصة إنما هو التعذيب، إنني أظل أعذب في بعض الأحيان عشر ساعات.
– ما الذي يحدثه التعذيب في نفسك؟
– أتعب. صحيح أن هناك فترات راحة للمعذِبين ولكن أحداً لا يعرف متى يعهد بإتمام العمل إلى زميله. ذلك أن المسألة عندنا، هل تستطيع أن تحمل هذا الرجل على أن يتكلم؟ إنها مسألة انتصار شخصي. نحن نتنافس، وتتحطم قبضات أيدينا آخر الأمر. وقد أصبحوا يستعينون بالسنغاليين. أنا أخالف أولئك الذين يعهدون بتحضير الشخص إلى آخرين. غير أن قصة زوجتي تزعجني أكثر من أي شيء، لا شك أن بي شيئا من الجنون يجب أن تشفيني منه يا دكتور. رفضت السلطات التي يتبعها هذا المريض أن تمنحه إجازة راحة، وهو لا يريد أن يحصل على شهادة من طبيب أمراض عقلية، لذلك بدأت بعلاجه وهو على رأس العمل. واضح أن مثل هذا الإجراء ضعيف، لقد كان الرجل يعلم حق العلم أن اضطراباته ناشئة مباشرة عن نوع العمل الذي يقوم به في قاعات الاستجواب، وإن يكن قد حاول أن يلقي التبعية بوجه إجمالي على (الأحداث) ولما كان لا يفكر في التوقف عن القيام بأعمال التعذيب – لأن ذلك يعني أن يستقيل من عمل الشرطة – فقد طلب مني من غير لف ولا دوران أن أساعده على أن يُعذب الجزائريين دون أن يصاب من ذلك باضطراب في السلوك.
———————————————————————————————-
*الكبوت: طريقة فوز في لعبة البالوت، إذا حصل فريق من الفريقين على جميع النقاط الممكنة في اللعبة الواحدة يقال (كبوت)
** الجزء (ج) منقول كاملاً من كتاب معذبو الأرض – فرانتز فانون.
*****
خاص بأوكسجين