مقدمة كتاب أوكسجين 2 الصادر أخيراً عن “محترف أوكسجين للنشر”:
بعضٌ منَ الرَّبيع.
بعضٌ منَ الصَّيف.
وثمَّة احتمالات غير مؤكَّدة لتدخُّلاتٍ خريفيَّة.
أمَّا الشِّتاء فمتعذِّرٌ تماماً.
هل بالإمكان تخليقُ فصلٍ خاصٍّ؟ وهل الخلوص إلى أنَّ الجوَّ مشمسٌ بالمجمل كافٍ لتوصيف حالة الطَّقس في ظلِّ تعذُّر الوقوع على فصلٍ محدَّد الصِّفات والطِّباع؟
الشَّمس بكلِّ بهائها وعنفوانها ووقارها ينقضُّ عليها اللَّيل ولا يُبقي أثراً لها! ودوران الأرض ومنطقيَّة مصير الشَّمس أمرٌ منَ السَّهل تجاهله، بما يفضي للإتيان على تعاقب الفصول ومنطق الزَّمن!
أَبدأُ على غير هدىً، أخلص إلى ذلك وأنا أتساءل ما صلة ما تقدَّم بكتاب أوكسجين الثَّاني؟
هل إذا قلت إنَّ عددَ فصول هذا الكتاب سبعةٌ أتبيَّن دواعي أن أبدأ على هذا النَّحو؟
ربَّما!
لا بل إنَّ الكتاب كاملاً فصلٌ من فصول تلاعب أوكسجين بالزَّمن، وهو في مناخاته وأجوائه يتداخل معَ الأوَّل، ويمضي قدماً في تعزيز تعاقب كتب أوكسجين المقبلة، وهي تصارع خصماً عنيداً اسمه “الزَّمن”، لم يذق يوماً طعم الهزيمة.
إنَّه الزَّمن إذاً!
أعود به مجدَّداً لأستخلص ما بدا عصياً تماماً عليه، مطلقاً هجرةً معاكسةً جديدةً منَ الإلكترونيِّ إلى الورقيِّ، مشرِّعاً الأبواب على لعبةٍ جديدةٍ معه.
لن أورد شيئاً ممَّا حملته مقدِّمتي التَّوثيقيَّة والوقائعيَّة لكتاب أوكسجين الأوَّل، وحسبي أن أقول إنَّ مواد كتاب أوكسجين الثَّاني منتقاةٌ من أعداد مجلَّة أوكسجين الإلكترونيَّة (21 – 40) المنشورة بين عامي 2005 و2006، وقد نسَّقتُها ورتَّبتها وبوَّبتها هنا مُتَّبِعاً _كما في الأوَّل_ بنية كتابٍ سرديٍّ وشعريٍّ أوكسجينيٍّ، كلُّ فصلٍ يتضمَّن عدداً منَ الموادِّ اجتمعت بعنوانٍ واحدٍ، لنكونَ في النَّهاية أمام كتابٍ متكاملٍ ومتناغم.
سأوغل أكثر في الزَّمن، وأضيء على حضوره المفصليِّ في صوغ هذا الكتاب وكتب أوكسجين عموماً، فهي أوَّلاً وأخيراً تنطلق من حقيقةٍ مفادُها أنَّنا معشر البشر ضحايا مضي الزَّمن، واستمراره، وتواصله، ومعايشتنا اليوميَّة لسيرورته الأفقيَّة منَ الماضي إلى المستقبل، من دون أن يتمكَّن أحدٌ من إيقافه أو التحكُّم به، سوى الفنّ، نعم وحده يستطيع فعل ذلك، وهو يخلق زمناً فنِّيَّاً موازياً للزَّمن الواقعيِّ، يصيغه كيفما شاء، يعيد ترتيبه، يختزله، ضارباً عرض الحائط بسيرورته الحمقاء. زمنٌ فنِّيٌّ يفضح محدوديَّة الزَّمن الواقعيِّ وهو لا يعرف إلَّا أن يمضي.
وهذا الكتاب يخلق زمنه الفريد فنِّياً في الوسيط الأدبيِّ، يؤسِّس حاضره منَ الماضي والمستقبل، فهو حاضرٌ وتذكُّرٌ وتوقُّعٌ[1]، وإن كان الزَّمن في حركةٍ متواصلةٍ،؛ فالآلية المتَّبعة في توليف موادِّه وتبوبيها هي مونتاجيَّةٌ بامتيازٍ، فكما خَلَقتِ السينما الحركة بالمونتاج، فإنَّ حركة موادِّ هذا الكتاب وحيويتها مخلوقةٌ على هذا النَّحو، متواليةٌ ومتَّصلةٌ بناءً على اقتطاعها من سياقٍ وربطها بآخر، ثمَّ تركيبها ببناء الفصول، كما في المونتاج تماماً القائم على “التَّقطيع” أي بناء مضمون اللَّقطة وربطها بالأخرى، ليتم بناء المشهد درامياً بـ “التركيب”.
وهنا أعود إلى ما بدأت به، لأقول: نعم، إنَّ في هذا الكتاب تخليقاً لفصولٍ خاصَّةٍ!
فصولٌ لها مناخاتها وطقوسها وممارستها، فصولٌ بعيدةٌ كلَّ البعد عنِ السَّائد والمهترئ والمتلفِّت والمحسوب والمعدِّ، فصولٌ تخالف وتجدِّد وتمضي وتبدِع وتحلِّق، فصولٌ تُسمِع من يريد ألَّا يكون في أذنه صممٌ.
إنَّها فصولٌ سبعة إذاً، ولم تعد أربعةً كما في السَّابق.
*****
خاص بأوكسجين
[1] يعدُّ القدِّيس أوغسطين أنَّ الزَّمن وليد الانقطاع المتواصل بين ثلاثة مظاهر للحاضر: “الانتباه الَّذي يُعدُّ حاضر الحاضر، والتذكُّر الَّذي يُعدُّ حاضر الماضي، والتوقُّع الَّذي يُعدُّ حاضر المستقبل”.