مرةً اشتريت لنفسي فرس نهرٍ لونه زهريّ، سمّيته غبيّ. كان لغبيّ ابنٌ صغيرٌ زهريّ اللّون أيضًا، سمّيته ابن غبيّ. حصل ذلك في أحد أعياد الحبّ، كان لديّ حبيبٌ حينها، بقيت لأشهرٍ أمتنع عن شراء الكازوز والبسكويت والشّيبس في باحة المدرسة كي أجمع من مصروفي ما يكفي لأشتري له هديةً لائقة، دخلت المحل ورميت على طاولة البائع عددًا كبيرًا من القطع النّقدية. لا أذكر ماذا كانت الهدية، إلاّ أنّ رنين القطع المعدنية على الزجاج لم يتوقّف من حينها. طلبتُ من ذلك الذي كان حبيبًا ألاّ يهديني شيئًا، إذ إنّ كلّ ما يدخل إلى البيت عليه أن يكون مبرّراً، فنحن -المراهقات- نثير ريبة الأهالي ونجعلهم يحترفون مهنة رجال الأمن. أخذت مبلغًا من أمي كي أشتري كنزةً صوفيّة عالية الرقبة، وعدت إلى البيت بغبيّ وابنه.
حصل كل ذلك في هذا المنزل الذي أزوره الآن، منزل هُجِر ونُهب ومرض ويحاول أن يتعافى. غبيّ وابنه لم يصبهما سوءٌ، وضعتهما أمي في الغسالة فعادا ناصعين. فكّرت بأنّ الألعاب المحشوّة أكثر جسارةً منّا، حتّى لو كانت لها ألوانٌ أنثويّة. أتأمل الآن ابن غبيّ، أعصره بيدي، أقرّب وجهه الظريف الذي بلا عينين من وجهي، هل كان دائمًا بلا عينين؟ أم هي حيلته كي لا يكون شاهدًا على شيء؟ أحاول أن أخبره بخطأ العبارة القائلة “لكلّ امرئٍ من اسمه نصيب”، أحاول أن أعتذر عن ما كنت أظنّه ظرافةً حين اخترت له ولأبيه الاسمين. أبواي أيضًا اختارا لي اسماً شائعاً لا يروقني، المعاجم تقول إنّ معناه “وردٌ أَبيض عطريُّ قويُّ الرائحة”، إذًا هو نوعٌ لا ينفع لأعياد الحبّ، نلت نصيبي منه حين لم يهدني ذلك الحبيب ورودًا، إلاّ حين هممتُ بمغادرته، رميت الباقة فوق جثّة الحبّ ومضيت.
في صور طفولتي الكثير من الدُّمى، حين كبرتُ وزّعتها أمّي على أطفال لا أعرفهم، ربّما أطلقوا عليها أسماء جديدة. واحدةٌ منها شعرها رماديّ مربوط على شكل قرنين، عيناها واسعتان تصدران زقزقةً حين ترمشان، سمّيتها سالي على اسم بطلة أحد مسلسلاتي الكرتونيّة المفضّلة، سمّيت قريبتي سالي أيضاً. سالي الآن في بلدٍ بعيد تحمل جنينًا داخل رحمها، ودميتي سالي في بيتٍ غريب تحمل اسمًا غريبًا، بطنها خاوٍ وتنتظر أن أجد لها دميتها إيميلي.
كلّ الأبطال الّذين أحببتهم في صغري كان لهم الصّوت ذاته. أتمنّى أن ألتقي الهدّاف رامي، سأوقفه وهو يسدِّد ضربة حرّة مباشرة داخل صوت إيمان هايل.
بقيت لسنواتٍ متأخّرة من طفولتي مقتنعةً بأنّ جيري فأرة أنثى. كانت صدمتي كبيرة عندما صارحني أحد الأصدقاء بأنّ جيري ذكر، في البداية لم أصدّقه، رحت أسأل هنا، رحت أسأل هناك، ويأتيني الجواب ذاته. لاحقًا أدركتُ لماذا أحزنني هذا الموضوع كثيرًا؛ كنت أرى في جيري نفسي الآن: يقال إنّنا بارعَين في جعل الآخرين يضحكون، كلانا مغرمٌ بالجُبن، يفضّل العيش في جحره ولا يتركونه بسلام، يهرب من “توم” ما، لكن بغريزة الفريسة يدفعه إلى اللّحاق به. في تلك المسافة الأزليّة العالقة بينه وبين ذلك الـ “توم” تفرد الغواية شعرها الطويل.
أحبّ أن أكتب قصصًا للأطفال، المشكلة أنّني بارعةٌ في قتل أبطالي، وهذا لن يُعجِبَ قرّائي الصّغار.
قرأت في المقدمة التي وضعها المترجم يوسف وقّاص لرواية بينوكيو أنّ كارلو كولّودي أنهى قصّة الدمية بعد شنقها على جذع شجرة السنديانة العملاقة، من ثمّ وتحت ضغط الأطفال واستيائهم أكملها.
أولئك الأولاد منحوا بينوكيو فرصةً ليصير ولدًا مثلهم، ومنحونا الرّغبة في تحسّس أنوفنا كلّما طيّرنا فيلَةً في الهواء.
أحبّ أكثر أن يصير لي أطفالٌ حتّى لو كانوا من النوع الّذي يطول أنفه سبع مرّات في اليوم، لا أريد أن أبقى كدميتي سالي ببطنٍ خاوٍ وعينين تزقزقان ودمىً تائهة. أفضّل أن أكون لعبةً محشوّة مثل غبي؛ لدي ابنٌ لا يفارقني ولا أفارقه، تقتنينا مراهقةٌ في عيد الحبّ ونحرس ذكرياتها في غيابها. ربّما توقّفت حينها عن قتل أبطالي ووهبتهم حياةً هانئة يعيشونها داخل قصصٍ لن تعود صالحة للنشر.
*****
خاص بأوكسجين