فتحة خارج إطار الزمن
العدد 225 | 15 كانون الثاني 2018
ضياء بوسالمي


مدينة مثقلة بالهزائم

هذه المدينة أمقتها

بظلالها

بأشجارها

بحاناتها

ومقاهيها.

كهف بلا نهاية

نفق بلا مخرج

دوامة مضنية

متاهة يضيع فيها الفرد

ويفقد انسانيّته.

مسرح كبير

ركح سوداويّ

شخصيات مستهلكة

تلعب دور البطولة

مجرّد نسخ رديئة

من أشباه البشر

مسرحيّة مضجرة

مدينتي..

أين يقتل الوقت

ويتحوّل الملل

الى بطل القصّة

في انقلاب دراميّ للأحداث

ليكون كالسيف

يهوي على الوقت

فلا نسمع

الا عواء

يصمّ آذاننا.

 

المقهى

بناية قائمة

منذ خمسينات القرن الماضي

شيّعت أغلب مرتاديها

إلى المقبرة

واستقبلت جماجم

الوافدين الجدد

لتسجلهم على قائمة

الموتى المؤجّلين

يعرفون كلّ حكاياتهم

يكرّرونها ويمضغونها

كالعلكة التي فقدت طعمها

حركات آليّة

سراويل ملوّنة

وأظافر متسخة

ربطات عنق

للموظّفين

عبيد الدولة

الذين ينهون دوامهم

يخرجون من سجنهم

ليدخلوا سجن المقهى

هناك،

يستمتعون

بأغاني أم كلثوم

وطرطقات الطاولة

التي نسي صاحب المقهى

أن يصلحها منذ سنوات.

حركات بالأرجل

اليمنى فوق اليسرى

يمرّ الوقت

وتتغيّر الجلسة

المؤخّرة تتعب

من الجلوس 

والكرسي الكئيب

يصدر أزيزا

يتحسّر على لونه

الضائع..

لا شيء جديد

المقهى هو ملاذ

لسكان المدينة

فتحة خارج إطار الزمن

فضاء ضيّق يسدّ الأنفاس

لكن مرتادي المقاهي

بصدورهم التي تتسّع للدخان

للشيشة

ولرائحة الضراط،

قادرة على أن تتقاسم الأوكسجين

طقوس ديموقراطيّة تمارس

في هذا المكان.

تقاسم عادل

لثروة الأوكسجين

عمال،

شباب،

كهول،

شيوخ،

ومراهقين

الكلّ لم يحصل

على نصيبه من التنمية

ولكن بفضل الديموقراطيّة

حصل على نصيبه من الأوكسجين.

 

ندبات على الوجوه

وشوم على الأذرع

وساعات باهظة

لا تتجرّأ أن تسأل عن مصدرها

 

صورة صاحب المقهى

بشاربه الضخم

ونظراته الدقيقة

وسط الجدار

المقابل للمدخل

انتبهوا

الأخ الأكبر يراقبكم

يطمئنّ على حركاتكم

يلاحظ،

يدقّق،

يتمعّن

ويتفرّس في الوجوه

لا يسمح بالتغيير

ممنوع

مستحيل

في مدينة يقتل فيها الطموح

ونشيّع جثمانه بالزغاريد.

 

الشارع

شارع رئيسيّ

تدبّ فيه الحركة

يتمطّى

كأنّه افاق لتوّه من غيبوبة

 

اسفلت في كلّ مكان

اللّون الرمادي

لا يتوقّف في الأرض

بل يمتدّ الى الجدران

والسيارات،

والدراجات،

والوجوه.

 

تلك الوجوه

ذات النظرات المحايدة

فقئت أعينها

فظلت تتلمّس

الواقع بأيد معدنيّة

حفظت مسيرها

عدّلت خطواتها

الجنائزيّة

منذ عقود.

 

في الشارع،

يمكن أن ترى الحقيقة

الجميع هنا منسجمون

تحترم الأولويّة

في تقاطع الطرقات

يحترم الشيخ

ويبجّل في مقاعد الحافلة

الاحترام في هذا الشارع

قناع يرتديه الكلّ

ليخفوا جانبهم المظلم.

 

في الشارع،

تمرّ الحسناوات تباعا

هو مرتع ومكان استعراض

لكلّ عازبات المدينة

عند الساعة الخامسة

يبدأ العرض

وتنهمر أمواج

من النساء

المطلقات،

العازبات،

المنكسرات،

الفتيات

وحتى الطالبات

اللاتي يضطررن

للمرور من هناك

بعد الحاح الصديقات.

الكل يرصد

ويرصد..

تراهم زمرا

كأنهم سيل حنفيّة

انفجر بعد طول انقطاع.

 

هنا،

ينفجر الجميع

في اليوم عدّة مرات

في بيوتهم،

في المراحيض العموميّة،

خلف النوافذ

وهم يختلسون النظر،

خلف الأبواب

وهم يسترقون السّمع،

الانفجار أمر عاديّ

قبل الخروج

الى الشارع الرئيسيّ

يرتدي الجميع الأقنعة

ويحفظون حركاتهم

ويدرسون سكناتهم

يرتدون قمصانا

ملونة

وموحّدة

ويخرجون لتشجيع

المنتخب الوطنيّ.

 

المسجد

بوقار،

يصعد المؤذّن

يصيح مناديا للصلاة..

يختلط صوته

بصوت نانسي عجرم 

تصدح من داخل سيارة

“حبيبي قرّب…”

يقلّب المؤذّن عينيه في المكان

الذي يحفظه عن ظهر قلب

ينزل من الصومعة

لاعنا من الشيطان

وأولاد الحرام.

ها قد بدأ المصلون

في التجمّع

الماء في كلّ مكان

المبذّرون اخوان الشياطين..

يبتسم المؤذّن

ويتوجه الى غرفة الامام

يفتح الباب

تحت أعين المراقبين

يلقي عليهم

نظرة أخيرة

قبل أن يغلق الباب خلفه

فيتساءل الجميع

عمّا سيدور

في تلك الغرفة المغلقة

من حوارات.

*****

خاص بأوكسجين


شاعر من تونس.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: