فانيليا بالشيكولاتة
العدد 240 | 11 كانون الثاني 2019
محمود عبد الدايم


تناهتْ إلى أذنيهِ «دندنة».. صوت رائق يردد بفرح خجول، وعشق مفضوح «أنا هويت وانتهيت.. وليه بقي لوم العزول».. الدندنة الخافتة أنستْه قليلًا جوَّ أغسطس الخانق.. رطوبته السيئة حدَّ القرف، حاولَ تحريكَ أصابعه لمسايرة الدندنة فشل.. كانت يداه.. ذراعاه.. ثابتتين على هذا الوضع منذ ثلاثة أشهر.. أو أقل قليلًا.. تمتم متحسرًا «يكفي أنني أمتلك أذنا.. يكفي».

ابتعد صوت المغني تدريجيًّا.. ابتلعته فوضى الأصوات المتحالفة مع رطوبة أغسطس لرفع معدلات الاختناق.. اعتاد عند الدرجة تلك أن يحلم.. بالفعل.. يمتلك عقلًا.. خيالًا.. أذنًا.. فما المانع أن يحلم.. رفقاؤه في المكان يعرفون حالة الحلم التي تتلبسه.. يفتح عينيه على اتساعهما.. للدقة لم يغمضهما يومًا.. ويرفع أنفه.. المرتفع من الأساس.. ويحلم.. هكذا ببساطة.

لماذا لم أكن في بلد قريب من المحيط؟.. يعرف المحيط لكنه لم يره يومًا.. لقطات فيديو عابرة.. همسات حالمة مرت على أذنيه.. وشتائم أيضا من نوعية «اشرب من المحيط».. جعلته يحلم بالمكان الأزرق المتسع الممتد من السماء إلى السماء.

أجاب عن سؤاله.. فلا أحد يشاركه الحلم ليجيب عنه.. «لو كنت ولدت إلى جوار المحيط كنت سأحبه.. سيبادلني المحبة هو الآخر.. قطعًا.. سيحبني.. كنت سأقع في غرام فتاة قصيرة.. لا طويلة.. بل متوسطة ما بين الطول والقصر.. 156 سم تكفي لـ(المتعة).. في يومنا الأول سويًّا.. سأهدي لها فستانًا أزرق.. وفي الثاني شرائط تصلح لربط الشعر.. زرقاء هي الأخرى.. وفي الثالث.. سأصحبها إلى العشاء بجوار المحيط الأزرق.. من الواجب أن تكون مرتدية ليلتها هداياي الزرقاء جميعها.. سأطلب منها أن تغمض عينيها.. بالمناسبة ستكون صاحبة عيون زرقاء.. وأقدم لها هدية جديدة.. مايوه أزرق، وسأدعوها لنبحر سويًّا باتجاه الشمس».

سريعًا وطأت قدماه الثابتتان المشدودتان أرض الحلم.. وسريعًا خرجتا.. خنقته رطوبة أغسطس.. لمح فتاة تقف أمامه.. متر ونصف المتر تفصلها عنه.. تأمل تفاصيلها.. سمراء إلى حد ما كانت بشرتها.. الهالات السوداء واضحة بدقة تحت عينيها العسليتين المرهقتين.. وشفتها السفلى أكبر بقليل من شقيقتها العليا.. لكنه – وحيدًا لا شريك له- لمح فيها روعة مكتملة.. التجاعيد التي بدأت تشق طريقها أسفل الجفن الأيمن لم تتمكن من اغتيال براءة العين.. طفولة تنتظر اللحظة المناسبة للقفز.. الرقص.. «التنطيط».

لثلاث دقائق ظل يتأملها.. دقيقةً كانت في كل مواضعها.. أصابعها.. أنفها.. شفتها العليا.. ووجهها.. فكر أن يطلب منها الخروج معه.. أن تقبل عزومة على «آيس كريم».. حدد النوع «فانيليا بالشيكولاتة».. بالطبع ستحب هذا النوع.. بياض الفانيليا وروعة الشيكولاتة يليقان بطفلة تحمل بين أضلعها «قلب أم».

يد معروفة اقتحمت الكادر.. استقرت على الكتف الأيمن للفتاة.. أزاحتها برقة مصطعنة من مكانها، ليكملا سويًّا طريقًا يبدو أنهما أجبرا على السير فيه سويًّا.. خطوات الفتاة البطيئة المتمسكة بأرضية الرصيف.. الزاحفة.. أكدت فعل الغصب.

عاد لحلم فتاة الهدايا الزرقاء.. منحها في الفترة الثانية من الحلم شعرًا هادئ الحُمرة، متموجًا برعونة مدهشة ومحببة، وشفاهًا قريبة الشبه بشفاه الفتاة المغصوبة على الرحلة، لكنه توقف ولم يتجرأ على تقديم دعوة «فانيليا الشيكولاتة».

دارت الأرض دورتها البطيئة الحزينة.. تبدلت أمامه الوجوه.. زوجة أربعينية متسلطة تجر زوجها جرًّا.. عجوز سبعينية تواجه الزمن بمساحيق رديئة الألوان والصنع أيضا.. شاب ثلاثيني وحيد يمر على الجانب الآخر من الشارع.. متفقدًا زوايا مكان ولدت فيه ذكراه الوحيدة.. عشرينية تتأرجح بين قبول الدعوة من عجوز ستيني مرتديًا قميصًا تسعينيًا مزعجة ألوانٌه.. وشحاذ يتقن اصطياد ضحاياه جيدًا.. سيدة بلا زوج أو أطفال يدعو لها بـ«الصلاح».. طفل ببالونة وردية اللون يشاغله ببقايا قطعة شيكولاتة طمعًا في أن يفلت يد أمه القابضة عليه بقوة.. علها تمنحه جنيهات خمسة لحراسته طفلها من وحوش الشارع.

العاشرة مساءً.. لمح العقرب متوسط السرعة يعانق الصفر والواحد.. لم تنطفئ الأضواء كالعادة.. تحركات في الخلفية تنبه إليها، يعرفها جيدًا.. موعد تغيير الأماكن، الملابس المعروضة، في المرة الأخيرة كان نصيبه قميص «هاواي» أبيض ذو ورود زرقاء، و«شورت أبيض» و«كاب» يميل لونه إلى الزرقة.

امتدت يد عامل محل الملابس إلى داخل «فاترينة العرض».. تجاوز المانيكان الأول.. الثاني.. وأطبقها بغضب مكتوم حول وسط المانيكان الحالم، قذفه بقوة إلى داخل صالة المحل.. جرده في هدوء من ملابسه.. بدأ المجزرة باقتلاع ذراعه اليسرى.. تلاها باليمنى.. وأمسك من الخلف مقتلعًا في خشونة نصفه الأعلى تاركًا أقدامه المشدودة تسقط على أرضية المكان محدثة جلبة لا تليق بـ«مانيكان كان يحلم بالمحيط وفتاة تأكل معه «الفانيليا بالشيكولاتة».

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر.