محمود
بعد سنة…
كانت غرفة محمود فارغة تماماً، يتوسطها سرير صغير أقصر من رجليه أو هكذا أعتقد، فُرِد فوقه لحاف عسلي يظهر من تحته شرشف وردي، على ذوق أمي المميز (العسلي مع الوردي!). أيعقل أنه استطاع أخذ كل متعلقاته؟ قلت. “لم نره وهو يرحل”، ردّت أمي. لم يأخذ أي شيء لأنه لم يكن لديه شيء.
تساءلتُ كيف لإنسان عاش أكثر من خمسة عشر سنة في الغرفة ذاتها دون أن يخلف وراءه أي أثر؟ لم يُجَمِّع أي شيء، لم يضع جريدة على رف، لم تعجبه صورة، لم يلتقط قصاصة، لم يتفاءل بآية، لم يحضر كأسا من المطبخ… لا شيء! حتى علب الدواء، لا علب لديه. فارغ تماماً من كل ما يمكن تخيّله.
تأملت على الطرف الآخر غرفة رحيم كانت تعج بأشياء قديمة وأخرى حديثة، قصص كثيرة، كتب قرأها وأخرى كانت تنتظر، ملابس جديدة وبالية، ألوان وملصقات، طاولة مرتبة عليها حاسوب أمامه هاتف قديم، أوّل هاتف اشتراه أبي عندما رحلنا إلى المدينة؛ أزهار جافة، حجر أملس، عصا، بعر جاف في زجاجة، رمل أبيض، أصداف جمعناها أول مرة ذهبنا فيها إلى البحر. أوّل ورقة دوّن عليها الحروف لمّا كنت أعلمه الكتابة قبل عشرين عاماً. عندما أدخل غرفته أكاد أراه في كل ركن منها، جالسا إلى الطاولة، وافقا على الكرسي الخشبي ذو الرجلين يرتب غرضا ما فوق الخزانة. ملابسه وثلاث قناني عطر، واحدة منها أهديته إياها في عيد ميلاده الخامس والعشرين، حملني لحظتها ودار بي كمن يحمل دمية. جلسنا طويلا نتحدث هو بصمته وأنا بثرثرتي. غرفة رحيم تشبهه عامرة تماماً.
رفعت ماما ستائر النافذتين المتقابلتين وفتحت الشرقية منهما على الشرفة الكبيرة. كرسي، أعقاب السجائر، أعواد كبريت وقداحات فارغة لم يرفعها عن الأرض رغم تنبيهاتها المتكررة “يوما ما ستحرقنا تلك القداحات” اترك المفتاح لأنظف الغرفة” يرد دائما بالإجابة ذاتها “أنظف غرفتي وحدي” وينظف، لكنه لا يفكر بأن القداحات، أعواد الكبريت وأعقاب السجائر من ضمن الأشياء التي يجب التخلص منها لأسباب تتعلق بالنظافة.
خزانة ملابسه كما هي، لم يأخذ أي معطف شتوي ولا أي قميص صيفي.
سألت ماما إذا كانت تعرف ما يحب محمود وما يكره “أنت أمه ولابد أنك تعرفين” قلت بسذاجة. ابتسمت، غطت أنفها وفمها بمنديل أبيض، تفاديا للغبار “لا أعرفه أكثر ممّا تعرفينه” قالت.
أخذنا نعد الأشياء التي كان يحبها أو يبدي قليل اهتمام بها. بدءا بالأكل، لم يكن يعشق الأكل بشكل واضح، لم يعبر مرة عن رغبته في طبق ما، بالمقابل لا يقصّر في تناول أي شيء يوضع أمامه، “أظنه كان يحب البيض المقلي” قالت ماما؛ وهي تستند في اعتقادها هذا إلى عدد المرات التي ضبطته فيها يقلي بيضا، لم تخمن أنه لا يعرف طهي شيء آخر غيره. ثم مررنا إلى الملابس، قالت إنه أكثرنا تفانيا وتزهدا في الدنيا، لم يختر يوما قميصا أو سروالا ظللت أشتري ملابسه حتى بلغ الثلاثين من عمره، لم يعترض أبداً على أي ثياب اشتريناها له أنا أو أبوك. “عندما بدأ شعر لحيته يطول، لم أعرف ما الذي يناسبه، سألته، لم يكترث. فصرت أدقق في ملابس الممثلين وكيف تبدو عليهم. وأقول في نفسي هذا اللون يناسب بشرته لأنه يشبه الممثل وسيبدو وسيما. وبعد بحث ودوران كثير على محلات عديدة وجدت القميص والسروال، لم يكونا بالضبط كما في الفيلم، لكن كانا جيدين. لبسهما فبدا مثل أمير حقيقي شعره الأشقر ازداد بريقا، عيناه البندقيتان لمعتا، لحيته القصيرة برزت أكثر وتدوّرت ذقنه. كانت المرة الأولى التي لمحت فيه إعجابا ولو بقدر بسيط بما يلبس” قالت. من جهتي لم أرهُ ينظر إلى نفسه في المرآة قط، حتى عندما يحلق ذقنه يفعل ذلك مستعجلا. وقد جرح وجهه مرات كثيرة لهذا السبب.
الأصدقاء! لم نعرف له أصدقاء، لم يمتلك هاتفا نقّالا ولا حاول أن يربط علاقة مع أي مخلوق ذكري أو أنثوي. عندما يخرج من غرفته وهي كل بيته، نكون متأكدين انه سيعود كما خرج دون أن ينطق كلمة منذ أيام.
اتجهت نحوه مرة وقد رأيته من بعيد جالسا على حافة مقهى، اختار أبعد كرسي حتى لا يكون قريبا من أحد. رد عليّ التحية، وكم كنت سعيدة لأنه أخيرا ابتسم قليلا، ربّما فعل ذلك خجلا. كانت أجمل ابتسامة رأيتها في ذلك اليوم، وضع سيجارته وقهوته بعيدا، دعاني لأجلس وأطلب ما أريد، قلت “هذا المقهى للرجال”، رد بلا تردد “المقهى إمّا للجميع أو لأحد”.
تبادلنا أنا وماما الحكايا والمواقف كأنّنا نحاول اكتشافه، إعادة ترتيبه من جديد داخل أذهاننا أو ربّما تشكيله قطعة، قطعة إذ كان وجوده مستحيلا وهو بيننا. بدا على وجهها انشراح مختلط ببؤس مبرر “لم يحب شيئا في حياته، لم تكن لديه حياة، المهم أنه ما يزال فوق التراب ولم يأكله البحر” قالت، ثم امتلأت عيناها بدمعات حاولت إخفاءها. ركنت الكرسي في الشرفة وأقعت تلم أعقاب السجائر…
أمّا أنا فعدت إلى غرفة رحيم أحاول لمسه والحديث إليه كما لو أنه لم يمت أبداً، كما لو أنّ بحرا لم يبتلعه…
كلمات متقاطعة
على يميني جلسا، وعلى يساري كانت النافذة. كان هو يقرأ جريدة، أما هي فكانت تنظر باتجاهي. تظاهرت بالنوم وتركت لها امر النظر إلى خارج الطائرة. كان مطراً حين أقلعنا، وبعدها وقبل أن أتظاهر بالنوم توقف، لا! لم يتوقف المطر، بل الطائرة اجتازت السحاب، وبين السحاب والسماء ما من مطر، ثم كفت هي عن النظر باتجاهي أو النافذة. تخلت عن المنظر البهيج بعد تحوله إلى بياض لا شيء فوق السحاب. حاولت النوم لكنني لم أنم. خلال ثلاث ساعات ونصف لم ينطقا الا جملة واحدة قالها هو بعد أن ازاح قليلا جريدته عن وجهه، كانت “لوكنار اونشيني” البط المربوط، البط المعتقل، البط مكبل الرجلين هكذا تخيلت وضعية البطة…قال لها “هل تأكلين شيئا؟” هزت رأسها بـ لا. وانتهى حوارهما عند هذا الحد.
أخرجت من حقيبة يدها مجلة بدت مخصصة للكلمات المتقاطعة، فتحت الطاولة وعليها المجلة، بدأت بفك ألغاز ليست ألغازاً، في الواقع عندما تعتاد على لعبة يؤلفها الأشخاص ذاتهم ممن يعملون في المجلة ذاتها، تكتشف بسرعة كلماتهم الخفية وتتنبأ أيضاً بما سيطرحونه مستقبلا: قاموس محدود، كلمات مكررة ولغز واحد، لمَ لا يثرثران؟ كيف يسافران معا؟ كان ذلك هو لغزي، لا يقولان شيئا…من خبرتي البسيطة بالحياة ومع من أعرف يمكنني الكلام في أي شيء في كل وقت: أقول إن الجو بائس كأنه يخصني وحدي. الحذاء اتسخ ولماذا هو أبيض، ولماذا لبسته اليوم؟ ربما كان غير مناسب أو ضيق! أعلّق: الكلمة هذه غير مواتية، يمكنني أيضا أن أقيم حربا من أجل حرف واحد تم نطقه بطريقة خاطئة. أن أتذكر أحداثاً، كنت مثلا سأعيد رواية اول مرة التقينا، أخبره عن حبيبي الذي قبله، والذي قبل الذي قبله، عن اصدقائي، عن أعراس حضرتها منذ سنوات. أن أثير نقاشا حادا حول تربية البقر، الفستان الاصفر بلا كمين، حول اكل اللحم، حول الخضار الموسمية وطعم الشوكلاطة بالنعنع ولماذا هو لاذع…كنت سأعبّر عن كرهي الشديد للموز والتفاح، وعشقي للطماطم. أن أشرح السبب الذي قادني إلى التخلي عن فكرة القراءة ليلا والنوم متأخرا او نفوري القهري من رائحة القهوة…كلمات مكررة…ربما أخبرته هي بكل ذلك والان ملّت، انا ايضا أخبر من اول لقاء كل ذلك ولكنني أعيده المرة تلو الأخرى وفي كل مرة أضيف للحكاية أمورا حديثة، دون أن أسمي ذلك كذبا، أشعر في كل مرة أنني أقول رواية جديدة ممتعة وأجعله يفرح أو يغضب أو يشمئز، ما همني؟ لا يهم …أن يحيا هي الغاية…ربما أخبرها هو أشياء غريبة ليجعلها تضحك، النساء يعشقن من يجعلهن يبتسمن أو يضحكن أو يقهقهن…أنا إحداهن. لم يقولا أيًّا من هذا: كلمات متقاطعة، جريدة والجو الحليبي في الخارج، الاهتزاز والمطبات الهوائية تِلكم هي الأمور الوحيدة التي جمعت هذين المخلوقين على يميني في الطائرة..
وأمامي امرأة أخرى تضحك بفم بدا لي كبيراً، مبالغاً فيه، تلبس فستانا بلون وردي غير طبيعي. حول عينيها تجمعت خطوط هزيلة لكن واضحة… تضحك كأنها ترانا، تضحك وهي تحمل قنينة عطر يسمونه “الفستان الأسود”، والمرأة بجانبي تلبس رداء أسود أيضاً، لكنَّها لم تكن تضحك مثل جوليا روبرتس في مجلة إعلانات الطائرة…ولم يقولَا شيئاً ولا كلمة، بعد الأكل كما قبله…لم يبتسما، لم ينظرا أبداً إلى بعض، كأن عَدَاءَ الدنيا كلِّها يقف بينهما…
في اهتزاز عنيف، توقعتُ أن تمسك به أو يهرع هو إليها، أن تضع ذراعها تحت ذراعه، أو تحضن بقوة يديه بين يديها، أو عضدها بعضده، أو رأسها على كتفه، أو على صدره، لكنَّها وضعت بهدوء رأسها على ظهر الكرسي أمامها، كان لجوءا تلقائيا، بسيطا، عاديا، بأن كفاها الكرسي سنداً…كلمات متقاطعة، البطة المربوطة، هما، كل الآخرين وأنا…لو أنَّ نظراتهما تقاطعت كما تتقاطع كلمات المجلة!
ثمَّ عادت هي تنظر من جديد باتجاهي، لم أتظاهر بالنوم، حدَّقت مثلها باتجاه نظرها…كانت المدينة تحتنا تبدو كشجرة صبار عملاقة بنوارها الأصفر.
*****
خاص بأوكسجين