عن “حبّ الحياة”
العدد 236 | 14 تشرين الأول 2018
جورج أورويل


    في كتابها الصغير ” ذكريات عن لينين” تحكي نادجدا كروبتسكايا1 أنّه عندما كان لينين في المراحل الأخيرة من مرضه كانت تقرأ له في الأمسيات. تقول:

   ” قبل وفاته بيومين قرأتُ له في المساء أُقصوصة من تأليف جاك لندن، عنوانها “حبّ الحياة ” – وما زالت موجودة على الطاولة في غرفته. كانت قصة جيدة جداً. تجري أحداثها في الفيافي المغطاة بالثلوج التي لا تطأها قدمٌ بشريّة، ورجلٌ مريض، يكاد يموت من الجوع، يشقّ طريقه إلى الميناء الموجود على نهر كبير. إنَّ قِواه تخور، ولا يكاد يستطيع المشي لكنّه يواصل الانزلاق، وإلى جواره ينزلق دئب – أيضاً يكاد يموت جوعاً. ويدور صراع بينهما؛ وينتصر الرجل. ويصل إلى غايته وهو شبه ميّت، وشبه معتوه. وأمتعتْ هذه الأقصوصة إيليتش (لينين) أيَّما إمتاع. وفي اليوم التالي طلبَ مني أنْ أقرأ له المزيد من قصص جاك لندن.

   وتُتابع كروبتسكايا القراءة، والأقصوصة التالية كانت “مُشبّعة بالروح البورجوازيّة”، ” فابتسم إيليتش ورفضها بحركة من يده”. تينك الأقصوصتين من تأليف جاك لندن كانتا آخر ما قرأته له.

   إنَّ أقصوصة “حبّ الحياة” في الواقع كانت أشدّ كآبة مما أوحتْ به كروبتسكايا في اختصارها الموجز لها، لأنها في الحقيقة تنتهي بأنَّ الرجل يأكل الذئب، أو بعبارة أدقّ يغرز أسنانه في نحره بقوة ليشرب دمه. وهذه المواضيع هي التي كانت لا تُقاوَم بالنسبة إلى جاك لندن، وهذه الحادثة حول القراءات التي كانت تُتلى على مسمع لينين وهو على فراش الموت لا تُعتَبَر بحدّ ذاتها نقداً سيئاً لأعمال لندن. لقد كان كاتباً برع في وصف الوحشيّة، وكانت وحشيّة الطبيعة، أو من ناحية أخرى الحياة المُعاصِرة، هي في الحقيقة موضوعه الرئيس؛ وكان أيضاً كاتباً متنوّعاً إلى أقصى مدى، أنجزَ معظم أعماله على عجل وبهدوء؛ وكان ينطوي على مشاعر ربما كانت كروبتسكايا على صواب في اعتبارها ” بورجوازيّة ” – على أيّة حال، تلك المشاعر لم تتوافق مع معتقداته الديموقراطيّة والاشتراكيّة.

   خلال السنوات الأخيرة نُسيَتْ قصص جاك لندن الأخيرة بصورة غير مفهومة – نسياناً تاماً، حتى أنَّ المرء يعرف ذلك من غياب إعادة نشرها التامة. وعلى مستوى الجمهور الواسع فإنه يتذكّره من كتبه التي تحمل أسماء حيوانات، خاصة ” الناب الأبيض” و” نداء الغاب” – وهما الكتابان المُفضّلان لدى الشعوب الأنغلوساكسونيّة بسبب تعاطُفها مع الحيوانات – وبعد عام 1933 ارتفعتْ أسهُم سمعته بسبب رواية ” عقب القدم الحديديّ” الذي ألَّفه في عام 1907، مع بعض روح التنبّؤ بالفاشيّة. و” عقب القدم الحديديّ ” ليست رواية جيّدة، وفي المُجمَل لم تتحقَّق تكهناتها أبداً. والتواريخ الواردة فيها والجغرافيا تافهة، ويرتكب لندن خطأ، كان رائجاً في ذلك الوقت، بافتراضه أنَّ الثورة سوف تندلع أولاً في البلدان ذات التصنيع العالي. لكنَّ لندن كان على صواب في نقاط كثيرة في حين أخطأ باقي المتنبئين كلهم، وكان على صواب فقط بسبب تلك الخصلة التي جعلت منه كاتباً جيداً للقصص القصيرة واشتراكياً موثوقاً تنتابه الشكوك.

   إنَّ لندن يتخيَّل ثورةً بروليتاريّة تندلع في الولايات المتّحدة وتُسحَق، أو تُسحَق جزئياً، على يد الطبقة الرأسماليّة المُضادة العدوانيّة؛ ثم تتبع ذلك فترة طويلة تسيطر على المجتمع خلالها ثلّة صغيرة من الطُغاة عُرِفَتْ بالأوليغارشيين، تخدمهم ما يُشبه قوات أمن نازيّة S.S تُعرَف بالمُرتزقة. وتخيَّلَ لندن نشوء مُقاومة سرّيّة للدكتاتوريّة، وتنبّأ بتفاصيل معيَّنة بدقّة مُدهِشة؛ تنبّأ، على سبيل المثال، بذلك الرعب الخاص السائد في المجتمع الاستبدادي، الذي يختفي فيه ببساطة المشبوهون بأنهم أعداء للنظام الحاكم. لكنَّ أبرز ما في الكتاب هو ادّعاؤه أنَّ المجتمع الرأسماليّ لن يزول بسبب “تناقضاته”، بل سوف تتمكّن الطبقة المالكة من أنْ تتحوّل إلى شركة ضخمة بل وأنْ تُطوِّر ما يُشبه النظام الاشتراكي الفاسد، وتُضحّي بالعديد كم مزاياه من أجل المُحافظة على وضعها المتفوِّق. والصفحات التي يقوم فيها لندن بتحليل عقليّة الأوليغارشيين مُثيرة جداً للاهتمام. يقول مؤلّف الكتاب الوهميّ:

   “يؤمنون كطبقة اجتماعيّة بأنهم وحدهم يُحافِظون على الحضارة. ويؤمنون بأنهم إذا ضعُفَوا فإنَّ الوحش الهائل سوف يبلعهم مع كل ما هو جميل وممتع ورائع وطيّب داخل جوفه انهم واللزج. ومن دونهم، سوف تسود الفوضى وتتراجع الإنسانيّة إلى غياهب البدائيّة الذين عانوا الكثير للخروج منها… باختصار، إنهم وحدهم، مع كدّهم المتواصِل والتضحية بالذات، يقفون بين الإنسانيّة الضعيفة والوحش الذي يلتهم كلّ شيء؛ كانوا يؤمنون بهذا ـ يؤمنون إيماناً راسخاً.

   لا أستطيع أنْ أُعتمد كثيراً على هذا المُبرِّر الأخلاقيّ العالي لكامل طبقة الأوليغاريشيين. كان هذا هو موطن قوة أصحاب العقب الحديدي، والعديد جداً من الرِفاق كانوا بطيئين أو كرهوا أنْ يدركوا ذلك. والعديد منهم نسبوا قوة العقب الحديديّ إلى نظام المُكافأة والعقاب. وهذا خطأ. قد تكون الجنّة والنار هما عنصرا الحماسة الأساسيّان في عُرف المتطرفين؛ أما بالنسبة إلى بالنسبة إلى الغالبيّة العُظمى من المتديّنين، فإنَّ الجنّة والنار ثانويان بالنسبة إلى الصواب والخطأ. إنَّ حبّ الصواب، الرغبة في الصواب، والتعاسة مع أي شيء أقلّ من صائب – باختصار، السلوك الصائب، هو العامل الأساس في الدين. وهكذا الأمر مع الأوليغاريشيين…. إنَّ القوة الدافعة الكبرى للأوليغاريشيين هي الإيمان بأنهم يفعلون الصواب”

   من هذه الفِقرات وما شابهها يمكن أنْ نتبيَّن أنَّ فهم لندن لطبيعة الطبقة الحاكمة – أي، الصِفات التي ينبغي على الطبقة الحاكمة أنْ تتصِّف بها إذا أرادتْ أنْ تبقى – عميقٌ جداً. ووفقاً لوِجهة نظر الجناح اليميني التقليديّ، ” الرأسماليّ ” هو ببساطة وغدٌ ساخر، مجردٌ من الشرف أو الشجاعة، وليس في نيّته إلا أنْ يملأ جيوبه. وكان لندن يعلم أنَّ وِجهة النظر هذه زائفة. ولكن قد يتساءل المرء، لماذا يفهم هذا الكاتب المستعجّل، والرائع، والصبيانيّ بصورة ما، هذا الشيء بالذات فهماً أفضل بكثير مما يفعل مُعظم أقرانه من الاشتراكيين؟

   والجواب هو حتماً أنَّ لندن كان في استطاعته أنْ يتنبّأ بالفاشيّة لأنه هو نفسه كان يتّصِف بقدر من الفاشيّة: أو على أيّة حال بقدر من الوحشيّة وبتفضيلٍ لا يمكن التغلُّب عليه للرجل القويّ في مقابل الرجل الضعيف. لقد كان يعلم غريزياً أنّ رجال الأعمال الأميركيّين سوف يُحاربون عندما تتعرَّض ممتلكاتهم للتهديد، لأنه لو كان في مكانهم لقاتل هو نفسه. لقد كان مغامراً ورجلاً عملياً كما كان عدد من الكتّاب. ولما كان قد وُلِدَ في فِقر مُدقِع، فإنه قد نجح في الفرار منه وهو في سن السادسة عشرة، والفضل في ذلك يعود إلى تّصافه بشخصيّة قياديّة وببُنيةٍ بدنيّة قوية: كان قد أمضى سنوات عمره المُبكّرة بين قراصنة المحا، والمُنقّبين عن الذهب، والمتسكّعين والمُصارعين المُحترفين، وكان مُستعداً لإبداء إعجابه بالصلابة أينما عثر عليها. ومن ناحية أخرى، لم ينسَ أبداً البؤس الفظيع الذي شهده في طفولته، ولم يهتزّ قط ولاءه للطبقة المُستَغَلَّة. كان يقضي مُعظم وقته في العمل وفي إلقاء المُحاضرات لصالِح الحركة الاشتراكيّة، ولما كان قد حقّقَ النجاح وأصبحَ شخصية مشهورة استطاع أنْ يستكشف أسوأ أعماق الفقر بين دهماء لندن، منتحلاً شخصيّة بحّار أميركيّ، ويؤلِّفُ كتاب ” شعب الهاوية ” الذي ما زال يتميَّز بقيمة اجتماعيّة. كانت وِجهة نظره ديمقراطيّة بمعنى أنه كان يكره الاستغلال والتمييز الوراثيّ، وأنّه كان يشعر بالألفة القُصوى في مُصاحبة الذين يعملون بأيديهم: لكنَّ غريزته كانت تتوجّه ناحية قبول “أرستقراطيّة طبيعيّة ” في القوّة، والجمال والموهبة. كان يعلم فكرياً، كما هو واضح من ملاحظات مختلفة في كتابه ” عقب القدم الحديديّ”، أنَّ على الاشتراكيّة أنْ تعني أْنْ يرث المُذلّون الأرضَ، ولكن لم يكن ذلك ما طلبه مزاجه الخاص. وفي معظم أعماله ثمة خِصلة واحدة في شخصيّته تقتل ببساطة الخِصل الأخرى: وهو في أحسن حالاته عندما تتفاعل، كما يحدث في بعض قصصه القصيرة.

   إنَّ أعظم مواضيع جاك لندن هو قسوة الطبيعة. إنَّ الحياة صراع وحشيّ، والنصر لا صِلة له بالعدالة. وفي أحسن قصصه القصيرة هناك افتقارٌ مُذهل إلى التعليق، وغياب لإطلاق الأحكام، نشأ من أنّه في وقتٍ واحد يبتهج بالصراع ويُدركُ وحشيّته. ربما أفضل ما كتب قاطبة أقصوصة عنوانها “مجرد لحم”. وتدور حول لصَّين نجحا في سرقة كميّة كبيرة من المجوهرات: يُفكّر كلٌ منهما في أنْ يسلب الآخر نصيبه، ويقوم كلٌ منهما في تسميم الآخر في وقتٍ واحد بمادة سامّة، وتنتهي الحكاية بالاثنين ميِّتين على الأرض. والقصة تكاد تخلو تماماً من أي تعليق، وحتماً من أيّة “نصيحة أخلاقيّة”. من وِجهة نظر جاك لندن، هي مجرّد مقطعٍ من الحياة، من النوع الذي يحدث في عالم الزمن الحاضر: مع ذلك من المشكوك فيه أنْ تتجلّى هذه الحبكة لأي كاتب لا تفتنه الوحشيّة. أو خُذ مثلاً أقصوصة أخرى عنوانها ” السفينة فرانسيس سبيت”. وتحكي عن أفراد طاقم يتضورون جوعاً على متن سفينة يتسرّب إليها الماء بغزارة، يُقرّرون أنْ يلجؤوا إلى أكل اللحم البشري، وبينما هم يشجعون أنفسهم للبدء بذلك إذا بسفينة أخرى تلوح في الأفق. وما يتميَّز به جاك لندن هو أنّه جعل السفينة الثانية تظهر بعد وليس قبل نحر عنق فتى القمرة. وهناك أقصوصة نموذجيّة أكثر عنوانها ” قطعة من اللحم المشويّ “. هنا يعبِّر لندن عن حبّه للملاكمة ويُبدي إعجابه بالقوة الجسديّة الصِرف، وإدراكه لخسَّة ووحشيّة مجتمع تنافسيّ، وفي الوقت نفسه عن ميله الفِطريّ إلى قبول vae victis (بلوى المغلوب) بوصفها قانوناً للطبيعة. وفيها ملاكم عجوز يؤدي مباراته الأخيرة: خصمه مُبتدئ، شاب وممتلئ بالحيويّة، لكنه بلا تجربة. ويكاد العجوز أنْ يفوز، ولكن في النهاية تخسر براعته في الحلبة أمام التصميم الشابّ لخصمه. حتى عندما يجعله تحت رحمته يعجز عن تسديد الضربة التي ستُنهي المباراة وتخذله عضلاته في بذل الجهد الضروري لذلك. ويُغادر وهو يفكِّر بمرارة في أنّه لو أكل قطعة كبيرة من اللحم المشويّ في يوم المباراة لفاز.

   إنَّ أفكار الرجل العجوز كلها تدور حول موضوع ” ” الانتصار للشباب “. في أول الأمر تكون شابّاً وقويّاً، وتتغلَّب على رجال عجائز وتكسب نقوداً وتُبدّدها، ومن ثم تنحدر إلى الفقر المُدقع. في الواقع إنَّ هذه القصّة تحكي قصة حياة مُلاكم عادي المستوى، وسوف يكون من قبيل المُبالغة الممجوجة أنْ نقول أنَّ جاك لندن يستحسن الطريقة التي يُستغَل بها الرجالُ كمجالدين في مجتمع لا يُزعج نفسه حتى بإطعامهم. إنَّ ذِكر قطعة اللحم المشوي – وهو ليس بالشيء الضروريّ، بما أنَّ النقطة المركزيّة في القصّة هي أنَّ من المتوقَّع أنْ يفوز الشاب بفضل شبابه – يلمس ضمناً المسألة الاقتصاديّة. ومع ذلك هناك شيء في لندن يستمدّ ما يُشبه الاستمتاع بكامل العمليّة القاسية. إنه ليس استحساناً لخشونة الطبيعة، بقدر ما هو إيمانٌ غامض بأنَّ الطبيعة هي حقاً هكذا. إنَّ الطبيعة “حمراء الأسنان والمخالب”. ربما القسوة شيء سيئ، لكنَّ القسوة هي ثمن البقاء على قيد الحياة. إنَّ الشاب يقتل العجوز، الشاب يقتل الضعيف، وِفقاً لقانون لا يرحم. الرجال يتقاتلون مع العناصِر أو مع أقرانهم من الرجال، وليس لديه غير صلابته الخاصة تعينه في ذلك. وجديرٌ بلندن أنْ يقول إنه كان فقط يصِفُ الحياة كما تُعاش فعلاً، وفي أفضل قصصه القصيرة يفعلُ هذا: ومع ذلك، يُبيِّن التكرار المتواصل للموضوع نفسه – الصراع، الصلابة، البقاء على قيد الحياة – الاتّجاه الذي تدلّ إليه ميوله.

   لقد تأثّر لندن تأثُّراً عميقاً بنظريّة البقاء للأصلح. وكتابه ” قبل آدم” – وهو قصّة ليست دقيقة لكنَّ قراءتها ممتعة عن ما قبل التاريخ، وفيها يجتمع الرجل القرد ورجالٌ من العصر الباليوليثي المبكِّر والمتأخّر في وقتٍ واحد – هو محاولة للترويج لنظريّة داروين آنفة الذكر. وعلى الرغم من أنَّ فرضيّة داروين الأساسيّة لم تتزعزع، إلا أنَّ تغيُّراً طرأ، خلال السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة[1]، على تأويلها على يد المفكِّر العاديّ. وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت النظريّة الداروينيّة تُستخدَم كتبرير لسياسة الرأسماليّة laissez-faire (بعدم التدخُّل)، أو لسياسة القوّة ومن أجل استغلال الشعوب الخاضعة. كانت الحياة مُتاحة للجميع مجاناً تُعتَبَر فيها حقيقةُ البقاء على قيد الحياة برهاناً على البقاء للأصلح: كان ذلك تفكيراً مُريحاً لرجال الأعمال الناجحين، وقادتْ بصورة طبيعيّة، وإنْ كان ليس بصورة منطقيّة، إلى فكرة السلالات “المتفوِّقة” وتلك “الوضيعة”. وفي أيامنا هذه لم نعُد نرغب في تطبيق عِلم الأحياء على السياسة، من ناحية لأننا شاهدنا النازيين يُطبّقون ذلك الشيء نفسه بشموليّة واسعة وبنتائج مريعة. ولكنْ عندما كان لندن يكتب، كانت نسخة من النظريّة الداروينيّة منتشرة بصورة واسعة وكان الهروب منها أمراً صعباً. وهو نفسه كان أحياناً قادراً على الاستسلام للغموض العِرقيّ. فقد عبثَ لبعض الوقت بنظريّة عِرقيّة مُشابهة للنظرية النازيّة، وتظهر بوضوح في أعماله كلها عبادة “السِمة الشماليّة”. فهي ترتبط من ناحية بإعجابه بالملاكمين، ومن ناحية أخرى بتجسيده الحيوانات على هيئة بشريّة: إذ يبدو أنَّ هناك سبباً وجيهاً للاعتقاد بأنَّ المُبالغة في إظهار الحب للحيوان يتماشى عموماً مع موقف وحشيّ من الكائنات البشريّة. لقد كان لندن اشتراكياً ينطوي على غرائز قرصان ويحمل ثقافة مؤمن بالمذهب الماديّ من القرن التاسع عشر. وفي العموم فإنَّ خلفيّة أحداث قصصه ليست صناعيّة، ولا حتى متحضّرة. إنَّ مُعظمها يقعُ – وعاش مُعظم حياته – في مزارع أو في جزر البحار الجنوبيّة، وعلى متن سفن، وفي السجن وفي فيافي المنطقة القطبيّة القاحلة: في أماكن لا يكون فيها الرجل وحيداً ولا يعتمد على قوّته الخاصّ ودهائه، أو حيث الحياة تتبع نظاماً أبوياً بصورة طبيعيّة.

   ومع ذلك، كان لندن يكتب بين حينٍ وآخر عن مجتمعٍ صناعيّ مُعاصِر، وفي الإجمال يكون في أحسن حالاته وهو يفعل ذلك. وبعيداً عن قصصه القصيرة، هناك رواية ” شعب الهاوية”، و ” الطريق” (وهو كتاب صغير رائع يصِفُ لندن فيه تجارب شبابه وهو متشرّد)، بالإضافة إلى فِقرات معيَّنة في ” وادي القمر”، التي تجري أحداثها على خلفيّة من التاريخ المُضطرب لنقابة العمال الأميركيّة. وعلى الرغم من أنَّ قوّة دوافعه بعيدة عن الحضارة، إلا أنَّ لندن قرأ تاريخ الحركة الاشتراكيّة بعمق، وحياته المُبكِّرة علَّمته كل ما احتاج إلى معرفته عن الفقر في المدن. وهو نفسه كان عاملاً في مصنع عندما كان في الحادية عشرة، ولولا تلك التجربة التي عاشها لما كتبَ قصة مثل “المُرتدّ “. وكما يفعل لندن في أفضل أعماله، لا يُعطي أيَّ تعليق، بل يُسدِّد حتماً إلى إثارة الشفقة والسخط. في العموم، عندما يكتب عن مشاهد أشدّ بدائيّة يُصبح هذا الموقف الأخلاقيّ مُلتبساً. خُذ، على سبيل المثال، قصة مثل ” اتّجه غرباً”. مع مَنْ يتعاطف لندن – أمع القبطان كلن أم مع جورج دوريتي؟ إنَّ انطباعاً يتشكّل عند القارئ بأنه لو اضطُرَّ إلى الاختيار لدعم القبطان، الذي يرتكب جريمتيّ قتل لكنه ينجح في قيادة سفينته حول رأس الرجاء الصالح. من ناحية أخرى، في قصة مثل “تشيناغو”، على الرغم من أنَّها تُروى بالأسلوب المعتاد الخالي من الشفقة، إلا أنَّ ” العبرة الأخلاقيّة ” واضحة لكل مَنْ يريد أنْ يراها. إنَّ لندن يكون في أحسن حالاته عندما يتعامل مع معتقداته الاشتراكيّة، التي تظهر عندما يتعامل مع مواضيع على غرار الاستغلال المُغرِض، وعمالة الأطفال أو معالجة المُجرمين، لكنها لا تظهر أبداً عندما يكتب عن المُستكشفين أو الحيوانات. ربما لهذا السبب يتعامل قدرٌ كبير من أفضل ما كتب مع الحياة في المدينة. وفي قصص مثل “المُرتدّ”، و”مجرد لحم”، و”قطعة لحم مشويّة” و” باق على حاله”، مهما بدت قاسية وخسيسة، إلا أنَّ شيئاً يُبقيه على خطّه ويتفحّص حافزه الطبيعيّ إلى تمجيد القسوة. هذا “الشيء” هو معرفته، النظريّة والعمليّة، لمعنى الرأسماليّة الصناعيّة وصِلتها بالمعاناة الإنسانيّة.

   إنّ جاك لندن كاتب شديد الاضطراب. خلال حياته القصيرة والمُضطربة أنتجَ كمّاً هائلاً من الأعمال، مُجبراً نفسه على إنتاج ألف كلمة في كل يوم وكان يُحقّق ذلك عموماً. حتى أفضل قصصه تتّصِف بالسِمة الغريبة في أنها محكيّة بشكل جيد ولكنها لم تُكتَب بشكل جيد : لقد سُرِدَتْ باقتصاد مُثير للإعجاب، بإيراد الأحداث اللازمة في المكان المناسِب، لكنَّ نسيج الكتابة ضعيف، والعبارات رثّة وواضحة، والحوار غريب الشكل. ومرّتْ سُمعته بفترات من الصعود والهبوط، وبدا طوال فترة طويلة أنّه حظيَ بالإعجاب في فرنسا وألمانيا أكثر مما حظيَ في البلدان المتكلِّمة بالإنكليزية. وحتى قبل انتصار هتلر، الذي أخرجَ رواية ” عُقب القدم الحديديّ” من غياهب النسيان، كان مشهوراً بأنّه كاتب يساريّ و “بروليتاريّ” – وهي السُمعة نفسها التي حظيَ بها روبرت تريسل2، أو و. ب ترافن أو أبتون سينكلير. وتعرَّضَ للهجوم من كُتّاب ماركسيين بسبب “ميوله الفاشيّة”. وتلك الميول كانت لديه بلا أدنى شك، إلى درجة أنّه أنَّ المرء تخيّله ما زال حياً حتى يومنا هذا، بدل أنْ يموت في عام 1915، لكان من الصعب جداً تحديد ولاءاته السياسيّة. إذْ يمكن تخيُّله مُنتسباً إلى الحزب الشيوعيّ، أو واقعاً ضحيّة للنظريّة العرقيّة النازيّة، ويمكن تخيّله بطلاً دونكيخوتياً في عُصبة تروتسكيّة أو فوضويّة. ولكن، كما حاولتُ أنْ أوضِّح،، لو أنّه كان شخصاً موثوقاً سياسياً لما ترك وراءه ربما ما يستحقّ الاهتمام. وفي الوقتَ الذي تتأسّس فيه سُمعته بشكل رئيس على روايته ” عقب القدم الحديديّ “، فإنَّ تميُّز قصصه القصيرة يكاد يطويه النسيان. إنَّ حفنة من أفضلها جُمِعَتْ في هذا الكتاب، وهناك مجموعة أخرى تستحق أنْ تُنتَشَل من على رفوف المتحف ومن الصناديق المُستعملة. نأمل أيضاً أنْ تظهر طبعات جديدة من روايات ” الطريق” و ” السترة ” و ” قبل آدم” و ” وادي القمر ” عندما يتوفّر الورق بكميات أكبر. إنَّ مُعظم أعمال جاك لندن مكتوبة باستعجال وغير مُقنِعة، لكنه أنتج على الأقلّ ستة مجلدات تستحق أنْ تبقى مُتداولة، وهذا ليس بالإنجاز السيء لحياةٍ لم تمتد لأكثر من واحد وأربعين عاماً.

————————————–

[1]  – هذا الكلام قاله أورويل في عام 1945.                 – المترجم

[2] – نادجدا كروبتسكايا (1869 – 1936): ثوريّة بلشفيّة، وزوجة الزعيم لينين حتى وفاته عام 1924.                 – المترجم

[3] – روبرت تسل (1870 – 1911): كاتب أيرلندي.               – المترجم

 ******

خاص بأوكسجين