عن الفن والحرب ومستقبل الإنسانية
العدد 186 | 12 كانون الثاني 2016
هنري ميللر/ ترجمة: أسامة منزلجي


“إنَّ ما سأقول يكاد يكون مبتذلاً ولكن يجب أنْ أُشدد عليه باستمرار: إنَّ كل شيء مخلوق، كل شيء يتغيَّر، كل شيء يتدفّق، كل شيء يتحوَّل”

   في خضم الحرب العالمية الثانية، كان هنري ميللر (1891 – 1980) – القارئ النهم، والأديب المُبدع، وبطل الإبداع المُركَّب، والكاتب المنضبط – يعيش في بيفرلي غلين، في كاليفورنيا، يُصارع الأسئلة التي تعذّب الروح وتُثيرها الحرب حتماً. في تلك الظروف كتب ” عن الحرب والمستقبل ” وهي مقالة طويلة عن الحرب، والفن، والتكنولوجيا، ودور المرأة في المجتمع، ومستقبل البشرية، وظهرت أخيراً في كتابه ” يوم أحد بعد الحرب ” في عام 1944. وفي عام 1959 ظهرت في ” قارئ هنري ميللر ” – وأيضاً في كتاب ميللر الرائع ” حِكمة القلب ” – حيث أرفقها بإيضاح : ” كانت الحرب لا تزال دائرة، وانقطعت مواردي المالية من أوروبا، وكنت فاتر الهمة  “. ومع ذلك، تقدِّم المقالة نظرة خالدة، وفي حينها إلى أقصى مدى إلى انتصارات الروح الإنسانية وأعمالها الاستبدادية.

يبدأ ميللر بالتأمُّل في استمراريّة الزمن :

   ” بالنسبة إلى معظم الناس الماضي ليس أبداً الأمس، أو قبل خمس دقائق، بل هو حقبٌ نائية، مبهمة، بعضها مزدهر وأخرى فظيعة، وكل شخص يُعيد بناء الماضي حسب مزاجه وتجربته. إننا نقرأ التاريخ لكي نؤكّد على وجهات نظرنا الخاصة، ليس لنتعلَّم ما يعتبره الفقهاء صحيحاً. وقد لاحظت أنَّ المستقبل كما الماضي ليس هناك اتفاق حوله. إنَّ صلتنا بالماضي أشبه بصِلة الأبقار بالمرج – لا نتوقف عن المضغ. إنه ليس عملاً ننهيه، كما نحب أحياناً أنْ نتخيَّل، بل شيء حيّ، يتغيَّر باستمرار، ويوجد معنا دائماً. لكن المستقبل يوجد معنا أيضاً، وهو حي ويتغيَّر باستمرار. والفرق بين الاثنين، وهو، بالمناسبة، وهمي تماماً، هو أنَّ المستقبل نخلقه في حين أنَّ الماضي نُعيد خلقه فقط. أما بالنسبة إلى النقطة المتلاشية على الدوام  التي اسمها الحاضر، نقطة الارتكاز تلك التي تذوب في وقت واحد في الماضي والمستقبل، فلا يعرفها ويعيشها إلا أولئك الذين يتعاملون مع الأبديّ، ويدركون أنها كل شيء.

ويبيّن بوضوح مرحلة الخوف من التكنولوجيا المألوفة :

   ” إنَّ مرحلة الثقافة الأوروبية، والأميركية، قد انتهت. والمرحلة التالية تخص التقنيّ ؛ إنّ فجر آلة العقل يبزغ. فليرحمنا الله.

وبتأمُّل نافذ، وهو صحيح ومُلحّ اليوم أكثر من أي وقت، يستعرض ميللر وضع الحرب والسِلم :

   ” في المستقبل لن تكون هناك إلا ” حروب عالمية ” – وهذا واضح منذ الآن.

   ومع الحروب الشاملة يزحف عامل جديد إلى الساحة. فمن الآن فصاعداً سوف يتورط كل شخص، دون استثناء. وما بدأه نابوليون بالسيف، وتباهى بلزاك بأنّه سوف يُنهيه بالقلم، سوف يستمر في الواقع بتعاون العالم أجمع، بما فيه الأعراق البدائية التي ندرسها ونستغلها بلا خجل وبلا رحمة. ومع انتشار الحرب وامتدادها سوف يغوص السِلم أكثر فأكثر في قلوب الناس. وإذا أردنا أنْ نقاتل بحماس أكبر سوف نُضطر أيضاً إلى أنْ نعيش بحماس أكبر. 

ثم يواصل فيُردد تأملات عشيقته حينئذٍ أناييس نن الصائبة حول ” الفرد والتحركات الجماعية ” : 

   ” إنَّ هذه الحرب سوف تجعلنا ندرك أنَّ أُمم الأرض تتألَّف من أفراد، وليس من جماعات. وسوف يكون الإنسان العادي هو العامل الجديد وسط الهوس الجماعي الذي سيسود العالم أجمع “

إنَّ ميللر يضع في حسبانه دور ومسؤولية المخترعين و ” العباقرة ” في دفع المجتمع نحو الأمام – وهذا الأمر ناقشه عالم الفيزياء الفلكية نيل دوغراس تايسون حول كولبرت – مع تفاؤل متساوي الأجزاء بالطبيعة الإنسانية وحذر النوايا الإنسانية المُغلَّفة بالقوة :

   ” إنّ مشكلة القوة هي ماذا تفعل بها، كيف تستخدمها، ومن سيستخدمها أو لا يستخدمها، سوف تتخذ أبعاداً كانت حتى ذلك الحين لا تُذكر. إننا نتقدم من عالم من أشياء لا يمكن حسابها ولا التفكير فيها في حياتنا اليومية كما أننا خلال الأجيال القليلة الماضية كنا نتعوّد على هذا العالم عبر لعبة التفكير. إنَّ كل شيء يصل إلى مرحلة النضج، وسوف يكون المحصول ضخماً ومخيفاً. الذين يستخفون بتلك التكهنات ويعتبرونها وهمية سوف أكتفي بأنْ أُشير إليهم، أنْ أسألهم أنْ يتخيّلوا، ماذا سيحدث إذا كشفنا النقاب عن الاختراعات المُسجّلة المُخبّأة في سراديب مُستغلينا معدومي الضمائر. وحالما ينهار نظام الاستغلال المجنون الحالي، وهو ينهار مع مرور كل ساعة، وقوى التخيُّل، التي كانت حتى الآن ذابلة ومقيَّدة، سوف تثور. يمكن أنْ يتغيَّر وجه الأرض تماماً بين ليلة وضحاها حالما نتحلّى بالشجاعة لتجسيد أحلام عباقرتنا المبدعين. لم توجد وفرة من المخترعين كما يتوفر في عصر التدمير هذا. وهناك أمر واحد يجب حفظه بشأن العبقري – وحتى عن المخترع – وهو أنه دائماً يساند الإنسانية، وليس الشر. إنَّ أكبر عار يُجلل هذا العصر هو أنه استغلَّ العبقري لأغراض شريرة. ولكن مثل هذا التصرف دائماً تعود نتائجه إلى صاحبه : ودائماً ودون استثناء ينتقم العبقري لنفسه.

يمكن أنْ نرى بسهولة أنه بطل 99% من البشر اليوم : 

   ” إنَّ ما يكمن في القاع سيظهر على السطح، والعكس بالعكس. إنَّ العالم يقف على رأسه بالمعنى الحرفي منذ آلاف السنين “

قبل سنتين من صدور كتيب ” الأعراق الإنسانية ”  يدعو بفصاحة إلى إلغاء الحساسيات العرقية :

   ” لقد انقطعت أنفاسنا من الكلام عن المساواة والديموقراطية من دون حتى أنْ نواجه حقيقتهما. علينا أنْ نحتضن هاتين المسألتين المُهملتين والمنبوذتين، ونذوب فيهما، ونستوعب ألمهما وبؤسهما. لا يمكننا أنْ نحصل على الأخوة الحقيقية ما دمنا ندعم وهم التفوق العرقي، ومادمنا نخشى أنْ نلمس البشرة الصفراء، والسمراء، والسوداء والحمراء “

ثم يقدِّم نسخة عن مستقبل المدينة، التي تنتظم بدرجة مذهلة مع فكرة المواطنة العالمية السائدة اليوم : 

   ” إنَّ المدينة، التي هي مهد الحضارة، كما نعرفها، سوف تزول. سوف تبقى هناك نوى طبعاً، لكنها ستكون متحركة ومتدفقة. لن تنغلق شعوب الأرض وتنعزل عن بعضها على شكل ولايات لكنها ستتدفق بحرية على سطح الأرض وتمتزج معاً. لن تكون هناك مجموعات ثابتة من التكتلات الإنسانية “

إنَّ ما أضافه ميللر إلى تعريفات التاريخ الشهيرة للفن يعكس مفهوم جون ديديون للكتابة بأنها قوة. يقول :

   ” في جذور غريزة الفن تكمن الرغبة في السلطة – السلطة بالنيابة. إنَّ موقع الفنان في الترتيب الهرمي يقع بين البطل والقديس.

… بعبارة أشدّ بساطة، إنَّ الفن يقع على مرمى حجر فقط من الواقع ؛ إنه الردهة التي تجري عليها طقوس الدخول. ومهمة الإنسان هي أنْ يجعل من نفسه عملاً فنياً. والإبداعات التي يُخرجها إلى الوجود لا شرعية لها بحد ذاتها ؛ إنها توقِظ، لا أكثر “

على الرغم من ولع ميللر الشديد بالكتب، إلا أنه تخيّل مستقبلاً لا وجود فيه للكتاب بشكله المُغلّف :

   ” في غضون بضعة مئات من السنين أو أقلّ سوف تصبح الكتب شيئاً من الماضي. وقد مرّ وقت كان الشعراء فيه يتواصلون مع العالم بدون أية وسيلة مطبوعة ؛ وسوف يأتي وقت يتواصلون فيه بصمت، ليس فقط كشعراء، بل كمتنبئين،. إنَّ ما أهملناه في غمرة هوسنا في ابتكار المزيد من السبل والوسائل المذهله للتواصُل، هو التواصُل “

قبل عقدين من ظهور ” المقالة التي تتنبّأ بالمستقبل ” لمارشال ماكلوهان  ويتناول فيها كيف ستساهم وسائل الإعلام الجديدة في تشكيل رغباتنا ومعاييرنا الثقافية، يقدم لنا ميللر ملاحظات مشابهة :

   ” كلا، إنَّ التقدم لن يأتي من خلال استخدام أدوات ميكانيكية أكثر ذكاءً، ولا من خلال انتشار الثقافة، بل سيأتي على شكل حدوث اختراق. سوف تترسخ أشكال جديدة من التواصل. والأشكال الجديدة سوف تفترض رغبات جديدة. والرغبة الكبرى في عالمنا اليوم هو أنَّ نكسر قيودنا. ونحن لم نع تلك الرغبة بعد. إنَّ الناس لم يدركوا بعد ما الذي يكافحون من أجله. وهذه بداية كفاح طويل، كفاح يتجه من الداخل إلى الخارج “

ويأسى على المشهد السياسي لتلك الحقبة – بكلام ينطبق على كل زمن وينطبق أكثر على هذا الزمن بالذات، مع إلحاح انتخابات هذا الموسم – فيقول : 

   ” غالباً، وأنا أستمع إلى الراديو، إلى خطاب يُلقيه أحد رجال السياسة، أو إلى موعظة يلقيها أحد المهووسين بالدين، أو إلى حديث مع أحد المثقفين البارزين، أو إلى مناشدة من أحد أصحاب النوايا الحسنة، أو إلى دعاية سياسية تنهش فينا ليل نهار عبر شياطين الإعلان، أتساءل ما الذي يمكن أنْ يعتقد أناس القرن القادم لو أنهم استمعوا إلى ما يُبثّ فقط في أمسية واحدة كتلك ” 

ولكن، في المُطلق، يبقى إيمان ميللر المميَّز بالروح الإنسانية  قوياً لا يتزعزع :

   ” من ناحيتي، لا أرى شيئاً من المثابرة التي يبذلها الفنان، ولا أرى من حاجة إلى الفرد العبقري في مثل ذلك نظام. لا أرى من حاجة إلى شهداء. لا أرى من حاجة إلى كفّارة بالنيابة. لا أرى من حاجة إلى أنْ تحافظ قلّة قليلة بشراسة على الجمال. إنَّ الجمال والحقيقة ليسا في حاجة إلى مَنْ يدافع عنهما، ولا إلى شارحين. ولن يستطيع أحد أنْ يستأثر بالجمال وبالحقيقة ؛ لقد خُلقا ليشترك الجميع فيهما. إنهما في حاجة فقط إلى مَنْ يدركهما ؛ إنهما موجودان إلى الأبد. والحق، أننا عندما نفكر في الصراعات والانشقاقات التي تظهر في دنيا الفن، نعرف أنها لا تنشأ من حب الجمال والحقيقة. إنّ عبادة الذات هي السبب الوحيد للانشقاق، في الفن كما في المجالات الأخرى. إنَّ الفنان لا يدافع أبداً عن الفن، بل يدافع ببساطة عن مفهومه الخاص الضيق عن الفن. إنَّ الفن عميق وشامخ ومترام كالكون. ليس هناك إلا الفن، إذا نظرت إلى الأمر كما ينبغي. إنَّ هذا يكاد يكون قولاً مبتذلاً ولكن ينبغي التأكيد عليه باستمرار : إنَّ كل شيء مخلوق، وكل شيء يتغيَّر، كل شيء يتدفق، كل شيء يتحوَّل”

___________________________________

عن موقع Brain Pickings         

الصورة للفوتوغرافي الأمريكي Mitch Dobrowner

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: