على حافّة الحياة
العدد 225 | 15 كانون الثاني 2018
كلود شنيرب


يومها مات جوناس إيفيان للمرّة الأولى.. باغته الأمر.. كان يتجوّل بين أروقة سوق الزّهور، إلاّ أنّ واحدة من بائعات الزّهور المرحات لم تناده أو حتّى تحاول لفت انتباهه. كما لم يكن هناك ما يوحي بأنّهنّ يتعمّدن ذلك. التكلفّ – في مطلق الأحوال – لا يليق بهنّ.

 لا تبدو على جوناس ملامح مميّزة أو مثيرة للفضول. شاربان قصيران، بشرة يميل لونها إلى الزّيتون الأخضر، وبتحفّظ شديد يجوز القول إنّ بدلته الرّماديّة التي لا يشبهها شيء تنأى به عن كونه رجلا لا تلحظه الأبصار.

 ربّما كان غائبا ما يكفي ليبدو كأنّه انسحب من بنيته الجسديّة. أمّا بائعات الزّهور فقد أحسسن بذلك منذ الوهلة الأولى.. ربّما بفضل ذائقة الشمّ المرهفة التي خلّفتها لديهنّ حرفتهنّ. أو المراس وطول معاشرتهنّ لزهور مقطوفة تجهل أنّها ميّتة، هي التي كوّنت لديهنّ حدسا بإمكانه أن يلتقط شعاع الحياة الذي يفصلهنّ عنه.

 جلس على صخرة حارّة وتراءى له أنّه يمتطيها وأنّها تقلّه إلى أعلى. إلى فوق. إلى ما بعد السماء. بلغ بخواطره حافّة خياليّة لم يعد في وسعه معها أن يحدّد وظيفة هذا العالم الوضيع.

 يعلم جوناس جيّدا أنّه يجلس على رصيف سوق الزّهور، فقط ثمّة شعور غامض سيطر عليه ذاك المساء. باقة زهور واحدة كانت كفيلة بأن تغمره نشوة عارمة وتجعله يعلق في شبكة من خيوط هلاميّة معطّرة.

 لم يكن مثل عائد إلى الحياة كما يشاع، بقدر ما كانت حياته أصلا رتيبة، جامدة، لا حرارة فيها.

  مرّ من أمامه طفل صغير. حين وصل إلى مستواه توقّف وسأله عن الفرق بين المغنوليا (1)      وبين الكلب الأزرق النيليّ. لمّا لم يحظ بإجابة واصل طريقه.. ماذا يحدث…؟ لا شكّ أنّها واحدة من تلك الأحاجي البلهاء التي تحمل في مضمونها رسائل ومؤشّرات مخيفة. لم يكن دماغه يعمل بصورة طبيعيّة، لذلك ظلّ السؤال الذي قذف به الطّفل إليه يتّخذ أشكال الرّنين الممكنة التي تفوق قدرته على التحمّل والاستيعاب.

ثمّ اختفى سوق الزّهور تاركا خلفه روائح من كلّ الأصناف. إنّنا لنحرص على وضع الزّهور فوق القبور دائما، تقليدا ورثناه عن آبائنا لكن لا أحد في وسعه أن يشرح لِمَ قد ننثر حول الميّت البتلات كأننا ننثر حوله أفكاراً وأشياء مؤسفة؟ إنّ التّفسير الوحيد لظاهرة اختفاء سوق الزّهور في تلك الّلحظة هو أنّ جوناس أغمض عينيه.

  راح يمشي من ساعتها وسط بقعة قاحلة مجهولة دون أن يفهم ما الذي عزله فجأة عن شعبه       وأهله الذين اعتاد الدفء الذي يمنحه القرب منهم.. هناك لم تكن ترى لا شجرا ولا حجرا ولا نباتا.

منطقة تضيء بنور ليس له نقطة يبدأ منها، تماما كتلك الّلوحات الهولنديّة التي لا نعرف أيّ رسّام أبدعها..

تمدّد على الأرض ونام أيّاماً وليالي لا يمكن عدّها – هذا على فرض أنّ تقويمنا الأرضي جدير بثقتنا -. ثمّ أيقظه ملاك بخفقة من جناحه. أصاخ السّمع فتسلّلت إليه لغته الموسيقيّة الخرساء الحزينة، أصابته بكدر وامتعاض شديدين، وألحّت عليه رغبة ملحّة ليسأل الملاك عن الفرق بين المغنوليا وبين الكلب الأزرق النّيليّ، لكنّه سرعان ما تنبّه إلى أنّ الإجابة في مكان كذاك لن تكون سوى: “لا فرق!”.. تراجع الملاك. شاهده جوناس وهو يبتعد على امتداد المكان اللاّمتناهي. استدعى ذكريات سوق الزّهور. تعلّق خياله بأروقته ومدرّجات العرض الحديديّة والبائعات وبرك ماء البحر التي كان البحّارة يلقون فيها ما زاد عن حاجتهم.

 تفطّن جوناس الآن إلى أنّه يتنازل عن واحدة من الحدائق الآسرة اللائقة للغاية بعطور الزّهور أو على الأقلّ بالنّور الذي تعكسه برك الصيّادين.

ثمّ فتح عينيه من جديد، فألفى الصبّي يواصل طريقه. كان لا يزال على بعد أمتار قليلة..

المناسبة القادمة التي سيموت فيها جوناس، حتما ستكون الأخيرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المغنوليا: شجرة ذات أوراق دائمة الخضرة وزهرات كبيرة، جميلة، فوّاحة العبير، بيضاء أو صفراء أو قرنفلية أو أرجوانية تتفتّح في أوائل الربيع.

من مجموعة: Aux bords de la vie إصدار سنة 1999

*****

خاص بأوكسجين


كاتب فرنسيّ (1914 - 2007)،أحد مؤسّسي مجلّة " الفصل الجديد"" ،نشر العديد من المقالات النّقديّة الأدبيّة في الصّحف الفرنسيّة و غيرها، وتطرّق في دراسات عديدة له للسّينما والمسرح. شارك في الحرب العالميّة الثّانية .سجن وهرب مرّات عديدة وأُعيد.قلّدوه وسام الحرب والنّجمة البرونزيّة وغيرها من أوسمة."

مساهمات أخرى للكاتب/ة: