ثمة حالة عصبية تنتاب الجسد وتسبب شللاً قصير الأمد بعد النوم. نسمي هذه الحالة في عائلتي “صحوة الساحرة”، وهي تسمية لطيفة، ومخيفة في الوقت نفسه، لمأزق عويص. حدث لي هذا عدة مرات عندما كنت مراهقة: كنت أخرج من الحلم إلى الوعي فجأة… أصحو من نوم عادي لأجد نفسي عالقة في جسد لا يستجيب لي. كان هذا أقرب ما يكون إلى الموت كما أسعفني حكمي في ذلك الوقت> كنت أشعر وكأنني أُدفن حية، الأمر الذي قد لا يحتل المراتب الخمس الأولى في قائمة الأشياء التي تخيفني في حياتي، لكنه بالتأكيد من ضمن تلك القائمة. يصبح جسدك كله قبراً ودماغك شبحاً، وتشعر بأنك تطوف في الفراغ القائم بين عالم الأحياء وكل ما عداه. أذكر كيف كنت أصرخ عند حدوث هذا. كنت أصرخ بشدة، بصوت مرتفع، وأطلق صرخات دامعة، لكن لم يكن يصدر مني سوى الصمت. أقول هذا الآن لأنه التشبيه الأصدق، ليس فقط لتجربة السود في أمريكا، بل لتجربة البيض فيها على حد سواء. ثمة خط فاصل بين الوعي والنوم، بين تحطم الجسد والقدرة على رؤية القوى التي تهاجمه.
ولد السود في أمريكا على ذلك الخط الفاصل، ذلك الفراغ الهش الذي تخلقه معرفتك أن ذاتك المادية في خطر وأنت عاجز عن التصرف. نراقب أجسادنا وهي تتحطم فداءً للمنفعة الاقتصادية والسادية للبياض، وصرخاتنا يكتمها الإنكار. تذكّروا دائماً ان البياض ليس سمة شخصية، الشخص الأبيض لا يجسد البياض بحد ذاته… البياض عبارة عن منظومة، عن كيان، هو ما قال عنه جيمس بولدوين إنه سعر التذكرة، تذكرة الدخول إلى أمريكا. يشير بولدوين إلى أن نظام التمييز العرقي هو إهانة للإنسانية، إذ يقول: “أنا إنسان وأنت إنسان. طالما أنك تنظر إلي كمشكلة فأنت تحط من قدرك كإنسان.” وكما هو واضح لكل من يرى ويسمع، وحتى بعد جيل من قوله هذا، لم يُفعل شيء يُذكر لردع هذا الكيان المختلق.
أعمل حالياً في التدريس ضمن أكثر بيئة محافظة سياسياً عرفتها في حياتي: فرينسو في كاليفورنيا. من كان يعلم؟ والآن لم تعد البيئة المحافظة مشكلة بحد ذاتها، لكن المشكلة تتجسد في البيئة التي تم تحييدها بفعل الإرث الذي خلفه البياض. كان لدي زميلات، وجميعهن من الأعراق الملونة، تعرضن للتنمر والتجبر والتحرّش من قبل وكلاء ذلك الكيان بطرق لم أشهدها من قبل… اعتداءات على الأملاك، ورسائل عدوانية، وتخريب متعمد. ولم نسمع بعد بأي اعتراف حقيقي بكل هذا، سواء من قبل قيادة البلد أم وكالات الأخبار المحلية. المخاطر أكثر مما سلف حتى. أسطورة المجرم أسود البشرة لا تزال واسعة الانتشار، وهذا ما يبرر الاعتقالات الجماعية للأجساد السوداء والسمراء في داخل البلد، والتي توسعت وباتت تحدث على حدود البلد أيضاً، وهذا ما يحوّل تلك الأجساد إلى بطاريات نقد صامتة تعود بالأرباح على الشركات عبر أموال الضرائب. الآلات المالية مصممة للحفاظ على الفقراء في حالة من الفاقة، وخفض قيمة ممتلكاتهم. أما مدارسهم، التي تفتقر إلى المصادر، فتحافظ على وضعها الراهن لتعزيز تفوق البياض.. دائماً.
في الواقع، يدرك الجميع أن تلك القبلية وأكذوبة العنصرية يمكن استئصالهما، لكن لا أحد يوافق على المسلك والطريقة. الحل الوحيد هو الضعف، وذاك ليس بالخيار السهل. أن تتخلى عن البياض يعني أن تصبح ضعيفاً، أن تتعرّض للدموع العميقة التي حفرت في النفس البشرية على مدى الأجيال، أن ترى الكراهية في وجه من تحب وأن تسميها باسمها، وبالتالي أن تتقبل أن تكون مرئياً، وملموساً بالمحصلة. بالنسبة إلى معظم الأشخاص السليمين أخلاقياً الذين استفادوا من منظومة البياض، هناك حاجة إلى تبرئة الذات من شعور الذنب والمسؤولية. في الفضاء الأدبي، تلك الوسيلة التي ندعم من خلالها الأبطال الذين يواجهون العنصرية، أنصاف آلهة الأحرف الأمريكية، توني موريسون، وجيمس بولدوين، والدكتور مارتن لوثر كينغ، والقائمة تطول. لكن ثمة شيء مضحك يحدث. في الوقت الذي يتم فيه تأييدهم، يتم تحييد القوى التي يجسدونها عن فلسفتهم، عن ملاحظاتهم، عن تعبيرهم المتقن وصياغتهم المبدعة لتجربة السود. هذا فعل يهدف إلى حماية منظومة البياض والسماح في الوقت نفسه للشخص الأبيض صاحب التفكير الثوري الحر بالاعتقاد بأنه يتحدى المنظومة.
كنت في صباي ثورية أكثر حتى من الرموز المعبودة عند السود. الدكتور مارتن لوثر كينغ لم يمنحني ذلك الفخر الرواقي الفخم في وجه آلة القمع العمياء. تلك الشذرات من أقوال كينغ التي تتردد أصداؤها حولي بدت فارغة وافتراضية وسلبية خانعة، وتجاهلَت ما كنتُ أؤمن بأنه الحقيقة الناصعة. تحمُّل العنصرية المنّظمة وانتظار العدالة كانا أشبه بمهادنة سرب هائج من النحل: كان تصرفاً ينم عن حماقة وميل إلى تدمير الذات. لدي حساسية من لسعات النحل (ومن كل شيء آخر تقريباً). لم أدرك إلا متأخرة، مثلي مثل الكثير من الأمريكيين، أنه قد تم التلاعب بي عبر ترتيلة مبتورة، ترتيلة اقتطعوا أجزاءً منها ورتبوها لتوافق الأجندة التي وضعوها (تماماً مثل ما فعلوا بالإنجيل عبر الزمن: اقتطعوا أجزاءً منه لأنها رائعة وفاضحة وكريهة الطعم أكثر من اللازم بالنسبة إلى الطبقات الحاكمة التي طبعت أوراقه).
خطاب “لدي حلم” الرقيق، والمناسب لكل أفراد العائلة، يتم إخراجه على عجل سنوياً كبيان بأننا نعمل ما في وسعنا. لكن في “رسالة من سجن برمنغهام” قال الدكتور كينغ “شعرتُ بخيبة أمل شديدة إزاء المعتدلين البيض. توصلت تقريباً إلى نتيجة مؤسفة مفادها أن حجر العثرة الكبير الذي يعترض الزنوج في خطواتهم نحو الحريّة ليس أعضاء «مجلس المواطنين البيض» أو «كو كلوكس كلان»، وإنما المعتدلين البيض، الذين يتمسّكون بـ “النظام” أكثر من العدالة، والذين يفضّلون السلام السلبي الذي يعني غياب التوتُّر عن السلام إلإيجابي الذي هو وُجود العدالة”. أما تلك الرسالة فقليلاً ما يتم تداولها أو تكرارها. والآن، كما كان الحال آنذاك، يتم النظر إلى المعتدلين على أنهم الجسر الذي يصل بين الطرفين، لكن الموقع الذي هم فيه هو طرف بحد ذاته.
غالباً ما يُنقل عن توني موريسون قولها: “إذا كان ركوع الآخرين أمامك يشعرك بطول القامة، فاعلم أنك تعاني من مشكلة خطيرة،” لكن في أغلب الأحيان يتم اقتطاع بقية هذا القول. إذ تتابع قائلة “البيض يعانون من مشكلة خطيرة للغاية، ويجب أن يبدأوا بالتفكير بما عليهم فعله لمعالجتها.” كل من حالفه الحظ والتقى بموريسون من قبل يعلم أنها تعني تماماً ما تقوله من دون تجميل أو مواربة. وبالرغم من ذلك فإن جرعات الحرية التي تترك أثراً لا تني تتناقص لتنتهي إلى مجموعة من الأقوال المأثورة والعطايا التي لا تكلف شيئاً، بينما يصبح التمسّح بالبيض مغرياً أكثر وأكثر. حتى أولئك المتحدرين من أعراق ملونة يمكنهم أن يتقرّبوا من منظومة البياض ضمن الحدود الأكثر اعتدالاً، هناك حيث يُرتكَب التزلف لاستعطاف القلوب الرقيقة التي لا تسعى إلى إلحاق الأذى (أو التي تسعى إلى أن تبقى بعيدة عن الصورة). على الحدود أن تصبح أشد صلابة.
اعتدت أن أدرّس خطاباً ألقته أرونداتي روي تحت عنوان “تعال يا سبتمبر” لطلاب الجامعة. هذا الخطاب هو عبارة عن بحث معمق في التأثير العالمي للسياسة الأمريكية الخارجية، ويتميز بتوظيفه حججاً بالغة الدهاء في الجدل. بعد بضع سنوات من أحداث 11 سبتمبر، واجهت مشكلة صغيرة لانني جعلت الطلاب يقرأون الخطاب. قال أحد الطلاب إن جعلهم يتعرضون إلى أفكار كهذه هو أمر “كريه”. الفكرة الوحيدة التي أشعرته بالإهانة، بقدر ما أسعفني تفكيري حينها، كانت التنوية إلى أن أمريكا ليست دائماً المخلّص أو الضحية. أعتبر نفسي ماهرة جداً في التحكم بأعصابي، لذا فقد هدأت الوضع لكن من دون إذعان. جزء من النضج هو إدارك أن أهالينا كانوا أشخاصاً مليئين بالعيوب. إدراك الأمر نفسه في شعبك يعني أن تصبح مواطناً بحق. وهذا ليس بالأمر السهل. تقبّل الضعف ليس أمراً نفسياً وحسب، بل جسدياً في المقام نفسه. إنكار أن منظومة البياض تؤثر فينا كلنا يعني أن نكون منفتحتين على ارتكاب الإساءة وإلحاق الأذى.
أعكف في هذه الأيام على التجول في تلك الأجزاء من كاليفورنيا التي تُصنف من بين البقع الأكثر عدائية للأعراق الملونة تاريخياً. أنا أحب طلابي. أستمع إلى قصصهم، بعضها يوحي بأننا سائرين إلى التهلكة وبعضها يكشف حجم العمى الذي نعاني منه. هذه ليست دعوة إلى العنف. هي دعوة إلى فعل شيء من أجل جيل آخر أعجزته هذه المنظومة. هذه ليست إدانة لأولئك الهائمين بحلم البياض. هؤلاء مغيبين عن الواقع لدرجة أنهم يمطرونك بالهراء حول تحسين النسل أو، كمشهد نهائي في عرضهم المسرحي المليء بالهذيانات، حول إراقة الدماء.
ما من أمل يُرجى من مجادلة المتطرفين، هؤلاء ضالون في الأساس. ليس المهمشون، الأجساد السوداء والسمراء التي تتعرض إلى الاعتداء، من يحمل على كاهلة واجب إنقاذ الأمة… ما يتكبدونه هو رؤية ألسنة اللهب قبل الآخرين. عندما أقول:”أنقذو الأمة”، تذكروا ان أمريكا قد وُلِدت بقلب متوقف. التجربة العظمى لم ترتقِ فعلياً إلى مستويات مستدامة. التنافر المعرفي اللازم لجني الأرباح من معاناة الإنسان بصورة شنيعة، وجعله يشعر بأنه سعيد مع ذلك، أصبح كبيراً جداً. ربما تعمل كل الحضارات بهذه الطريقة… تبقى دائماً في حالة من إعادة التكيف الداخلي. لكن عندما تجابه كل محاولة للتصويب بالتحريف والإنكار، يصبح الانفجار الداخلي احتمالاً وارداً جداً. يجب على الأشخاص البيض أن ينقذوا أنفسهم من البياض. يجب أن يقابلوا كل امتحان للبياض بما هو أكثر من الصمت أو النداء طلباً للتحضر وضبط النفس. للقيام بذلك ينبغي على المرء أن يستيقظ وهو واعٍ ومتحكم بجسده بالكامل لأول مرة.
—————————-
نشرت المقالة في مجلة “باريس ريفيو” بتاريخ 25 آذار/مارس 2019
*****
خاص بأوكسجين