عزرائيل والكاتب
العدد 146 | 21 شباط 2014
حياة الرايس


 

عندما كان السيّد “عزرائيل” يشرب قهوته هذا الصباح الباكر، كان يبدو عليه الانشغال واضحاً بأمر تلك الضحية المهمة التي انتهى أجلها اليوم. 

إنه على موعد هذا الصباح مع الكاتب الكبير “عمر الخالد” ليقبض روحه فيجب أن يستعد له استعداداً خاصاً يليق به. 

تناول عزرائيل دفتره، ضبط برنامج يومه، تأكد من أن السيد “عمر الخالد ” على رأس القائمة، غيّر لباسه متنكراً وتسلل خفية، سيستقل سيارة تاكسي اليوم فالحريف مهم ويجب الوصول في أحسن الظروف مخافة أي تعطيل أو أي خلل – لقد كره ركوب الحافلات منذ أن وقعت له تلك الحادثة عندما سرق منه دفتره – لقد كان السارق يظنه محفظة نقود فلم يجد فيه سوى قوائم طويلة وعريضة لأسماء ربما يعرفها أو لا يعرفها، رماه السارق بغضب على الرصيف وواصل حرفته.

أما عزرائيل فقد دفع الثمن غالياً فقد كاد يطرد من عمله لو لم تشفع له أقدميته وخبرته، ولكنه عوقب مع ذلك بأن نفي إلى أسفل السافلين…

استنتج الملاحظون حينها أن نسبة الوفيات انخفضت كثيراً. لكنه سرعان ما استعاد مهامه إذ لا يمكن الاستغناء عنه فقد كاد العالم يأكل بعضه بعضاً لانخفاض الوفيات وازدياد الولادات وقد صادف ذلك أيضاً انتشار المجاعات وظهر حينها بين شعوب آسيا ما يسمى بـ “الهيجوج والميجوج”.

وقفت سيارة التاكسي بشارع “القدر” نزل عزرائيل وأخذ يبحث عن بيت “عمر الخالد” … قطع الشارع كلّه ولم يجد الرقم المسجل في دفتره فرأى صبية يلعبون الكرة سألهم عن بيت الكاتب الشهير “عمر الخالد”.

صاحوا جميعهم مع بعض : 

آه ذلك الذي تظهر صوره بالجرائد والتلفزيون؟ نعرفه – ذاك هو بيته… شكر عزرائيل الصبية على مساعدتهم وشكر وسائل الإعلام العصرية على تسهيل مهمته. 

 

 

وقف أمام باب الدار، رن الجرس. 

ظهرت في الحديقة سيدة شابة، جميلة، لفت نظر عزارئيل بياض جيدها، تمنى لو كانت هي المعنية بالأمر، رأت المرأة رجلا ًيحمل دفتراً فصاحت به: 

“من؟ فاتورة الكهرباء أم المياه أم …

“إنها فاتورة الحياة” رد عزرائيل بصوت خافت . 

ماذا؟

هل السيد “عمر الخالد” موجود؟ من فضلك! 

آسفة إنه غير موجود.

أين ذهب؟ هل يعود بسرعة؟ 

لقد رحل!

رحل؟ لا يمكن أن يرحل قبل وصولي؟ 

هل هناك من يزاحمني مهنتي؟  لا ! لا يمكن! 

لماذا لا يمكن؟ هل كان يجب أن يستشيرك قبل أن يرحل. إنه لم يرحل إلا هرباً من البشر وملاحقتهم …

لكنني لست من البشر سيدتي! 

لست من البشر؟ 

أقصد لست من هؤلاء البشر المزعجين … ولكن أين رحل؟

رحل إلى قريته، أين تريده أن يرحل؟ قلت لك أنه هرب من البشر…

جيد جداً إني أعرف بيته بالقرية سألحق به مباشرة.

أرجوك! إنه لا يستقبل أحداً…

لا! اطمئني سيدتي فأنا لست من أولئك الزوار الثقلاء … أنا لا أزور إلا في الوقت المناسب وفي اللحظة الحاسمة، ثم بالنسبة إليّ أعدك أنني لن آخذ من وقته الكثير فسوف أقوم بمهمتي في بضع دقائق، إذا كان مشغولاً إلى هذه الدرجة، فأنا أيضا ورائي أرواح أخرى”. 

ماذا تقول؟ 

أقصد ورائي أعمال أخرى…

ألا يمكن أن تؤجل مهمتك هذه؟ 

لا ! مستحيل المهمة خطيرة وموقتة بدقة لا تحتمل أي تأخير… يجب أن تتم اليوم وإلا اختل نظام الكون. 

ألا نستطيع أن نبلغها عنك؟ 

سيدتي أرجوك! لا أريد من يتدخل في شغلي فلسنا في مجال مزاحمة! أعلمك أني قد رشحت لهذه الوظيفة منذ بداية الخليقة وسأواصلها مدى الحياة ولن يستطيع أحد أن يزحزحني عن منصبي… ليست الأمور بهذه البساطة، كما أعلمك أنه رغم تعييني من قبل السلطات العليا إلا أنني أحظى بشعبية لا مثيل لها، كل ذلك من أجل تفانيَ وإخلاصي في عملي . 

“إذا كنت ستلقى عليّ محاضرات فأخبرك أنني أعيش في تخمة … عن أذنك!” 

أغلقت بابها ودخلت. 

كان عزرائيل يعرف قرية “عمر الخالد” وبيته، فاتجه إليه مباشرة… تسلل إلى غرفته دون أن  يراه أحد.

 كان الكاتب غارقاً بين أوراقه فلم يشعر بدخوله! تحيط به مكتبة عالية كلها مجلدات مغبّرة وداكنة اللون تبعث الرهبة. 

وقف عزرائيل في العتبة يتأمله:

“لن تفلت مني هذه المرّة، ولن تشفع لك شهرتك واسمك وكتبك و… سأميتك هنا في هذا الخراب، وفي هذه القرية النائية البائسة ميتة الكلاب فلن يراك أحد… إنك لم ترني ولم تتذكرني طوال حياتك… انشغلت بكتبك وأغواك المجد وأعمتك الشهرة .. ها قد حانت ساعتك… لئن أفلت مني فيما مضى ونجوت بأعجوبة في كل مرة حاولت فيها القضاء عليك… فإن هذه المرة هي القاضية … لن أرحمك … الآن سوف تعرف أنني الأقوى. لن تتفوق عليّ بشهرتك… بل أنا أشهر منك، ومن لا يعرف عزرائيل؟ من لا يخافه؟ ومن لا يحسب له ألف حساب؟ أما أنت فأين جمهورك وقراؤك ها أنت وجهاً لوجه مع الموت!

لا تظن أنك أفلت مني في المرات السابقة لأنك الأقوى فأنا الذي أمهلتك وطمّعتك بالحياة والشهرة لتكون الجولة الأخيرة لي، إني أرتب لك هذه الميتة منذ أيام الدراسة، منذ بدأت تتفوق، تتعالى وتكبر، حتى لم تعد تعرفنا، والآن دعني أختار لك الميتة التي تناسبك … هل أقتلك مثلما  قتلت الجاحظ مردوما تحت أكوام كتبه.. أم أخمد أنفاسك على مكتبك فتموت شهيد القلم والأوراق. 

   لا لن أمنحك هذا الشرف سأميتك بعيداً عن عالمك الذي أفنيت عمرك من أجله ستموت كأي مواطن عادي مغموراً بعيداً عن الأضواء و… فجأة رفع الكاتب رأسه. 

“من أنت؟ وما تفعل هنا؟

أنا عزرائيل؟ 

نعم …؟ 

فتح الكاتب عينيه جيداً، تأمله طويلاً بصمت …. ثم قام عن مكتبه بثقة وأناة واتجه نحوه. 

“أنت عزرائيل إذاً ! طيّب! أهلاً وسهلاً بك أظن أنك أتيت من أجل الاطلاع على ما كتبته عنك لا بد أنّك قد عرفت بذلك”…

“ماذا؟”

ألا تعلم أنني بصدد كتابة رواية أنت بطلها “عزرائيل” ما رأيك؟ ولكنني لم أكملها … وها أنك تأتي في وقت غير مناسب وتعمل لغير صالحك… إني أستغرب أمرك، إنك تضيع فرصة ذهبية… في حين أني أريد أن أخلدك وأدخلك التاريخ من بابه الواسع… وإن كنت مصراً على قبض روحي… فلك ذلك ولكن اعلم أنك أنت الذي ستخسر في النهاية. 

“غير معقول ! إن الأقدار تخبئ لي مفاجآت خارقة (مخاطباً نفسه) هل يمكن أن أطلع على هذه الرواية؟”. 

“ممكن جداً بما أنها تتعلق بك . وأنا يسرني أن يتعدد ويتنوع قرائي… ولكن بما أنك صرت هنا فاسمح لي بأن أستغل وجودك لأسألك عن بعض الجزئيات والتفاصيل التي يمكن أن تساعدني في تصوير شخصيتك بأمانة ودقة أكثر … تعال يا أخي… تفضل إلى غرفة الجلوس لماذا أنت واقف هكذا منتصباً عند رأسي… أنا أقدر موقفك وسأسهل لك مهمتك … ولكن تعال نجلس قليلاً … لأتعرف على شخصك أكثر… فأنت شخصية مهمة وقد آليت على نفسي أن لا أموت قبل أن أخلدك …

 ماذا يشرب السيد “عزرائيل”؟ 

أتحب المشروبات الروحية؟ 

 ــــــ”لا شكراً! هذه المشروبات لنا منها سواق وأنهار في العالم الآخر… لا أريد شيئاً فإني مستعجل. لي شخصيات أخرى هامة … لا أستطيع أن أعهد بها إلى أعواني… 

 ــــــ”لا لابدّ أن تشرب شيئاً…” خذ الرواية ابدأ بقراءتها ….  حتى أعود اليك  بشيء تشربه “

لما عاد “عمر الخالد” كان “عزرائيل” قد غرق في تفاصيل الرواية

                                        و نسي أمره.

___________________________________

كاتبة من تونس               

 

الصورة من فيلم “حصان تورينو” للمخرج الهنغاري بيلا تار

*****

خاص بأوكسجين