“جبل أرارات” الخاص بنا، كان عند أهل تلك القرى هضبة قليلة العلو تطّل على المشهد بأكمله!
ربما كان نوح هو سبب اكتسابي هذه العادة، فكلما استمعت إلى طوفانه وسفينته كان بإمكاني رؤيتها بوضوح تحطّ على قمة الهضبة الصغيرة. في مخيلتي المتسعة كان بإمكان الهضبة الصغيرة احتواء سفينة عملاقة وأكثر. لطالما تخيلت الطوفان يتكرر مجدداً، وحينها كنت متأكداً أنني سأتأخر عن اللحاق بالسفينة، قررت فيما لو حدث هذا، أن أوضّب ما تطاله يدي وأرتحل إلى قمة الهضبة بانتظار مجيء نوح الجديد.
لكن علمت فيما بعد أن الأنبياء توقفوا عن النزول، أصبحوا يفضلون نمط العيش في السماء، ورغم ذلك لم أستطع أن أقلع عن الشعور بأن قمة الهضبة آمنة من الطوفان. أصبحت اليوم كهلاً بما يكفي، وكلما شعرت بالوحدة والرغبة بالشرب، أنقض على زجاجة وثلاثة أقداح، أجرجر نفسي في أول الليل إلى القبور، وأنتقي منها ما نظفه أهل الفقيد مؤخراً، ولسبب مجهول أسكب في الأقداح الثلاث، وأستمتع بالشرب منها على التتابع، كان الزمن يغيب قليلاً أو أكثر، قبل أن أستيقظ من بين القبور أنفض الغبار عن نفسي، أحدّق في السماء طويلاً، كأنني ألمح النجوم قد بدأت بالاهتراء والحبال التي تربطها أصبحت بالية، كل نجم منها كابوس يطاردني. كم أتمنى لو تصعد السماء إلى الأعلى قليلاً علّني أجد الوقت الكافي للهرب فيما لو انهارت إحداها عليّ حيث أكون.
للغصن اليابس المرمي إلى جانبي استعمالات أخرى غير الرقود على قبر ميت، ألتقطه، وأداعب به تراب القبور، أسمع أصواتهم يضحكون في الأسفل هناك، هم ليسوا أشياء جديدة تمتلك بهجة زائلة، ليسوا ملونين، لا يظهرون في الإعلانات التليفزيونية يقفزون، ولا تصدر عنهم موسيقا إلكترونية راقصة، الموتى فقط يطلقون لحاهم، أظافرهم، وجذورهم في الأرض.
أدفع بالغصن إلى الأسفل قدر ما أستطيع، علّ شيئاً ما يخرج من الجوف ساخناً ويذرف دموعاً متسخة، وربما يشعر بتوق إلى المستوى صفر من العالم، في مكان آخر ما زلت أفتقد أشقائي الموتى الذين لم أعرفهم قط، ما زلت أعلّق رداء الإله في خزانتي وأطلب من كل مجنون طليق أن يقيسه لعلَه يلائمه قليلاً، أشعر بتوق إلى الأرض، وأحنّ إلى العواء والمغادرة مبكراً. بالقرب من هنا تركت حكايات لم تكتمل، حكايات كالتي تحتاج نهاية سعيدة، وحكايات أخرى مسيلة للدموع، وسلسلة مفاتيح لأبواب كنت أخشى دوماً استعمالها، ولطالما اكتفيت بأن أطرق الباب مرة واحدة ذليلة وأنتظر.
الناس اليوم يرغبون بأمور مختلفة، كأن بإمكانهم أن يلفوا أنفسهم بحصر مرتبة من الفولاذ والبلاستيك، يرتدون نظارات طبية، يبتلعون الكثير من المزيج الكيميائي الحديث، عساهم يحيوا ما لا يرغبون فيه، لفترة تنهك السماء الضجرة أصلاً، وتجعلها تنظر إلى الأسفل ببلاهة.
أسلافنا اعتادوا الصراخ بعيداً عن تعقيد الكلمات وبهرجتها، اعتادوا أن يغرزوا أصابعهم عميقاً في التراب ليهزوا الأرض ويلوحوا بها. اعترفوا بحبهم لأضاحيهم، والجثث الباردة الحمراء لأعدائهم، وإلى اليوم ما زالت أحلامهم تتبخر إلى أن ترتطم بالهواء الذي يجرفها بعيداً. نحن فقط جبناء أكثر من الحاجة، ما زلنا نشعر بأننا نشتاق إلى نسلنا المنغمس في الأعماق في مكان ما، ويحفر بأصابعه الصغيرة باتجاه الضوء، وما زال أجدادنا يصرخون وهم يختبئون تحت جلودنا الباهتة. عليك فقط أن تختار أن تقحم سبابتيك في أذنيك حتى تصل النخاع.
يتراءى لي القادمين من بعيد بأوجههم التي تذوب كلما تقدّموا خطوة، فيما نابيّ يضربان عليهم حصاراً. كلما ازداد اقترابهم، كلما بدت سحناتهم أقرب للغيوم والماء الراكد، لا أفهم سر حزنهم هذا. وجود كل هذه القبور في العالم أوسمة لنا جميعاً، امتلكنا الخبث اللازم لنتلاعب بالقدر ونبقى. ينتصب الرجال أمام شواهد القبور يدّعون إنهم لا يذرفون الدموع إلّا هنا، فيما تتسابق النساء إلى إحداث أكبر قدر من الصخب، كأن حطام الموتى يستقي منهم الضجيج والرثاء. حسناً لقد كنت أعبث بالرفات طوال النهار. تنوحون على الأشخاص الخطأ، لكن الأمر لن يحدث فرقاً. توقفوا عن كونكم حمقى، لن يبقى داخل التراب سوى التراب.
بدأ المكان يضيق داخل صدري، ولا أملك طريقة آمنة وصحية لتمزيق صدري، للهواء الآن رائحة العابرين جميعاً. يضيق العابرون داخل رأسي وأضيق بهم. أكاد أطلب منهم الرحيل لكن لساني متسخ وكسول. أكاد أنا أرحل، لكن قدماي متعبتان كثيراً، والباب حقاً بعيد.
*****
خاص بأوكسجين