طلاق لـــ”دواعي طبية”
العدد 203 | 29 تشرين الثاني 2016
محمود عبد الدايم


جثة هامدة كانت هناك ملقاة وسط الصالة… لا أجيد التعامل مع الموت، الهروب، الشئ الوحيد الذى أتقنه وبرعت في اختراع تفاصيله.. لكن هذه المرة، الجبان اختار الطريق الأسهل للمواجهة، “ظله” سيتبعني أينما حلقت فرارا، ولن يتركني أمارس جبني بحميمية اعتدتها..   “أميمة”….. أميمة ……أميمة…..، لا أتذكر عدد المرات التي ناديت باسمها مستجيرا مرة ومتوسلا أخرى، لا أتذكر سوى جفاف حلقي الذي جرنّي طوعا إلى ثلاجة المطبخ، تناولت كوب ماء، اتبعته  بزجاجة ثانية من التى تحفظ فيها “أميمة”  المياه لاستخدامها فى أوقات انقطاع الخدمة، يالله جثتها تحركت! .. استجابت أخيرا لتوسلاتي ! يبدو أنني أهذي .. لمحت بطنها تعلو قليلا.. لسانى لا يتقن من الكلمات سوى اسمها.. رددت الاسم مئات المرات.. فتحت أعينها أخيرا.. تنهدت.. ضحكت.. ودخلنا سويا فى نوبة بكاء.

برفق مررت يدي من تحت ملابسها.. فى العشر الأوائل كانت ترفض لمساتي.. اعتادت فى نهاية الأسبوع الثاني على أصابع يدي وهي تمر على جسدها…. أكرر المحاولة مرة وثانية وثالثة.. وعندما أدرك أنها على ما يرام.. وأنني فى أفضل حالاتي.. استلقي بجوارها فى انتظار الليل المقبل.. لأبدأ رحلتي من جديد.

فى الصباحات المتتالية.. لم تناقش الأمر معي.. تجاوزته مثلما تجاوزت أنا الحديث عنه، يبدو أنها استراحت للأمر.. أو تقبلته.. أو أنها كعادتها “مفيش بإيديها حيلة”.

دون أية مقدمات أصبحت أميمة مريضة.. وبدوري أصبحت مريضا بإحصاء دقات قلبها..  لم نستعد لاستقبال المرض فى بيتنا.. سنوات ست قضيناها تحت سقفه ولا جديد سوى الأمراض العادية.. قليل من نزلات البرد.. كثير من المسكنات على السفرة.. بين أرفف المكتبة.. وفوق “حوض الحمام”.. الدواء الذي واظبت عليه – ولم تنساه يوما- كان “جينيرا” وصفته لها طبيبة العائلة في عام زواجنا الأول، بعدما اتفقنا على تأجيل الإنجاب عامين لـ”إلتقاط الأنفاس”.. يومها أقنعتها أن وجودنا سويا يحتاج تأجيلا.. اقتنعت بكلامي.. وأقنعت عائلتها بالأمر.

يبدو أنها وجدت فى “التأجيل” شيئا جميلا.. السنوات انسحبت واحدة تلو الآخرى.. وأقراص “جينيرا” المغلفة تطاردني كل مساء، وتحديدا فى منطقة التاسعة والتاسعة والنصف، حيث ميعاد تناولها المقدس.

 محاولات اقناع أميمة بالتراجع عن الأمر، إلقاء يمين طلاق ثلاثة على دوائها المفضل، ومنح الحلم المؤجل إطلالة حديثة على العالم..جميعها لم تفلح.. فى العام الرابع أدركت أنها تحبه أكثر منى.. فاستسلمت وأبديت تفهما لوجود  الشريط المعدني اللون المغلف جيدا، فى منطقة نفوذي.

فى العام السادس.. لم يطرأ جديدا.. أزمات عادية تمر بها كل البيوت.. كنا أفضل حظا من الآخرين.. تجاوزنا الأولى منها بالتفاهم والإعتذار.. والثانية لم تكن أتعس حظا من الأولى، أضيفت إلى مربع “التجاهل”.. وعندما بدأ طفل الأزمات يكبر بيننا.. قررت اللجوء إلى غرفة ” الغائب”، ونقل متعلقاتي من دولاب الزواج إلى أرفف بديلة وردية اللون..هي لم تجد غضاضة  وتقبلت الأمر..!

بصوت مكتوم لم أفهم منه شيئا سوى “إلحقني” هاتفتني فى العاشرة مساء.. اتفقنا منذ ليلتنا الأولى ألا أغلق هاتفي مهما كانت الظروف، وكأننا ندرك دائما أن مصائبنا تحدث فقط عندما نبتعد.. اليوم جُمعة، السيارة لم تحتج أكثر من هذا.. 15 دقيقة كانت كافية لأتحرك من “وسط البلد” لأصل المعادي، وها أنا أقفز درجات السلم، بعدما ترك طفل السيدة التى تسكن الدور الرابع باب المصعد مفتوحا.. محاولا تحويله إلى ملاذ أمن لأبناء قطته المفضلة المشردة.

“عطشانة”.. لم تقل سواها .. منحتها زجاجة مياه معدنية.. تفضل هي المياه المعدنية، قضت عليها مثلما فعلت أنا.. وارتكنت إلى ذراعيها.. لتتمكن من الجلوس بجواري على “كنبتي المفضلة”.

لا تحب أميمة أن ألمسها دون أية مقدمات.. اعتدت على الأمر فى شهر  زواجنا الثالث.. لهذا لم تعاتبنى على ترك ظهرها ملتصقا بـ”سجادة الصالة” طوال دقائق اغمائتها الأولى.

“أنا كويسة”.. لم أجد إجابة أحرك بها لساني.. اكتفيت بهزة رأس.. وضغطت زر تشغيل التلفزيون.. “ناشيونال جيوجرافيك”.. قناتنا المفضلة، غريبة.. تعرض برنامج “صيد سمك التونة”.. انتبهت هي للأمر.. تحركت من جانبي.. وألقت بجسدها المنهك على المقعد المواجه لي.. وصمتت.

“الدوخة” تكررت مرات.. تكرار الأمر لم يترك لتجاهلنا فرصة ، ذهبنا لـ”طبيبة العائلة”.. كانت واضحة كعادتها، عندما أخبرتني أن “أميمة” تعانى من القلب، وأن أيامها فى الدنيا يمكن القول إنها قصيرة، لم اتمكن من منحها حاسة سمعي أكثر من ذلك، فقط أخبرت أميمة أنها دوخة إجهاد… وصمت.

مرت الأيام الأولى كئيبة جدا.. اعتيادنا على الصمت فى الشقة لعب دورا لا يستهان به فى مرورها وجعلنا نتعاطى مع واقع المرض، أخبرت أميمة أنني حصلت على إجازة من العمل، لم تحاول أن تشكرني، لكنها غطت قدميها بـ”ملاءة سرير” قديمة، وأكملت مشاهدة مسلسها الهندي المفضل.

بدأت رحلة تأملها فى الأسبوع الأول من إجازتي – غير المعتادة- هادئة هي إلى أقصى الحدود، فوضوي أنا طالما لا تحتل هي مساحاتي.. تتقن وضع الأشياء فى مكانها الصحيح.. وأتقن العيش في فوضاي، تلك بصمتي المعتادة على كل أمكنتها الرتيبة المنظمة، صوتها ارتفع عندما حركت “الشريط المعدني” من فوق أحد أرفف “المطبخ” الخشبية، أخبرتها أنها تحتفظ بـ 10 أشرطة، وقبل أن أبادر  بمنحها خريطة مفصلة لأماكن أشرطتها الفضية، طالبتني بأن أضبط جلستي فوق “الكنبة” .. هكذا ولا شيء آخر.

بـ”نصف راتب” قررت العمل ثلاثة أيام، والبقاء 4 بجوارها، الإدارة من جانبها وافقت على الأمر، المدير منحنى الراتب كاملا فى الشهر الأول، مع دعاء فاتر بـ”الصحة لأميمة”.

فى الشهر الرابع بدأت تعلن عدم رغبتها فى استكمال الأمر.. أخبرتنى أنها “زهقت” من استخدام الـ”جينيرا”.. حاولت تلطيف الأجواء، فألقيت بـ 5 أشرطة منه فى سلة الزبالة، لكنها أوقفتني بصرخات متتالية عندما أمسكت بـ”الشريط السادس”.

فى الشهر الخامس أخبرتني، وهى ترفع ملاءة السرير القديم من فوق قدميها التى بدأت تظهر عليها علامات الانتفاخ، أنها تريد الطلاق.. هاتفت والدها، الذى سلمني طوعا لأمها ، فى النهاية اكتشفت أنهم اتفقوا على الطلاق.. ربما يريدون أن تكون أيام ابنتهما الأخيرة في أحضانهما.. مثلما كانت أيامها الأولى.

فى الشهر السادس.. وافقت على نصف خطتها.. تركتها تغادر الشقة لتحط رحال مرضها فوق  بيت أبيها.. اتفقت معها على زيارتها من التاسعة حتى التاسعة والنصف، وبررت توقيت الزيارة برغبتى فى تذكيرها بموعد “جينيرا”.

أميمة  أصبحت لا تتقبل أى شيء عليه آثار بصماتي… هناك خطة بديلة يبدو أنها شرعت في تنفيذها.

الاصفرار الذى كان واضحا فى شهرها الخامس تحت سقف بيتي بدأ يجد طريقا للفرار في بيت أبيها.. وأسود جفونها اختفى تماما، حملت لها ملاءة سرير، لتستر  المغطي من جسدها وتمارس عادة الاختباء التي تحبها…!

فى آخر زيارة جمعتنا سويا عند طبيبة العائلة، لم تستطع الأخيرة تبرير أمر شفاء أميمة.. اكتفت بغمغمة رتيبة طوال وقت الزيارة.. وعند رحيلنا لم تكتب أدوية جديدة ولم تحدد لها ميعاد زيارة جديدة، تحركنا قليلا، وعند مدخل عمارة أبيها.. أوقفتها وقلت لها “أميمة.. أنت طالق بالتلاتة”.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر.