مقدمة مترجم كتاب “رسائل العشق والفحش ترافقها موسيقى الحجرة” لجيمس جويس الصادر أخيراً عن “محترف أوكسجين للنشر”:
لحسن الحظ، لم تكن وسائل التواصل من تطبيقات الدردشة ومكالمات الفيديو والمكالمات المصوَّرة وغيرِها ممَّا يعدّ ولا يُحصى من تقنيات تتيح لنا الآن أن نرى ونسمع من نريد، متوفرة في تسعينيات القرن الماضي!
أقول لحسن الحظّ، لأنّها لو كانت متوفرة على أيام جيمس جويس (1882 – 1941) وزوجته نورا (1884 – 1951) لما كُنّا حظينا بهذه الدُّرّر الأدبية الفاحشة التي أفرغ فيها جويس شبَقه وشوقه إلى نورا أثناء فراقهما.
في مقاربةٍ بسيطةٍ لفهم طبيعة هذه الرسائل قبل الحكم عليها بتعسفٍ وامتشاق سيف الأخلاق ومكارمها، والحرام والحلال، فلنتخيَّلْ معاً إمكانية الدخول إلى مراسلات رجل وخليلته عبر إحدى وسائل التواصل آنفة الذكر، رجل أجبرته الظروف على السفر والابتعاد عن شريكته ولا يريد أن يخونها، أو بالعكس، امرأة اشتاقتْ إلى خلِّها البعيد وأتعبها وأرَّقها برد سريرها في غيابه، ماذا سنرى يا ترى؟ صدّقوني سنرى أموراً عجيبةً غريبة وأفكاراً يعجز عنها أعتى مخرجي أفلام “البورنو” من فيتشية وإباحية وطلبات غريبة عجيبة، فلكلٍّ منَّا ولّعه الجنسي وضروب شبقه.
وهكذا فإنّنا ها هنا، في حضرة رسائل حب، لكنَّها استثنائيةٌ، ولا مثيل لها، فجويس عاشق ولِهٌ بحليلته نورا، وكل ما قاله وكتبه فيها ولها منبعه الهوى والوَجْد والكَلَف والعشق والهيام، وهذا يمتدّ ليشمل، إلى جانب الرسائل، قصائد مجموعته الشعرية “موسيقى الحُجرة” التي تتبع الرسائل في كتابنا هذا، أو تصاحبها بوصفها “موسيقى” وقد كتبها جويس جميعاً عن نورا وصدرت عام 1907، وهي مجموعة شعرية تضم 35 قصيدةً تروي مجتمعةً حكايةَ الحب: كيف يبدأ، يتنامى، ويموت، وكيف يبقى مبثوثاً في كل ما حولنا بعد موته. ذلك الحب الذي يولد في الربيع، ويثمر صيفاً، ويُجدب خريفاً، وفي الشتاء يدير لنا ظهره ويرحل.
بالعودة إلى الرسائل، فإنَّ سؤالاً مهمَّاً يطلّ برأسه هنا، ومن الجدير طرحَه: هل يحقُّ لنا أن ندسَّ أنوفنا في رسائل رجلٍ إلى حبيبته، وأن نتطفل على خصوصيته وننبُش في أسراره وأعمقِ أعماقه وميوله وانحرافاته وضروب ولعِه؟ هل نضع أنفسَنا في خانة مَن وصفهم أليستر جينتري* بأنهم “أشبه بطائر جارح يدسُّ منقاره في التراث الإبداعي والفني لمن قضى نحبه من عظماء الفن والأدب”؟
قد يبدو حكمُه قاسياً بعض الشيء، لكن ما طرحه يضعنا أمام سؤال ملحٍّ من واجبنا الإجابة عنه: بأي حقٍّ نتطفل على رسائل رجل ميّتٍ إلى زوجته، ونغوص في مراسلاتٍ كتبها من شاءتْ موهبته ويَراعه أن يكون من أعظم كتَّاب عصره؟ أضف إلى ذلك أنها كُتبتْ لتبقى محصورةً بين اثنين، فكيف نسمح لأنفسنا بأن نكون ثالثهما؟
أعتقد أنَّ السّؤال السّابق يضمّ الجواب في متنه، إذ لا يحقُّ للمبدع أن يحجب إبداعاته، أياً تكن، عنِ الناس، فحياتُه ليست ملكَه، بل ملكاً لقرائِه ونقّاده والباحثين في فنه وأدبه وحياته. كما لا يجرؤ على ارتكاب الفن، وخصوصاً الأدب، إلّا من كانت لديه الجرأة على عرض أفكاره وكلماته وأسراره على الملأ، ومَن يتجاسر على وضع حياته بكل ما فيها تحت المجهر من خلال ما ينثره وينظمه من كلمات؟ ولهذا من غير المرجَّح أن يشكِّل الكشف عن هذه الرسائل والتمحيص فيها خطيئةً بحقِّ كاتبها، ومن غير المقبول أن نضيّع على أنفسنا فرصة الاطلاع على هذه الوثائق القيّمة وتحليلها، خاصةً أنها تحتوي على نقاط عديدة تمكننا من فهم المنبع التي انسكبت منه أغلب أعماله.
جينتري نفسُه الذي وصف من يتطفل على هذه المراسلاتِ بأقذع الألفاظ يقول لاحقاً: “هذه الرسائل بحد ذاتها باهرةٌ ومتخَمةٌ بالرَّوعة، وأجرؤ على القول إنّها جزء من الكتابات الجويسية الشَّهوانية. بالنسبة إليّ، هي تستحق القراءة بلا أدنى شك.”
هي رسائلُ فاضحةٌ وسافِرةٌ ورومانسية وشاعرية، وأغلبها متخم بالفكاهة وهزلي للغاية، وقد كانت مكتوبةً لعيونِ نورا فقط ضمن مراسلاتٍ هي من بدأها في شهر نوفمبر من العام 1909 حين كان جويس مقيماً في دبلن، بينما كانت هي تربِّي طفليهما في “تريستي” في ظلِّ ظروفٍ صعبة للغاية.
جويس العاشق كان أكثرَ جموحاً من جويس الكاتب، وتحفَّظه ككاتبٍ كان قناعاً ذكياً ارتداه ليجاريَ عصره. أما جويس عاشقاً فقد أسقط كلَّ الحجبِ وكسر كل القيود ليكون فاسقاً وداعراً وحقيقياً إلى أبعدِ مدى.
وهنا يحضر ما كتبه شقيق جويس ستانيسلاوس في مقدمة مذكراته: “يعتقد الجميع أنّ جيمس صريح جداً عند الحديث عن نفسِه، لكنَّه يكتب بأسلوبٍ يجعله يبدو وكأنه يلقي اعترافاته بلغةٍ أجنبية – وهو اعتراف يبدو أكثرَ سهولةً ممّا هو عليه عندما يترك العنان للسانه السّوقي البذيء لينطلق مغرداً بالاعترافات”.
في هذه الرسائل البذيئة، يمكننا أن نرى جويس ككيميائيٍّ عظيم يمزج بين اللغة اليومية والتجربة الحياتية التي تظهر بشكل فعلي في أكثر الاعترافات فحشاً وعشقاً. ولكم نحن محظوظون لوصولِ وثائق الحبِّ التّاريخية تلك إلينا، وأنْ تسنحَ لنا الفرصة لنترجمَها إلى العربية، وننقل إلى قرّائها صورةً من صور الحبِّ في أروع تجلّياته.
—————
*رسّام وكاتب أميركي.
*****
خاص بأوكسجين