يعاني بطل هذه القصة، مثلما هو واضح من العنوان، من صداع مزمن، أو الحلول الدائم للماضي في لحظته الحاضرة. حيث لا يكف عن اجترار كل ما حدث سابقاً خصوصاً تلك اللحظات المؤلمة التي عاشها في بلده قبل أن يهاجر إلى كندا.
سأمنح هذا البطل أحد الأسماء الشائعة بالعراق: عبد الحسين.
عبد الحسين هذا رجل نحيف وقصير في الأربعين من عمره. ما زال يحتفظ بشاربه الكث ولحيته الطويلة منذ أول مرة نبتتا على وجهه الأسمر. قد يشذبهما بعض الأحيان حينما يلح عليه صديقه الوحيد كي يفعل ذلك. طالما ما يتهرب عبد الحسين من هذا المهمة بسبب كسله المزمن والشعور القوي باللاجدوى. لم يفلح عبد الحسين بدراسته فتركها وهو في الخامسة عشرة مما يعني انسياقه للخدمة العسكرية الإجبارية في عمر الثامنة عشرة.
سرعان ما أرسلوه إلى الحرب التي كانت في أوجها بين بلده وإيران التي استمرت لثماني سنوات (1988-1980). ثم يقع في الأسر ويبقى في السجن في إيران لعدة أعوام. يرجع إلى أهله في بداية التسعينات. ولم يجد أي فرصة للعمل حيث كان البلد يعاني من الحصار الاقتصادي إضافة إلى ما كان يعاني منه كمواطن تحت حكم سلطة قمعية. لذا يضطر للهجرة من بلده بحثاً عن حياة كريمة. فكانت سوريا هي البلد الذي هاجر إليه أولا ومن هناك جاء إلى كندا عن طريق الأمم المتحدة.
يرتدي عبد الحسين بنطلون جينز وقميصا أبيض وجاكيت خفيف جلبه توا من العراق. اليوم يقرر مراجعة الطبيب للحصول على علاج لمرض الصداع المزمن الذي يعاني منه لسنوات طويلة.
سأضعه في صالة الانتظار بعيادة الطبيب وسط مدينة “أدمنتون الكندية”. هناك عشرة كراسي في الصالة. ثلاثة منها في كل ضلع من عرض الصالة، وأربعة في الضلع الطويل المقابل لمكتب الاستعلامات. تدير الاستعلامات سيدة خمسينية بيضاء. فارعة ونحيفة يغطي وجهها كمية كبيرة من مساحيق التجميل وتملك شعراً أشقر منفوش. تبدو مثل رأس دمية بلاستيكية فوق قصبة عصير. تخرج هذه السيدة كل عشر دقائق لتدخن سيجارة.
جلس عبد الحسين في زاوية الصالة، وكانت تحتل المقعد القريب منه امرأة آسيوية تشرب الماء من قنينة زجاجية بغطاء معدني. يتضح من الملصق على القنينة إنها قنينة عصير برتقال لكنها تستخدمها كزمزمية ماء.
السيدة تواظب على فتح سحاب حقيبتها اليدوية الكبيرة بشكل مزعج. صوت خفيف لكنه حاد. تفر غطاء القنينة محدثة قرقعة صاخبة تزيد من صداع عبد الحسين. ثم تكرع الماء بعجالة بدوي قطع نصف الصحراء. صوت بلع ريقها عال جداً. بعدها تُرجع الغطاء إلى القنينة محدثة نفس القرقعة. تضع قنينتها ثانية في الحقيبة وتسد السحاب.
بالرغم من أن القنينة صغيرة وهي تعيد شرب الماء منها مراراً إلا أنها لا تنضب. حقيقة لا أعرف سبب عدم نفادها رغم أنني مؤلف هذه القصة.
في الجهة المقابلة لعبد الحسين يجلس شاب قوقازي بثياب سوداء؛ سروال ضيق، ثلاث أحزمة مرصعة بقطع معدنية مربعة الشكل، جزمة من جلد أسود تصل ركبتيه. ويضع في وجههِ حلقات فضية كثيرة؛ واحدة فوق أرنبة أنفه وواحدة في حافتي كلّ من منخريه، عشرة في كل أذن، اثنتان في كل حاجب، ثلاث في شفته السفلى، اثنتان في كل خد.
لون شعره بنفسجي داكن مقصوص على طريقة الموهوك. يبدو وكأنه يضع منشاراً دائرياً على رأسه.
يدسّ في أذنيه سماعتين تبثان موسيقى صاخبة، يتسرب ضجيجها إلى فضاء الغرفة مخترقاً طبلتي أذنيَّ عبد الحسين الذي يبدو أنه الوحيد المنزعج من صوت الموسيقى العالي. رغم صخب هذه الموسيقى إلا أن الشاب القوقازي لا يتفاعل مع ما يسمع حيث يجلس مثل تمثال شمع وكأنه أصم. أنا متأكد أن أي أحد يسمع مثل هذه الموسيقى وبذات الصخب لتسلق أي شجرة يصادفها كقرد مرعوب!
هناك هندي بعمة خضراء ولحية بيضاء يخالط شواربه اصفرار من أثر دخان السجائر. يرتدي زيه التقليدي: سروال كاكي وقميص طويل بنفس اللون، بلوزة بدون أكمام بنية اللون، حذاء رياضي أبيض دون جوارب. تسور معصمه حلقة فضية اللون. يسترق النظر إلى كتاب تمسكه يدي بنت تجلس بجانبه. عندما تدير البنت وجهها نحو الرجل الهندي دلالة على امتعاضها لتحديقه في كتابها، يغمض الرجل عينيه متظاهرا بالنوم. أحيانا يشخر مما يضاعف من حدة الصداع الذي يعانيه عبد الحسين.
سأخلق سيدة مسنة بشعر أحمر وأجعلها تجلس على أحد الكراسي. ترتدي معطفاً شتائياً بقبعة تسور حافتها ريش أبيض اللون رغم أن الجو في مثل هذا اليوم من أيام الخريف لا يحتاج إلى معطف ثقيل كهذا.
تلتقط السيدة مجلة من بين المجلات الموضوعة فوق منضدة خشبية مستطيلة الشكل في وسط الصالة. تبلل اصبعها بلسانها وتدفع به أوراق المجلة بسرعة دون النظر إليها محدثة صوتاً يشبه صوت الصفق. ثم ترمي المجلة وتسَحب أخرى. تقلب كل المجلات المتكدسة فوق المنضدة وكأنها تبحث عن صورة ما. حينها يتضاعف صداع بطل هذه القصة. حتى إنه كاد يذهب إليها ويقضم اصبعها بأسنانه لتكف عن هذا العمل المقرف.
في تلك الأثناء انتبه عبد الحسين إلى رجل عجوز يجلس قبالته، في الزاوية المقابلة له. تمتم عبد الحسين مع نفسه، “من أين أتي هذا الرجل العجوز؟ فلم أره يدخل الى الصالة”. عجوز في أرذل العمر يرتدي ثوباً فاقع السواد بدون ياقة. لحيته البيضاء تصل إلى صرته. يمسك بعصا خشبية طويلة. أصلع تماماً. حافي القدمين. لا يكف عن التحديق بعبد الحسين بعينين غائرتين في محجريهما.
“شنو هذا الكائن العجيب؟ عيادة هذه لو متحف بشري؟”، قال عبد الحسين بسره.
حقيقة لا أعرف لماذا يحدق بوجه عبد الحسين رغم أنني من يكتب هذه القصة.
تململ عبد الحسين في جلسته متذمرا، علّ العجوز يحول بصره عنه. لكن لا فائدة.
قال عبد الحسين بصوت خفيف بلهجته العراقية: “دير وجهك مو دمرتني… هسة اكَوم أضربك ميت نعال.”
وضع عبد الحسين كفه على وجهه كأنه يغسل غبار الذكريات الموجعة. ذكريات سنين الحروب والحرمان. تجرأ قليلا ليسأل الرجل العجوز بلغة إنكليزية ركيكة: “هل تريد أي مساعدة يا سيدي؟”
لكن العجوز لم يجب، بل إنه لم يرمش البتَّة. صوت عبد الحسين خدش الصمت في صالة الانتظار، لكن لم يأبه إليه أي من بقي في صالة الانتظار من المرضى ولا حتى موظفة الاستعلامات.
لم أستطع تغيير مكان عبد الحسين، فكل ما فرغ مقعد يشغله مريض آخر بسرعة. أحياناً يشغل بعض الأشخاص أكثر من كرسي. مثلاً وضعت سيدة طفلها على الكرسي المجاور. أخرى وضعت حقيبتها الكبيرة على كرسي على يمينها. الرجل الهندي مدد قدميه على المقعد الذي كانت تحتله البنت، صاحبة الكتاب، ليغط في نوم عميق.
دخل الجميع إلى الطبيب عدا عبد الحسين.
وقفت الممرضة في طرف الصالة وصاحت: “عبد الحسين”
“نعم”، قال عبد الحسين.
تفضل معي.
لكن وهذا العجوز. أعتقد أنه ينتظر هنا أكثر مني.
أي عجوز؟
هناك في تلك الزاوية.
همممم. هذه مرآة يا سيدي.
وقف عبد الحسين مفزوعاً، فنهض العجوز معه. وبلمح البصر تغيرت ملابس العجوز لتبدو مثل ملابس بطل هذه القصة؛ بنطلون جينز، جاكيت خفيف جلبه توا من العراق، قميص أبيض. اختفى العجوز لتحل صورة عبد الحسين في مرآة كبيرة بإطار أسود.
*****
خاص بأوكسجين