صاحب الشأن
العدد 228 | 10 آذار 2018
محمد فطومي


 

خلال جولة بين المدن والقرى استغرقت أسابيع، أعلن ياسر الخطّي أمام الملأ أنّه يزدري كلمة «كركدن». أثناء الخطب مناسبة إثر أخرى كان يصرخ مُلوّحا بقبضة مضمومة كأنّه يشهر سيفا لا أحد يراه غيره وبصورة خالية من الغضب مردّدا: «لقد محوتُ العبارة من قاموسي بشكل نهائيّ ولن أتراجع». في الواقع كانت تلك المرّات الأولى والأخيرة التي ينطق فيها كلمة «كركدن» فقد أمضى حياته الماضية حريصا على أن لا يزلّ بها لسانه أبدا. ورغم الحشود الغفيرة التي واكبته بدافع فضول يغذّيه أمل في اقتناص لقطة يستدرجون بها بعض الإعجاب إلاّ أنّ البعض أبدوا فيما بعد استعدادهم للإدلاء بشهادتهم ضدّه كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. والحقّ أنّ ياسر الخطّي لم يكن يرغب في شهرة ولا  في أيّ غاية أخرى بقدر ما ضاق ذرعا بالسرّ الذي ظلّ يكتمه والذي بات يؤرّقه وينكّد عليه حياته على نحو  لا يُطاق. وإنّه لأمر تعيس حقّا أن يصطلي المرء بنارين معا. إذ بالإضافة إلى سرّه فإنّه يعيش الوتيرة الكابوسيّة التي يعيشها كلّ النّاس، فمنذ الدّقائق الأولى التي يصحو  فيها كلّ يوم من النّوم وهو  يكابد الأمرَين معا: الضّغط الذي يمارسه عليه سرّه ورحلة الخوف التي لا تنتهي أبدا إلاّ بالموت أو بغيبوبة ثقيلة. هذا ما يسود. خوف دائم ومرير  من أن لا يحدث ما يجب أن يحدث أو أن لا يحصلوا على ما يتعيّن أن يحصلوا عليه. لذا فأنت تراهم أغلب الوقت منزعجين وعلى أهبة القتل في أيّ لحظة.  ثمّ إنّه بطبيعته الحذرة التي تكره توريطه في خوض الأفكار المُحبطة ندم لتلفّظه الكلمة إلى درجة لم تنجح معها ضرورة تحديدها للنّاس في التّخفيف عنه. لكنّ ما أثّر  فيه حقّا بصورة عميقة اكتشافه في ختام جولته أنّه قضّى حياته يخفي أمرا لم يقم به البتّة وأنّه عاش حياته يتوهّم عدما اعترف به  في نهاية المطاف. كان ذلك في نظره يبدو  شبيها بقضم حبّة عنب بلاستيكيّة في الحلم. جدير  بالذّكر أيضا كي نجلو الغموض عن اعتراف ياسر الخطّي بعدم قيامه بلا شيء، أنّه كان دائما يحمل في قرارة نفسه يقينا كاويا لم يفقد على مرّ  الأيّام شهيّة تعذيبه ولم تنفع إزاءه مقالات القبض على السّعادة التي يدمن قراءتها. كان دائما يعتقد أنّ الأشياء التي يمكن أن تقال لا شيء يمنعها من أن  تحدث. عمليّا يدفع به يقينه ذاك إلى تخيّله في أبشع تجلّياته: «أن تعشق حسناء في الثامنة عشرة من العمر  شيخا تافها». أمّا مسألة الكركدنّ فهو  ببساطة أمر قُدّر له – حسب رأيه – أن يقع عاجلا أم آجلا.

في البداية اعتبره النّاس مجنونا وتندّروا به في مجالسهم. ثمّ ما لبثت الدّعابة أن تطوّرت عندما بدأ يتلقّى الإغراءات من قبل رجال الأعمال والقنوات التّلفزيونيّة لأجل أن يفتكّوا من لسانه الكلمة آملين في نيل سبق الحصول عليها من باب تسلية الجماهير  ولِمَ لا حمله الشّعور بمهانة بيع موقفه مقابل المال. جمعيّات نائمة كثيرة استيقظت للتّنديد ببدعة ياسر الخطّي. بيد أنّه استمات دفاعا عن مسألته مردّدا كلمة واحدة «مستحيل». وكورقة أخيرة انتقل معه هؤلاء إلى سياسة التّهديد لكن بدل أن تَنتزع منه الكلمة دفعت به إلى الهجرة للعمل في جمهوريّة الصّحراء وادّعاء الصّمم إلى الممات. بقي أنّ صبر  «ماهر  عبد الغني» نفد، فأخذ على عاتقه أمر  هزيمة ياسر  الخطّي بعدما بدأ التّهافت يتراجع. كان يبغض أن يَضيع صوته بين الأصوات. آنذاك كان لا يزال مقاول آبار أربعينيّ أعزب يعشق نفسه. مدمن ظهور فوتوغرافيّ على «فايس بوك». خلال الفترة التي سبقت مؤتمرات ياسر الخطّي أحسّ بأنّه فقأ مرارة العالم فابتكر  طريقة ينشر  بها وجهه مع الإبقاء على ماء وجهه وذلك بأن يرفق صورته بجمل يجتهد في تأليفها كي يبدو  بريئا من عشق ملامحه. تكون في الغالب أحجيات أو كلمات تمجّد الوطن وإنكار  الذّات. بعد تفكير طويل لم يتجاوز به الخاطر َ الخاطفَ الذي راوده أوّل مرّة، قرّر أن يُرفق صورته بكلام ينكّل فيه بياسر الخطّي محذّرا عشّاق وجهه من أنّ التهديد جادّ فعلا. إلاّ أنّ الحماس جرفه فأرفق صورته بكلمة «كركدن». في غضون دقائق تحوّل إلى مثار  للسّخرية.  كان ذلك أفظع ما حدث له في حياته. دون تردّد قرّر أن يثأر. قال إنّ الاستهانة بتصريح ياسر الخطّي هو  إذن بدخول مرحلة وخيمة العواقب. تنبّه كثيرون للخطر الدّاهم لكنّه لم يُوَفّق في إقناع المئات بضرورة محاكمة ياسر الخطّي إلاّ عندما قال: «إنّه سرق منّا كلمة»، مُدّخرا البرهان الحاسم ليوم المحاكمة. وهكذا جرى ترتيب رفع التظلّم إلى القضاء. سريعا عُيّنت جلسة للاستماع إلى المدّعين والشّهود وتوجيه التّهمة للجاني بشكل رسميّ. خلال الجلسة ترافع ماهر  عبد الغني نيابة عن أنصاره في قاعة غصّت بالحاضرين. قال إنّ المدعو ياسر الخطّي ابتلع كلمة «كركدن» ولم يكتف بذلك فحسب بل تعهّد بعدم التلفّظ بها بقيّة حياته. ثمّ التقط أنفاسه على نحو بدا له ملائما لمزيد التّشويق قبل أن يستأنف: «سيدي الرّئيس ألا يعني هذا بوقاحة غير  مسبوقة أنّه يبيح لعبارات شتم الوطن والرموز المقدّسة بأن تسرح وتمرح فوق لسانه كما تشاء». واستغرق يعيد كلامه بكلّ الصّيغ: «إنّه يُنكر اسم الكركدن.. يجب أن يُجبَر  بسلطة القانون على النطق به ليكون عبرة». عندما أنهى. نطق القاضي بعدم سماع الدّعوى لأنّ صاحب الشّأن لم يشتكِ. فورا عمّت الفرحة بين الحاضرين لكن ليس لأجل ياسر الخطّي بل لأنّ جلّهم كانت لديه أشياء لا صاحب شأن لها يحلمون بالإقلاع عنها وأخرى يتربّصون بأوّل فرصة لنيلها. خلال الأشهر  القليلة التي تلت المحاكمة ارتفع سعر العدس عشرة أضعاف وانتشرت سرقة المواشي وظهرت عصابات تنشط بعد منتصف الليل مهمّتها الصّراخ وإحراق السيّارات التي تبيت في العراء. وأخرى اختصّت في إلقاء الحجارة على كلّ شيء واغتصاب الممرّضات. ثمّ رويدا وبصورة مُتّفق عليها من قبل الجميع دخلت البلاد في حرب أهليّة راق معها الجنون والانتحار.

في تلك الأثناء تحديدا ومع سقوط أولى الضّحايا وظهورٍ أوّلٍ لدرويشٍ بعد أربعين سنة من الغياب عن عتبات المنازل، كانت ذكور  صاحب الشّأن تتنافس استعدادا لموسم التّزاوج.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وقاص من تونس. من اصداراته "زبد رخام"" 2013،و""جلّ ما تحتاجه زهرة قمرية"" 2017"