شوكران
العدد 171 | 19 نيسان 2015
محمد رشو


I

كان لديه أقفاص من الكنار، وحساسين تصله من جبل الأكراد، وكلب هجين يسميه شارلو، وكان شارلو يجمع بين شراسة أمه الذئبة وود أبيه الكلب، وظل محتفظا به حتى أشتراه منه ضابط متقاعد كان يعمل مستشارا في قصر الوالي.

كان يعلق للكنار مراجيح من عيدان الخشب، يمد تحتها الخيش وينظف الأقفاص في الظهيرة، يسقيها ويطعمها معا، لكل كنار نصف بيضة مسلوقة، فنجان من الماء وفنجان من بذور الخضار، وحين قالت له: ما بدي كلب، بيضل بيعوي كل ما مل، و ما بدي كناري لأنو بيزعق ع الفاضي والمليان، رد وهو يهز رأسه: خيتو، اللي ما عندو مروة، بيربيلو قطة، وثم حكى لها عن قطته الفرنسية، صغيرة وبيضاء، لكنها من النوع الذي لا يسمع، فاقتربت من المائدة حيث كان جالسا على كرسي من الخيزران، ساقا على ساق، وقالت: دخيل الله بدي قطة، فحذرها: بس القطة نفسها مو نضيف، بتمرض، ويمكن تعملك أكياس مي، ردت على الفور: معليش، فأكمل ضاحكا ضحكته الخفيفة: ويمكن ما تجيبي ولاد، فردت كاترينا: رضيانة فايق آغا، بس بدي القطة،

فصبر على قطته الحامل التي كانت تجر بطنها الذي ينتفخ يوما بعد يوما، وتموء كأي ذات روحين، بألم مقدر ولا بد أن تحتمله، تموء في القبو، على الدرج، في غرفة العلية، وفي الركن القبلي الغربي من الحوش، في مكانها الترابي الأثير بجانب جذع شجرة الأنغيدنيا حيث ولدت بعد فترة أربعة فراخ، أربع قطط صغيرة بعيون سوداء رطبة، اثنتان بيضاوتان تماما، واحدة شقراء، والرابعة نصف شقراء ونصف بيضاء، تلك هي التي حملها صباح ذلك الإثنين مشيا من “ألمه جي” وعبر سوق النحاسين هبوطا على طول جادة الخندق لينعطف شمالا ويدخل الجادة ١٤٢ في “بحسيتا”، وليقف تماما على باب الدار الذي كانت تعمل به، ومتجاوزا الباترونة يحييها بالكلمة الوحيدة التي يعرفها من اليونانية:

كاليميرو كاترينا..

وثم يكرر اسمها بشغف من يحب ولا يستطيع أن يخفي، يكرره وهو ينزل الثلج الفرنسي الأصم برفق على ساعدها الأيمن ولكن بالكردية هذه المرة:

كاترينا، كاترينا أز چه ته حزدكم.

II

كان فايق آغا سليل عائلة من ملاك الأراضي في الجبال لكنه كان الابن النحيل المريض الذي تبقى عين الأب في حيرة عليه حتى تغمض، أشترى له بيتا في ساحة “الألمه جي” ليكون لا بعيدا ولا قريبا من قبر جد العائلة في “”أقيول، ومن ” فقرائنا ” في حي الأكراد بين “قسطل الحرامي” و”الحميدية”، وبينما كانت كاترينا قد عرفت الجسد، جسدها كيف يصحو وينام، وجسد الآخر كيف يجوع حين يتألم وكيف يتوحش حين يجوع، كان فايق في الخامسة والعشرين ولا يزال طريا ولا يعرف سوى الحب في الأغاني، كيف تندم بلا سبب، كيف تنتظر أحدا لا يجيء، كيف تقيم الأميرة وليمة من لحم الخروف وثم تقدم حلمتيها على الرز المطبوخ فلا يخطئ فم المحارب رائحة يدها، كيف تأرق سبعة أيام وتنصت إلى حكاية تنسل من حكاية أخرى، وكان يرغب أن يخبرها أول مرة بذلك حينما دخل عليها في البيت العمومي، لكنه أكتفى بأن سألها عن اسمها، ظانا أن الاسم مفتاح من الذهب لولوج الجسد حتى آخره، بالطبع كان مخطئا، وبالطبع عرفت كاترينا ذلك بحدسها حينما دخلت عليه، ووجدته عاريا ويكاد يرتجف، لكنها أرادت أن تقوم بعملها كما ينبغي وشلحت أمامه كما تفعل أمام أي عابر آخر، رتبت شلحتها وسوتيانها وكلسونها على كرسي الخيزران بجانب النافذة، ووقفت أمامه بجبروت من تعلم كيف تسوق الأمور إلى النهاية، لكن النهاية كانت أسرع مما تتوقع، فلم يكد يقبل مؤخرتها، ولم تكد تجلس على حافة السرير لتمسد له حتى كان قد قذف في يدها، ارتبك فايق ولم يجد ما يقول ليستر خذلانه سوى أن يردد بحماقة، أنا آسف، بينما نظفت كاترينا بكل هدوء يدها بمنديل أبيض، وكانت ستهم بارتداء ثيابها حين استدارت خلفها، وعرفت أي رجل هو، فاقتربت منه وجلست بجانبه على السرير وأخذت تنظف رأس حيوانه الغافي في حرير الخيبة، بالمنديل نفسه، ثم ضمت وجهه بين يديها ودفنته بين ثدييها ومالت عليه حتى انسكب شعرها على كتفيه حتى منتصف ظهره النحيل. لم تكن تعرف حينئذٍ أية بذرة ألقت وفي أي أرض ألقت، لتبدأ الحياة تنبت مرة أخرى في الأغاني السقيمة، كيف تنتظر أحدا ما تعرفه تماما، كيف لا تنام كي تظن أنك تحرسه، وكيف يمكن لمحارب أن يخوض حربا لم تكن حربه، وثم لا يجد ما يقوله لفمه والأميرة تترك حلمتيها تنبتان على شجرة الوليمة.

III

في اليوم التالي أرشدته بياز خانم إلى العلية على الفور، كأنما كانت تنتظره وكأنما كانت على علم بأنه سيأتي لا محالة وأنها تعرف بأمر سره الصغير، بل وربما أخبرت العرصة أيضا والعرصة أخبر الجندرمة، غمزته كاترينا بعينها اليمنى حين رأته يخلع مع إشارة إلى السرير، أن يتمدد، ثم اتجهت إلى الخزانة وأخرجت فنجانا خزفيا، لم تكن ترتدي شيئا تحت شلحة الحرير الأزرق الشامي ذات الياقة الواسعة على الصدر وحمالتين على الكتفين، بحركة واحدة شلحته من فوق الرأس، ثم غمست أصابعها في الزيت ودهنت بيدها اليسرى ما بين ساقيها، وتناولت أيره ودهنت له الرأس، وانحنت عليه لتقبل حلمته اليمنى قبلة خفيفة وثم وهي تباعد بين ساقيها وترفع مؤخرتها قالت:

إذا دخل الراس، بيدخل كله،

وأضافة مداعبة: لا تخاف على الجذع، فايق آغا، ما بينكسر.

وحين عاد إلى البيت، دخل الحمام وأطال المكوث فيه، بالليف والصابون الغار وحجر الخفان والماء الساخن، ظل يفرك ساعتين خلالهما حلق شعر الإبط والعانة، وثم نظر لبطنه وذراعيه وصدره وفخذيه، ورأى كل ما فيه جميلا، كأنما كانت المرة الأولى التي يرى فيها جسده، أو كأنما يرى جسدا آخر، والأحرى أنه كان يسترد جسده الذي كان يكاد أن يختفي من الإهمال ونسيان ما له.

بين عيدي الفطر والأضحى كان قد أصبح مواظبا على المحل العمومي، وبعد شهر كانت كاترينا تصحبه يوم الإثنين بعربة حنتور ليشاهدا فيلما في كوزموغراف في “باب النصر”، أو تينوغراف مقابل “فندق بارون”، أو يتمشيان حتى “الأورينتال” في “باب الفرج”، ولم يزر “جبل الأكراد” إلا حين استدعاه الآغا وحذره من أن يتحول إلى سيفونجي ورغم ذلك لم يمكث فيه سوى يومين، وفي اليوم الثاني من عيد الأضحى كان واقفا في العلية، يمسك عنقود عنب أسود ويناول فمها الحبة بعد الحبة، لتقبله وسلاڤ الحبة في لعابها، وحين انتهى العنقود، كانا على السرير في أجمل منظر بالوجود، كما تقول الأغاني، وحين قامت لترتدي ملابسها، جذبها نحوه وقال كمن سيبوح سرا:

من يومين شفتك بالمنام،

وربما لأنها المرة الأولى التي يروي فيها حلما، جلست لتصغي إليه:

كنا بمزار النبي هوري، وكنت حامل هدهد ع إيدي، وكنتي وراي، وكان الهدهد بيطير، بيلقط حصاية وبيحطها ع كفك، وكنتي بدك تلزقي الحصاية ع حجر الحيط، وكانت تطب ع الأرض،

وأكمل:

وصار الهدهد يطير والحصى يطب، وبعدين انتبهت أنو نحنا بباب الفرج، ولحظتها طار الهدهد باتجاه “الجميلية” وصار يناغي بصوتك وهو عم بيبعد، وطلعت وراي وما لقيتك، وما لقيت شي حولي، بس صوت ساعة عم بتعمل، تك تك تك،

ضحكت كاترينا وقالت:

والتكتكة يا ترى من ساعة إيدك ولا من ساعة “باب الفرج”،

لكنها وهي تكمل ارتداء ملابسها، أغمضت عينيها بحركة تطمين سريعة وقالت:

مافي شي، حبيبي، بس لا تصدق الأغاني.

واستدارت نحو المرآة.

من “بحسيتا” إلى “بوابة القصب” إلى” الجديدة” إلى “قسطل المشط” إلى “ألمه جي”، لم يكن فايق آغا ذلك اليوم يفكر في باريس، أو المنام، أو الأغاني، كان يفكر ب” حبيبي ” كيف تقولها كاترينا.

IV

من “جزيرة كيوس” التي كان فيها قانون في زمن قديم يقضي بأن يتجرع الشوكران السام من بلغ الستين من العمر حتى يكفي الطعام أهل الجزيرة، أتى الأب، لم يكن كهلا لينقذ نفسه بالنفي، ولم يكن ذلك القانون قد بقي ومضى عليه زمن بعيد، كان شابا تزوج في أثينا وثم انتقل إلى القسطنطينة وليستقر لاحقا في أزمير قبل أن يحتلها اليونانيون في حربهم المقدسة لاسترداد آيا صوفيا ويمارسوا خلالها القتل والاغتصاب والحرق، ويرتكبوا مجازر لا تقل عن تلك التي ارتكبها الأتراك بحق اليونانيين في كل منطقة البحر الأسود والتي قال عنها الحاكم التركي في سيواس نفسه بأنها كانت رهيبة حتى أنه لم يستطع تحمل الإبلاغ عنها، وقبل أن يتبع اليونانيون سياسة الأرض المحروقة في أزمير ويعودوا كان قد خرج منها ليلقي بنفسه في طريق لا يعرف أين وكيف سينتهي حتى وجد نفسه ذات يوم بحلب في مخيم أقيم على عجل وبيده قصعة، يحدق بعين محمرة في لطخة على ظهر القميص الذي قبله، عجوزا مثيرا للشفقة يقف على رتل الطعام وخلفه ابنته الشقراء، كاترينا ذات السبعة عشر عاما التي كلما ردت شعرها الأشقر للخلف بانت شامة على صدغها الأيمن، هي الشامة نفسها التي سيشير إليها والد فايق آغا بعد سنوات، صباح اليوم الأول من عيد الأضحى حين أنتحى بإبنه جانبا و أخبره أن يستعد للسفر إلى باريس ليدرس الموسيقى كما كان يشتهي. كان الآغا الكبير يمسك عصا من شجرة الرمان وينكش برأسها التراب في حركة لا تعني سوى أنه لا يعرف ماذا يفعل، لم يكن ثمة حديث بينهما سوى أصوات تنفس، حف كف، شهيق زفير، قبل أن يرمي العصا على الأرض ويدور نحو قلعة النبي هوري نحو اليسار وينظر حتى حدود تركيا ويقول بهدوء بارد، من دون غضب ظاهر وكأنه ينصح أحدا ما لا يخصه، وليس بجانبه:

شرميتا چه مه نه كيمن.

لا ينقصنا قحبات.

V

كان الدكتور أسادور ألتونيان أول من استقدم جهاز أشعة رينتيغن إلى البلاد وأول من استعمل البنسلين أيضا، وخلال حياته المهنية في حلب عالج ٩٩٦٢٨ مريضا ومريضة كانت إحداهن كاترينا تيودوراكيس، والحقيقة أنه لم يفعل لها شيئا يذكر، في ذلك اليوم حين رأى الضباب الأزرق على الوجه، وجس ما تبقى من النبض في المعصم الأيمن، بالعين الخبيرة وحدها عرف أنه قد فات الأوان، ولم يبق سوى الإذعان.

خلال فترة ليست طويلة في “المنزول”، أصبحت كاترينا تدرك تماما ما تملك، كانت بياز خانم حين تتكلم عنها، تترك بيديها قوسين كبيرين مشيرة إلى ردفيها الممتلئتين، وتقول: اسم الله وفوقون، إيد خضرا وعقل ٢٤ قيراط، فكاترينا كانت قد زينت الدار بالياسمين البلدي وكانت تغير التراب وتضيف مسحوق الثوم والزبل حول نبتة اليوكا، وحصى سوداء وبنية ومزرقة ومخضرة حول ساق الصبار، وتنظف قاعدة أوراق كف الدب بالقطن ورقة ورقة وكانت تتصرف وكأن المنزول بيتها الوحيد وهذا بالضبط ما كان بعد دفن الأب في تراب الغرباء، كانت قد كبرت فجأة ولم تكن تخجل من عملها، وكل ثلاثة أشهر كانت تزور سوق الصاغة لتضيف إسوارة أخرى إلى معصمها الأيسر، ثم أنها كانت تعرف ماذا تريد تماما، وماذا تمنح ولمن وكيف، كانت ترضي الأفندية والأغوات كما ترضي الجنود والطلبة، تحرص على نظافة جسمها، ولا تفوت الذهاب إلى حمام الهنا، ولا تفوت فحص الأربعاء الذي كان يجريه الأطباء لهن دوريا في المشفى الصغير الذي أقيم مقابل “المنزول”.

في اليوم الثالث من الأضحى كانت في أرض الدار تلف أوراق اليالانجي حين ذكرت لبياز خانم تلك الذكرى القديمة، مرة أخرى، كانت في السادسة أو السابعة، اصطحبها الأب إلى الطبيب الأشهر في أثينا حينذاك أملا في علاج للسلس البولي الذي كانت ما تزال تعاني منه في الليل، حين خرجا من العيادة اتجها نحو مونستيراكي وهناك حملها فوق عنقه وصعد بين أشجار الصنوبر نحو أكروبوليس، وبينما كان يقف على صخرة ويشير بسبابته نحو تلة بعيدة، ويقول: كاترينا، بيتنا هناك، هناك بيتنا حيث تغيب الشمس تماما، كانت الطقس يميل لبرودة خفيفة مع الغروب، وكانت قد شربت عصير الليمون في الساحة، فلم تتحكم بنفسها وتبولت، أخذ الأب يتحسس السائل الحار بيده ويكمل وكأن شيئا غريبا لم يحدث: هل عرفت، هناك حيث سرب الطيور، كانت كاترينا تنظر إلى التلة وتكرر كببغاء صغير: نعم بابا، عند الطيور، عند الشمس، لم تسمع تماما ما دمدمت به بياز خانم عزاء، كانت قد انهت آخر ورقة عنب حين أخذت تبكي، ثم قامت وهي تحمل طنجرة اليالانجي وخطت نحو باب المطبخ، أسندت ظهرها للباب، أمالت كتفها قليلا، أدارت المقبض بكوعها اليمين ودفعت الباب بمؤخرتها وغابت في الداخل.

VI

في ذلك الوقت الذي كانت كاترينا تعض على شفتها السفلية خفيفا، وتضيق عينها اليمنى وتفكر وهي تسند وركها على زاوية المائدة في المطبخ وتراقب بقبقات الماء يغلي ويزيح للحواف ذرات النعناع والفلفل الأسود والبهارات ودبس البندورة، كان فايق آغا قد خرج من باب منزله وقبل أن ينحني على اليمين ليسير بمحاذاة حمام “ألمه جي”، توقف للحظات وأخذ ينظر للساحة نحو سرب الحمام الذي كان يربيه بيت الهيب فنحو الأعزب الضرير الذين يؤذن أحيانا حين يغيب الشيخ عبد الرحمن أفندي الجندي. كان يخرج من الباب الأخضر الغامق الذي تزينه كتابات ترحب بمن سيعود من الحج لتقوده عصاه حتى جامع زكريا، في ذلك اليوم كان النسيان ما أودى بفايق آغا في متاهة الندم وطلب الغفران لأجل ذنب لم يرتكبه.

كان ما يزال يظن أنه لم يغادر الأربعاء بعد حتى دخل زقاق بحسيتا، وأشار له حارس الجندرمة على باب المنزول بوجهه إلى صف العساكر الطويل ينتظرون دورهم في صف اللذة، مذكرا أنه خميس العساكر، كأحمق دمدم: أها، فكر للحظة مدفوعا بغيرة مضمرة، العساكر يجب أن ينيكوا بعضهم أو البغال، ثم دار إلى الخلف وأتجه إلى “باب الفرج”، بقي أكثر من عشرين دقيقة يتأمل الساعة العليا المعلقة في الهواء التي كلفت الأتراك ٦٠٠ ليرة عثمانية، معجزة بكر صدقي وشارتيه أفندي، من القاعدة العريضة حتى العقارب السوداء وهي تدوخ في عماء أبيض لجرد ما لا يجرد، الساعات الساعات،  أخذ يكلم نفسه مرددا وهو يلج المقهى في الطابق الأرضي من فندق الشهباء.

لم يكد يدخل المقهى حتى سحبه ناظم أفندي، من كان يزور  جبل الأكراد في الصيف ليصطاد الحجل مع صديقه الآغا الكبير ومن رشح لأبيه منزلا في “ألمه جي” ليسكنه الابن الذي لا يحتمل قسوة الجبل ومخافة أن يخطفه أحد أعداء الآغا بفكرة أو سلاح، لم يكن ناظم أفندي يكبر، وكان ما يزال يرتدي البرنيطة المدورة الكحلية، لكنه أصبح يضع نظارات مدورة، ومع شاربه المدبب وخديه الموردين وغليونه كان يبدو افرنجياً تماما، قاده إلى آخر المقهى ثم تبعه صاعدا درجا لولبيا حتى دخلا قاعة مطعم الفندق. طلب ناظم أفندي الكباب العنتابلي على طبقة من البقدونس المفروم المملح المفلفل مع البصل والطماطم المشوية، وبجانبه نبيذ بوردو وعرق بيروت وأخذ ناظم أفندي يتكلم، يأكل بشراهة ويتكلم برضا، وكان فايق آغا يأكل قليلا دون شهية ويشرب ببطء لكن بجرعات كبيرة، يراقب فم ناظم أفندي ينفتح وينغلق، تكلم عن العلم والدين والروح والشعر والفلسفة والمسرح والاستانة وفيينا وباريس وڤينسيا، وبينما كان يتكلم كيف أنه كان يصاحب الشيخ كامل الغزي وجبرائيل الدلال ورزق الله حسون وقسطاكي الحمصي  إلى “الجديدة”، إلى الصالون الأدبي الذي كانت تقيمه مريانا مراش في منزلها بـ “حارة الحصرم” القريبة من “ساحة القديس فرحات”. كانت تطبخ لهم الشيخ محشي والشيشبرك والكبب ثم تعزف لهم على القانون وتقرأ من أشعارها ويقرأوون من أشعارهم، وكيف أنها بتقدمها في العمر كانت قد خضعت للعزلة والمزاج العصبي حتى باتت تحت تأثير نوبات السوداء تتمنى الموت في آخر حياتها كل ساعة. استطرد حتى سها عنه فايق آغا تماما، فأخذ  ينظر حوله لينشغل بالزجاجات المرصوفة خلف البار قبل أن تقع عيناه  من خلال المرآة مقابله على امرأة فرنسية في العشرينات، ربما في عمر كاترينا تماما، ترتدي فستانا أزرق طويلا مع قبعة ذات ريشة بيضاء طويلة وحولها ثلاثة رجال يرتدون بدلات جوخ سوداء نظيفة مع قمصان بيضاء وربطات عنق على شكل فراشات خمرية اللون. كان كلما شرب. كان يراهم أشد وسامة مما بدو قبل ذلك ويراها تشبه كاترينته التي تستقبل عساكرها في اللحظات نفسها. كان غاضبا من نفسه، من كاترينا، وأكثر من ناظم أفندي لسبب يجهله، وربما حدث ذلك بعد الكأس الرابعة أو الخامسة حين دق كعب كأسه على خشب المائدة بقوة أحدثت فرقعة مما أجبرت ناظم أفندي على أن يسكت تماما، وجعلت الرجال الثلاثة والفرنسية يديرون رؤوسهم نحو طاولته معا قبل أن يعودوا إلى ما كانوا يتكلمون فيه، صب كأسا أخرى وتكلم لأول مرة منذ أن جلس.

VII

قال: هنا أرض الظلام، ولا أحد ينجو من الظلام، أحيا في الموسيقى والموسيقى لا تنقذ. دخل أول جندي وكان قويا، ضم ثدي كاترينا إلى أضلاعه حتى أحست أنه سيخرج من ظهرها لكنه كان لذيذا ففتحت ساقيها أقصى ما تستطيع، قال: الأغاني ينبغي ألا تكون مراثي وليس لدينا سوى المراثي. الجندي التالي كان يريد حبا، أن يشم رائحة الإبط حتى ينتصب معه، وأن تقول له: أنت الذي أحببت، قال: في الحب وفي الحرب، يقف المغنون والشعراء بين النساء والأطفال. جندي آخر بكى ثم انتحى جانبا حتى قذف في يده وهي تكتم ضحكتها، قال: الظلم، الظلم، كلنا نظلم، أبي يظلم إذ يملك، أنا أظلم إذ أصمت.  هناك جندي حمار لكن دون أير أسود طويل يتدلى بين رجليه ولا تنتصب أذناه حين ينهق كاشفا عن قواطعه الأمامية، قال: لطالما كنا أمراء العماء، نكون مع العثمانيين ضد الصفويين، أو نكون مع الصفويين ضد العثمانيين، قسمنا النهر إلى لغتين، ونحن قسمنا النهر إلى ضفتين، الجندي الوسط  يقتل لأن الذي على يمينه يقتل ويفر لأن الذي على شماله يفر وينيك لأنه وجد نفسه في رتل المجهول، قال: يؤلم الحب في الحرب والحرب تكثر الحب وتؤلف الأفئدة، لم يكن الجندي مجنونا لكنه كان واضحا، بدي أنيكك من ورا، ضحكت كاترينا وهي تحط يدها على كسها، ثم قالت: راح يبرد إذا ضليت عم بتحكي، الطيز للخرا وأضافت مازحة، إذا بدك تنيك طيز نيك طيز أمك يا عيني، قال: لست كرديا، لست من حلب، لست عربيا، لست مؤمنا، لست كافرا، لا علم، لا خيال، لا أكلم الطيور في المنام، لا شيء سوى الكوابيس، قال جندي: إيدي بتفهم علي أكتر من لحمك بس بدي عينك، تناول شلحتها عن الكرسي بشماله وأخذ يعصر تينته عصرا لطيفا وبيمينه مسد الشفة والفم الصغير والرأس  والرقبة والعنق والجذع والخصر والظهر والرسغ والمعصم والكوع والبوع حتى نفر الماء الأبيض في الساتان ومن الساتان، قال: لست أحدا، لست نفسي، لست صديقا، لست عدوا، أحيا لأفكر بالموت، لم أمت بعد لكن سأموت وأنا ألعن الحياة، قال جندي يتلعثم: بعرف في نسوان بتلحس بتمص، ردت: تلحس بخش أبوي ولك شخاخ، لا تمصلي ولا أمصلك، قال: أغني بالكردية، أقرأ بالعربية، وأشار بعنقه نحو “بحسيتا”، وننيك بين اليهود، كان الجنود ينتظمون في رتل آخر ليغادروا حاملين معهم قصصا لألف ليلة وليلة في العراء، جئنا من حرب وجئتم من حرب أخرى، دخل رجل غريب زقاق “بحسيتا” متأخرا وكان في عينيه فولاذ شر لم يخفه سوى ربع ليرة رنت بين كف الغريب وكف الحرس، آسفة اليوم خميس العساكر، تقول بياز خانم لكنها ترضى حين ترن في كفها ليرة. قالت كاترينا، خلصنا، قال الغريب: اشلحي كلبة فشلحت، وثم لن ينتهي القتل هنا، فيجيء الأرمن من البر ويجيء الشركس من الليل ويجيء اليونانيون من الليل والبحر والبر، ناكها ذو العين الفولاذ دون أن يخلع شيئا عنه، وثم أخرج سكينا من تحت ثيابه، شطح كاترينا على بطنها ، أغلق فمها بالشلحة، وغرز ركبته في الظهر ثم أمسك اليد اليسرى ، يد الذهب، اليد الخضراء، وقطع الجلد واللحم والوريد وكسر العظم وأكمل على ما تبقى من اللحم والجلد ورماه جانبا، الأساور في جيب الغريب وهو يخرج من الزقاق ١٤٢، و كان فولاذ الشر ما يزال يلمع في عينيه  ولا يخفيه شيء، اليد الخضراء في أرض، وكاترينا في أرض أخرى، كان شعرها الأشقر مردودا للخلف حتى بانت شامة الصدغ الأيمن، كان يحب أسمها، يلفظه مقطعا مقطعا،  كات ري نا، وكانت تنزف، كات ري نا، كأنما كان يتكلم ليصل إليها، كاترينا كاترينا، وأز قربان كاترينا، ولم يعد يقوى على رفع رأسه عن الطاولة، وحين رفع رأسه لم يكن هناك سوى نادلين يتحركان بين الطاولات بقرف، لا ناظم أفندي  بجانبه ليحمله ولا الفرنسية الزرقاء ذات قبعة الريش في المرآة بين ثلاثة رجال يرتدون بدلات سوداء جوخ نظيفة  مع بابيونات خمرية تزين ياقات قمصان بيضاء  في المرآة نفسها، فبكى حتى كانت دمعة طويلة حتى آخر جندي رآه في المنزول، طويلة حتى رأس دم كاترينا يمر من تحت باب العلية ويمشي على الدرج ويسقط على الدرج ويمشي وينزل ويسقط حتى يصل أرض الديار لتراه بياز خانم وهي تعد غلة اليوم وتقضم أصبع يالانجي، جر قدميه حتى المغسلة وتقيأ أخضر أحمر أبيض ثم رأى عدوا في المرآة وهبط اللولب أو تزحلق عليه أو زحف كقطة مشلولة، بالكاد كان يجر قدميه، بالكاد كان يفتح عينيه، لم يكن قد بقي أحد، ولا شيء يدل على “بحسيتا”، لا شيء يدل على طريق ألمه جي، لا شيء يدل على هدهد يلتقط الحصى لتلصقه امرأة بجدار قبر، ولا أثر لقبر نبي، فقط كانت هناك شجرتا نخيل تهتزان في هواء خفيف وبينهما دائرة بيضاء، وكانت العقارب السوداء تدور، في الهواء تدور، تدور لتجرد الثواني، لتجرد الدقائق، لتجرد العماء الذي لا يجرد، لتجرد الساعات، الساعات، نظرات البشر المتروكة في الظلام، الظلام الذي لا يغادر هذه الأرض.

_______________________________________

شاعر من سورية صدر له “انتظر الهواء لأمر بك” 2001  و”عين رطبة” 2005

الصورة من أعمال الفوتوغرافي الإيطالي أمبرتو فيردوليفا Umberto Verdoliva

*****

خاص بأوكسجين


شاعر من سورية. من مجموعاته الشعرية: "انتظر الهواء لأمر بك"" 2001 و""عين رطبة"" 2005rn"