شعراء وكتّاب وملاكمون
العدد 265 | 30 حزيران 2021
ورد سلامة


 

كم لكمة تلقيت في حياتك؟ هل يمكنك استعادة ذلك بوصفه استعادة لشريط حياتك؟ هل فكّرت أن تصبح ملاكماً جراء ذلك، لتكيل اللكمات وتتلقاها في حلبة تكرم فيها أو تهان، تبقى واقفاً شامخاً منتصراً في النهاية، أو مرمياً أرضاً مهزوماً فتمضي إلى منازلة أخرى تريد فيها وكلك عزيمة أن تنتصر لتمسح عار الهزيمة السابقة؟

إنها أسئلة ستجد سياقها في قصائد الشاعر الأميركي بول بولانسكي وتحديداً كتابه المعنون Boxing Poems “قصائد الملاكمة”، وربما “قصائد اللكمات” طالما أن بولانسكي يكتب سيرة حياة كاملة لبطل كتابه الملاكم من خلال اللكمات التي تلقاها من الطفولة إلى الشباب وصولاً إلى الكهولة، والنزالات التي خاضها لحين اعتزاله “لعبة النبلاء” وقد صار جدّاً.

أولى قصائد هذا الكتاب العجيب تحمل قصيدة عن والد بطل الكتاب يقول فيها: رجوعاً بالزمن فإنني كنت أعرف بأنه ليس بأبي/ ينادني بابني/وهو وهبني اسمي ولم يهبني ذراعه/ كنت أعرف أن أضرب بالمضرب، وبقبضتي/ وهو لم يضرب أحداً قط/ في البيت لا يفارقه الصمت، ولا يحتد إلا مع أمي إن هو أكل وحيداً/ لم يواجه رجلاً في حياته قط/ في عيد الشكر قام بإعطاء جيراننا خمس دولارات ليتوقفوا عن ضرب أخي/ أحبه، أناديه بـ “أبي”، واستشعر مشاكله./ فقد ربّى سبعة أولاد، ولابد أنه أدرك بأنني لست بواحدهم./ أنا المهووس بالقتال/ إلا أنه خاض جولاته أيضاً.

يستدعي كتاب بولانسكي كتّاباً أخذتهم الملاكمة واللكمات، ولعل أول من يتبادر إلى الذهن هو آرنست همنغواي، الذي كان يرغب بقوة أن يكون ملاكما، وخاض غمار نزالات عديدة في مناسبات مختلفة في زقاق أو حديقة عامة، أو في حلبة كما فعل مع الكاتب مورلي كالاغان، وقد تولى حينها الكاتب سكوت فيتزجيرلد أمر توقيت الجولات، وذلك في باريس عام 1929 (كما يورد كالاغان في كتابه “صيف باريس”) لا بل إن هذا النزال ولد خلافا بين همنغواي وفيتزجيرلد، لكون الأخير جعل الجولة الثانية تمتد لأكثر من أربع دقائق (مدة جولة الملاكمة ثلاث دقائق) ما أنهك همنغواي وليلقى لكمة قوية من كالاغان رمته أرضاً.

وإن لم يحترف همنغواي الملاكمة إلا أنه كان مهووساً بها لدرجة قال في لقاء معه “كتابتي لا شيء، الملاكمة هي كل شيء”، ومن الطبيعي أن يرد ذكره في كتاب بولانسكي، وذلك في قصيدة بعنوان “على الطريق” يناجي فيها همنغواي أن يقله بسيارته، بينما هو هائم على وجهه في ولايات أمريكا إلا إنه عوضاً عن ذلك يستقل السيارة مع ثلاثي “جيل البيت” غينسبيرغ وكاسادي وكيرواك، وما عنوان القصيدة إلا عنوان رواية الأخير الشهيرة.

 ولعل السعي للإبقاء على طيف همنغواي حاضراً في أرجاء الكتاب، يدعني أقارب قصيدة بولانسكي “الحلبة هي البيت” بوصف عزلة ووحدة الملاكم التي يتناولها في هذه القصيدة أشبه بعزلة الكاتب- عزلة همنغواي وهو يلكم الآلة الكاتبة وقد درج على الكتابة وقوفاً – وهو يجد في الأوراق بيته وهو يصارع الكلمات تلكمه ويلكمها. تقول القصيدة: يعتقد البعض أن الحلبة لامعة ووضاءة، بينما هي المكان الأكثر وحدة في العالم/ لا أظن أن ملاكماً سيوافق على ذلك، لكنهم وحيدين، يعرفون جيداً ما الذي يعنيه أن يكون المرء وحيداً. غرفة رخيصة/أربعة جدران/وما من أحد للحديث معه/تلك الوحدة، هي الجحيم/ يعشق الملاكون النزال/لأنهم على الأقل يجدون في ذلك من يتواصلون معه/ وهناك الجمهور الذي مهما كان قليلاً/ فإنه مصدر بهجة/ الحلبة للملاكم هي البيت التواق إليه أبداً.

في تتبع تلك المتوالية الشعرية التي صاغها بولانسكي تمضي الحياة أيضاً، فمن المدرسة إلى الشوارع ومن ثم حلبات الملاكمة يهرم بطل كتاب “قصائد الملاكمة”، وتمسي نزالاته في سياق مختلف قد يدافع فيها عن متشرد، أو غجري يتعرض للاضطهاد، وصولاً إلى قصيدة بعنوان “النزال الأخير” والذي لن يكون في الحلبة، بل مع سارقين يقومان بترويع الحي القاطن فيه، وليقول في تلك القصيدة “لقد انتهت جولاتي/ ما عدت قادراً على إحكام يدي/ ولا تكوير قبضتي/ لم أعد قادراً على القتال (..).

يمسي بطل كتاب بولانسكي متشرداً يجمع الزجاجات الفارغة، أو “كلباً ضالاً” التعبير الذي يستخدم كثيراً في ثنايا الكتاب، ذلك أنه أيضاً في جانب من جوانبه عن المتشردين والفقراء، وللكتاب أن يكون حافلاً بعنف وقسوة تلك الحياة في أميركا وأوربا، فهو إن كان خارج الحلبة فالأزقة والشوراع الخلفية مساحته الحيوية، وعلى الدوام هناك من يتربص به أو يتربص بالمستضعفين. 

يشبه بطل كتاب “قصائد الملاكمة” في خريف عمره، بطل قصة “قطة من اللحم المشوي” لجاك لندن (1876 – 1916) الذي يصوّر الملاكمة بوصفها معادلاً للمجتمع التنافسي وما يحتكم عليه من قيم تتحكم فيها الخسة والوحشية، وليجد في هذه الرياضة التي كان معجباً بها أيما إعجاب، مساحة لتجسيد ذلك من خلال ملاكم كهل فقير يكون في صدد خوض مباراته الأخيرة، التي سيواجه فيها ملاكما غراً إلا أنه يفيض حيوية، وليبدو بأن الملاكم الكهل في صدد الفوز، إلا أنه يخسر في النهاية وقد خذلته عضلاته في إنهاء النزال لصالحه، وبالتالي تنهزم البراعة أمام الحيوية، وليغادر الحلبة وهو يفكّر بمرارة بأنه لو أكل قطعة من اللحم المشوي في يوم المباراة لفاز.

واضح في في قصة جاك لندن منابع الهزيمة، إنها هزيمة اقتصادية، إنه الملاكم الذي طحنه المجتمع وما عاد يملك ما يشتري به قطعة لحم، بينما نهايات ملاكم بول بولانسكي غير متصلة بأدب لندن ومقاربته التي تؤمن بالصراع حتى النهاية، والذي له أن يكون في المقام الأول صراعاً طبقياً، فبطل بولانسكي يجد خلاصه “جينياً”، وبما أننا بدأنا بقصيدته عن أبيه، فإنه ينتهي إلى أن أبيه المسالم الذي طحنته الحياة يتحدر من سلالة “الفايكينغ” ولهذا جاء هو إلى هذا العالم ممتلئاً بعزيمة القتال والبراعة فيه: “أجدادي (..) كانوا يصارعون البحر/وأمسى الصراع جيناً/ واستولى على أوراحهم.”

وهذا الحل “الجيني” يجد سكينته في النسل أو السلالة الوراثية، فالقصيدة التي ينتهي بها الكتاب، يكون البطل فيها رفقة حفيدته التي تأخذه إلى متحف فيقع هناك على لوحة تصوّر الملاكمين الإغريق، كما ليقول لنا إنه سليل هؤلاء، وما حفل به الكتاب من انتصارات وصخب وصراخ وعنف يتهادى ويسكن عند هذا الاستسلام لمشيئة غيبية، ومركبة تركيباً لتضرب بعرض الحائط كل شهدناه في الكتاب من واقع وحياة وصراع.

*****

خاص بأوكسجين