سيرة مُحتملة لجنرال متقاعد
العدد 258 | 17 تموز 2020
محمود عبد الدايم


ثلاثة أشهر انقضت منذ الحادثة.. وأزيد عليها تسعة عشر سنة مرت على تلك اللحظة القذرة التي أمسكت فيها قرار تسريحي من الخدمة.. لم أكن جيّدًا في حياة التقاعد خلال سنواته الأولى.. غضبتُ.. حطمتُ فكَّ زوجتي.. ضربتُ الخادمة.. أشعلتُ النار في باب جاري المشاغب.. وبعدما هجرتني زوجتي.. رحلت الخادمة.. وأجبرت – مستخدمًا علاقاتي القديمة – جاري المشاغب على مغادرة منزله.. واكتفي الآن بالبقاء أغلب ساعات اليوم في الغرفة التي أكتب في إحدى زواياها الآن ما حدث منذ سنوات طويلة.

 تسعون يومًا، منذ تركت ساقي ترقد وحيدة هناك، بعدما قطعها الطبيب خوفًا من انتقال المرض إلى بقية جسدي.. قطعها وهو يتمتم «عجوز مثلك لماذا يحتاج لأقدام من الأساس؟!»، لا أعرف كيف توصل الطبيب الحقير إلى نتيجته التي لا تقل عنه حقارة، وإن كان صحيحًا عدم حاجتي لأقدام، فلماذا أوصاني بـ«عكاز حديدي»، يرقد الآن على مقربة خمس خطوات مني؟ لماذا حرمني من متعة البقاء على مقعد متحرك؟ أدفع عجلاته فيحلق بي إلى السماء.. كان يريدني قعيدًا.. وأصبحت قعيدًا يروي الحقيقة!

داهمني شعور بالوحدة بينما كنت أتابع ثلاثة عمال يعملون بلا مبالاة على دفن ساقي؟! مؤكد لم يسمعوا الصرخات التي اخترقت أذني.. الدماء التي رأيتها تتحدى اللون الأبيض،  كانت واضحة، تتحدى الجميع، في الناحية التي انفصلت عن جسدي.. لمحت الإصبع الأكبر، الذى كان يومًا إصبعى الأكبر، يتحرك.. أخبرت المسؤول عن مراسم الدفن بما رأيته.. أزاح يدي من على كتفه بخشونة كريهة.. دقق النظر في  عكازي الحديدي.. وغمغم بكلمات لم أفهمها.. «بالطبع.. يشتمني.. يتهمني بالجنون.. يريدني ألا أكون حاضرًا في المشهد الجنائزي.. يريد أن ينهي الإجراءات.. لو كنت غائبًا لألقى ساقي ربما في المجاري.. البحيرة.. أتركها للكلاب تتصارع على قطع لحمها الطرية.. ويجعلها يتيمة مثلي.. مشردة.. وحيدة».

لا أعرف.. لم أظن يومًا أنني سأكون هنا بلا ساق.. طوال سنواتي الماضية ظل يلاحقني إحساس أنني أقرب إلى فقدان البصر.. العمى.. منذ سنوات طويلة أنتظر اللحظة التي يتحول فيها كل شيء إلى الأسود.. يدي.. قدمي.. وجهى في المرآة.. زوجتي.. أصدقائي.. طرقات البيت.. الشارع.. الحي.. المدينة.. العالم.. كل شيء أسود.. لكنني.. لم أصبح ضريرًا، وحظيت برهان خاسر جديد.. وساق يؤلمني فراقها.. وعكاز حديدي وقح يرقد إلى جانب سريري.. مكتبي.. قاعدة الحمام.. عكاز يحدد خطواتي.. طريقي.. ومستقبلي.. كيف سأعيش مع هذا الحجم الهائل من سخرية الحياة هذا..كيف؟!

«تصلب في الشرايين» أفقدني ساقي.. أوجاع قليلة بدأت تجد طريقها إلى أصابعي.. تنميل مستمر إذا طال جلوسي لأكثر من عشر دقائق.. عشر دقائق كانت تدخلني إلى جحيم من الألم.. أذكر.. مرات عديدة شتمت ساقي.. لعنتها.. حلمت كثيرًا أنني أذبحها.. أبترها بيدي، أطوحها عاليًا وألقي بها في المحيط.. كانت المياه التي تسقط فيها الساق حمراء.. الدماء في كل مكان.. الرمال حمراء.. الأحجار حمراء.. الساق تسقط في محيط دموي، وفي كل مرة كنت أصحو لأجدني أحضنها بقوة.. أمرر يدي عليها برقة.. أدللها كطفل عاد لحضن أمه بعد ساعات من الغياب.. كل مرة كنت أحن إلى الساق.

لا أعرف كم السّاعة الآن.. الثالثة ربما.. الرابعة.. الرابعة وعشر دقائق.. الظلامُ حاضرٌ خارجَ نافذتِي.. الحشراتُ الليلية لا تزالُ تستمتِع بسطوتِها.. أشعر أنها تنعق بأصواتها الوقحة لمكايدتي.. بل أظن أنها تعلم جيدًا أنني لا أطيق الضوضاء.. وفي المقابل، الكائنات القذرة هذه تصنعها بحرفية قاتل محترف.. تنعق.. وتنعق.. وتنعق.. وأنا أتقلب هنا في فراشي البارد، الخشن، أحلم بالضوءِ.. سنتيمتر مضيء ينقذني من معركة «النعيق القاتل» هذه.

أصبحت وحيدًا.. متقاعدًا.. قعيدًا.. في أحد الصباحات الشتوية التي أكرهها، داهمتني فكرة الخلاص، قررت – ولأول مرة – مخالفة الأوامر، في اللحظة التي سمعت صوت «السيفون» يفرغ مياهه لإخفاء فضلاتي، قررت إفشاء الحقيقة.. أردت مشاركتهم الحكاية كاملة.. التفاصيل.. لن أكذب عندما أقول إنني ابتسمت.. ضحكت.. أنصت مستمعًا لصدى صوت ضحكتي بعدما مرَّ على أنحاء الحمام الأربع، بعدما رأيتني أمنح الشعب رحلة مجانية إلى الماضي.

«سأمنحهم جرعة كاملة من الخراء الثوري.. عليّ أن أرد إليهم نصيبهم من القذارة.. سأعطيهم ما لم يتجرأ أحد من قبل على إعطائهم إياه.. سأطعمهم أحلامهم مغموسة بالخراء، الخراء ولا شيء آخر على القائمة.. فقط الخراء.. أدرك أنهم يستحقونه.. كأطفال يصرون على السباحة متجاهلين بتعمد طفولي لافتة (احذروا التماسيح) ويحلمون أن يستمتعوا دون أن ينقصوا واحدًا أو أن يخرجوا بأطراف مبتورة، أغبياء.. سبحوا على شواطئ ظنوا أنها تلامس أرض ثورتهم.. كتموا أنفاسهم وغطسوا تحت الماء.. وعندما خرجوا إلى السطح وجدوا الخراء في كل الزوايا.. خراء على المدى البعيد.. خراء فوق الرأس.. خراء يغطيهم.. سأدعهم يلوكونه، يمضغونه حتى يصابوا بالتخمة.. بالقرف.. سأدعهم يشاركونني الوجبة التي أجبرت على أكلها طوال سنوات وسنوات.. على الإفطار والغداء والعشاء.. فليستمتعوا بخراء ثورتهم».

«فلتحيا ثورة الخراء.. تحيا.. تحيا.. تحيا».. بنبرة حادة صارمة من تلك التي كنت ألقيها على مسامع جنودي في ميادين التدريب، قلتها، ومنحت علمًا وهميًّا تحية مهيبة يستحقها، بينما أستند على الحائط محاولًا منع «الكلوت» من السقوط وترك مؤخرتي العجفاء.. العظمية.. الضامرة، فريسة سهلة للسعات الهواء البارد الذي فشلت في منع تسلله من الفتحات الضيقة في جدار البيت الخلفي..!

في الأيام الأولى.. رفضت مراكز الشرطة الرئيسة التدقيق في البلاغات المتتابعة التي تلقتها من النقاط الأمنية في الأماكن النائية.. قائدها أعلن أن ما يحدث لا يستحق النظر إليه، وقال: «الرعاع سيظلون رعاعاً.. يغضبون مع طلوع الشمس، وفي المساء يضاجعون زوجاتهم بحقد.. وكأن غرف نومهم – إن كانوا يملكون واحدة- أرض معركتهم الأبدية.. ولا معركة ثانية يمكنهم خوضها.. وإن قرروا سيخسرونها كعادتهم».

لم تكن البلاغات وصلت بعد إلى المرحلة التي تستدعي إعلان حالة الطوارئ، النزول إلى الشارع لضبط الأمن وإعادة الهواء نظيفًا.. «تجاوزات قليلة تسمح بها قوانيننا.. إنها الحرية التي منحناها للشعب.. لعله يُحسن استخدامها».. بصدق وعيون ثابتة، خالية من أي شعور، ركزها قائد في منتصف العدسات المسلطة على وجهه قال الجملة هذه، وأعطى ظهره للكاميرات وعاد ليكمل كتابة التقرير اليومي.

«الأوضاع تحت السيطرة.. لا داعي لرفع الأمر إلى القائد الأعلى».. رسالة بريدية مررها باعتياد آلي إلى قادة الأفرع في مديريات البلاد.. وعاد ليكمل اللعبة الإلكترونية التي وصل إلى مستويات عُليا فيها، بعد فشلٍ في المرور من مستواها الأول طوال أشهر الصيف الماضي.

أعداد البلاغات تزايدت.. انفجرت.. المخالفات بدأت تزحف ناحية أطراف العاصمة.. خيوط الدخان الهاربة من النوافذ نصف المغلقة لم تعد خافية عن أحد.. الأعين لم تُخطئ في ملاحظة ارتفاع معدلات تمزيق العلامات الإرشادية والتحذيرية التي سنّتها وفرضتْها السلطات منذ سنوات عشرٍ مضتْ.

 « لا.. للتدخين».. الأيدي اكتسبت مهارة ملحوظة في إزالة «لا» من اللوحة الإرشادية.. ليس هذا فحسب، لكن سيجارة محترقة كانت تترك إلى جوار كل ملصق تتلفه الأيدي الغاضبة.

شكاوى القيادات بدأت تجد طريقها في البريد اليومي الذي يُرفع إلى القيادة الوسطى، البوابة قبل الأخيرة، التي تمنح الأمور المهمة إذن العبور إلى الجهة الثانية من الباب الأزرق، باب القائد الأعلى، طوال الأسابيع الأولى لم يكن هناك ما يستدعي قرع الباب الأزرق، معدلات الجرائم هي الأجدر بالمتابعة.. القتل.. الخلافات الدموية.. الانتقام.. الدم.. من أجل هذا فقط تلامس الأيدي بطرقات خفيفة الباب الأزرق.. ثلاث طرقات.. لم تكن يومًا واثقة.. على الدوام ظلت مرتبكة.. قلقة.!

العجائز تصدروا طليعة التمرد الذي شهدته البلاد.. أظنهم كانوا يحاولون إصلاح ما أفسدوه في شبابهم بمباركتهم ثورتنا، أصبح عاديًا أن تقع عيناك على عجوز يجلس في ركن هادئ.. مستريحًا متكئا على مرفقه الضامر، مستمعًا بمذاق سيجارة  يشق دخانها طريقه إلى السماء دون أن تعترضه حواجز أو توقفه لجان تفتيش.. سارحًا في ذكريات النيكوتين الذي حاولت القيادة الجديدة محوها منذ عشر سنوات، بقوانين الحفاظ على البيئة والصحة والاقتصاد، وما هي إلا لحظات، وتلمح الأفق ملطخًا باللون الأسود، السحابة الرمادية التي تصنعها «سيجارة العجوز» تدحرجها بعيدًا الأنفاس الساخنة لرجال الدرك.. لطالما لاحظت أن أقدامهم لا تشبه بقية أقدام الشعب.. ودومًا كانوا يخلّفون وراءهم أثرًا يدلُّ على أنهم مروا من هنا.. أثرًا قريب الشبه بما تتركه السيارات المسرعة في محاولات قائدها لتفادي الاصطدام بعجوز خانته حاسة السمع في الإنصات لأصوات التحذير، أو دهس قطة شاردة كانت تبحث عن ركن مظلم تبيت فيه ليلتها.

سُحُب الدخان الهاربة من النوافذ بدأت تعلو في سماوات الجلسات النسائية.. الجدة العجوز صاحبة الفم الأدرد تجمع جاراتها على عتبة بيتها وقت الغروب، توزع عليهن سجائر بـ«نكهة الشيكولاتة»، أخبرتهن أن ابنها تمكن من إدخالها البلاد في رحلة عودته الأخيرة من البلاد التي لا تزال لا تخشى على صحة مواطنيها، أكثر من منحهم لحظات مؤقتة للسعادة.

لم تستطع الشرطة السرية ولوج إلى جلسات نساء المدينة.. اختراقها، أصبحت  وجوه العناصر النسائية كروتًا محروقة لا تصلح للاستخدام في لعبة جديدة، ولم نكن نمتلك الوقت الكافي للاستعانة بوجوه غريبة لم تحفظ ملامحها سيدات المدينة، فقبل أشهر من اندلاع «تمرد التدخين»، تزايدت معدلات الشكوى من فشل العناصر  في السيطرة على التظاهرات النسوية الغاضبة، لا تزال البلاد تذكر المظاهرة التي أوقفت المرور في منطقة «وسط العاصمة».. بعدما خرجت النساء يرفعن «حمالات الصدر» فوق رؤوسهن، احتجاجًا على تجاهل السلطة مواجهة جرائم التحرش والاغتصاب.. يومها.. لم تتوقف عدسات الكاميرات عن التقاط حلمات نافرة، وأخرى غير متناسقة.. حمراء.. وردية.. بُنية.. ألوان كثيرة تراصت إلى جانب أثداء مترهلة.. والأحجام – كالعادة –متفاوتة..!

الصُحف الحكومية التزمت الصمت.. لم تنزل إليها التعليمات بالحديث عن المشكلة، صحف المعارضة حاولت قطع خيط «الخرس»، تحدثت عن بلاد ما وراء البحر التي تحاول إمساك العصا من المنتصف بحظر التدخين في بعض الأماكن، وإتاحتها في أماكن أخرى.. قدمت الحل المؤقت للسلطة.. غير أن الأخيرة أصابها العمى فلم تقرأ.. ولن تقرأ!

المراهقون كانوا أشد ثورية من العجائز والآباء، فطنوا إلى تحركات القوات.. فتحركوا في جماعات.. توقفوا أمام أبواب المنشآت الحكومية المُحصنة.. أشعلوا سجائرهم.. تركوا دخانهم يصعد متمهلًا حرًا في السماء.. رافعين شعارات «التدخين.. حرية».. واجهوا فرق التدخل السريع بالقداحات المشتعلة.. أعواد الثقاب المستعملة.. ألقوا على القوات التى جاءتها الأوامر بتفريقهم، آلاف وآلاف من أعقاب السجائر قبل أن يتبعثروا سريعًا في الشوارع الجانبية ومداخل البيوت التي فتحها أصحابها للمتمردين الصغار.

أخيرًا.. الرسائل التي امتلأت بها صناديق بريد كبار قيادات الدولة دفعت مجلس الحكم للاجتماع.. القائد كان غاضبًا – وإن كان لم يره أحد يومًا على غير هيئة الغضب هذه- وجه كلمات قاسية إلى مساعده الأول، ألقى في وجهه بـ 12 رسالة، كل واحدة تحمل عُقبا ملطخا بأحمر شفاه فاقع اللون، أزاح المساعد الأول ثلاثة أعقاب علقت بـ«رتبته العسكرية» فوق كتفه، وعُقبا رابعا تعلق بواحد من النياشين الخمسة التي يُزين بها بدلته العسكرية.. ولم يقل شيئًا لتهدئة قائده وصديق طفولته.. مكتفيًا بترديد غمغمات غير مفهومة، وتلويحات واهنة من يديه.. ليعم الصمت بعد ذلك غرفة الاجتماعات الكبرى في مقر القيادة.

ثلاث سنوات.. الموت أصبح خلالها الأكثر حضورًا في جميع أنحاء البلاد.. الجثث في بعض الأحيان كانت تترك لأيام طويلة حتى تتعفن، دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها، مجلس الجنرالات قرر الضرب بقبضة من فولاذ.. الأبواب صارت مُشرعة.. مكسورة.. مفتوحة، البيوت أصبحت – بقوانين الطوارئ- مباحة لأفراد الأمن.. في وضح النهار يهجمون بالمئات على أحد الأحياء.. يغلقون المداخل.. يطلقون رصاصات حية في الهواء.. سحب دخان «قنابل الغاز» حجبت ضوء شمس أغسطس.. غير أنها جعلت الجو خانقًا.. العيون زال منها بياضُها.. الأحمر الدموي كان حاضرًا.. غريب أمر السلطة.. تستخدم الدخان لتحارب الدخان.. تطارده في المنازل والنوافد والزوايا المظلمة وتطلقه في الميادين!

كانت السنوات الثلاث تلك كافية لأن نحتفل بعد مرورها بـ«إنهاء التمرد».. وضعنا أحذيتنا من جديد على أرض ثابتة.. ضغطنا بقوة على رأس ثورتهم.. على خدها الأيمن.. لم تُدر لهم الأيسر.. لكننا قلبناها.. أزحنا الأغطية جميعها عن جسدها.. وصنعنا منه تمثال وضعناه في الميدان الذى يطل عليه مقر مجلسنا الرئاسي.

 «لا للتدخين» أصبحت أكثر من مجرد قانون.. شعارات.. لوحات إرشادية.. تحول الأمر في غضون السنوات إلى ما يشبه «النصوص المقدسة»، الطوارئ التي فرضتها السلطات جعلت أوامرها.. تحذيراتها.. لم يكن هناك مكان للنصائح، دينٌ على الجميع اتّباعُه، ومن شاء أن يكفر بالدين الجديد فمصيره الموت.. قنصًا.. شنقًا.. حرقًا.. خنقًا.. كانت السلطة تتفنن في اغتيال الأصوات الغاضبة، التي خفتت بمرور الأيام.. الأسابيع.. الأشهر.. السنوات.. لتعود الأمور إلى ما كانت عليه وأكثر قليلًا!

«الظِلال» فقط كانت تكتب لها النجاة من رصاصات «القناصة» الذين قررنا نشرهم في زوايا المدينة المرتفعة.. العدسات تدور في الأفق.. تلمح الظل.. تتبعه.. تبدأ من الرأس.. الصدر .. الأرجل.. وعندما تصل إلى الأقدام تعاود الصعود.. تصعد.. وتصعد.. وتواصل الصعود.. حتى تقف في النقطة المميتة.. منتصف الجبهة.

 مكافأة خاصة تُمنح لمن تستقر رصاصته في منتصف رأس مواطن متمرد.. وتتراجع قيمة المكافأة كلما ابتعدت الرصاصة عن المنتصف (النقطة القاتلة).. لم يكن مسموحًا باستهداف أي جزء آخر سوى الرأس.. التعليمات واضحة: «لا تطلقوا النار على الأعين.. الوجه.. الصدر.. بين الأرجل.. لا تهدروا الرصاصات في محاولة هناك شك في أنها ستكون فاشلة»..!

«لنطلق عليهم المجانين العاهرات.. إنهم يستحقون ذلك، ولنخرج إليهم الذين تعفنت مؤخراتهم من الجلوس على مقاعدهم الوثيرة في دور العبادة، يأكلون ويعبدون ويأكلون ويمرحون.. على الجميع الذين شملتهم حمايتنا ورعايتنا طوال السنوات الماضية أن يخرجوا.. عليهم أن يردوا الدين إلينا.. تكفي سنوات الكسل.. كروشهم انتفخت.. وجيوبهم أصبحت كمؤخراتهم ممتلئة متخمة.. المجانين.. العاهرات.. لنطلقهم في الشوارع وسترى يا سيدى النتيجة.. سترى.. أعدك يا سيدي سينتهي أمر تمردهم قريبًا».

أذكر أنني أزحت مقعدي جانباً، بعدما لمحت اهتمام السيد القائد بكلماتي، تحركت ثلاث خطوات للأمام، اقتربت كثيرًا، أكثر مما كان مسموحا لي – ولمن هم في رتبتي العسكرية – الاقتراب، أصابتني الدهشة للحظات، فالسيد القائد ينصت إلى حديثي، يهز رأسه موافقًا على كل كلمة تخرج من فمي، وعيون بقية الجنرالات تخترق بذلتي العسكرية.. بعضها حط بحقد على نياشيني.. تحسدني على الوضع الذي أصبحت فيه، والبعض الآخر – قطعًا- بدأ يضع سيناريوهات أيامي المقبلة، ترقية جديدة، نيشان جديد، سنتيمترات قليلة بالقرب من السيد القائد، وامتيازات نمررها لأنفسنا من تحت الطاولة، طاولتنا نحن فقط..!

«لا ثورة إلا ثورتنا».. أكملت: إنهم مجموعة من الهمج، الأغبياء، الموتورين، لا تظنوا يا سادة أنه من الممكن أن يبتعدوا أكثر من الأمتار التي حصلوا عليها، هم يعرفون ذلك، بل يؤمنون به، إن كان هناك معنى للإيمان في حياتهم، الوقت حان لأن نتصدى لهم، لن نضربهم بالهروات، فجنودنا أرقى من أن ندخلهم في معركة كهذه، وكلابنا هي الأخرى لن تستسيغ لحمهم القذر، كما قلت لك، العاهرة لا تغلبها إلا عاهرة، والمجنون لا يقهره إلا مجنون، ورجل الدين – وأفلتت مني ضحكة، تعرفون أنتم المهمة الملقاة على عاتقه، وإن كنا لم نعد في حاجة إليه.. لكن وجوده دائما لا يضر، طالما يقف في صفنا، وإلا..!

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر.