يومها.. اكتشفت أن ابنتي ذات السنوات الست تمتلك نفس حاستي تجاه البشر، هزت يدي بعنف يناسب سنوات عمرها، أشارت بيدها الأخرى ناحية سيارة سوداء متهالكة، واقتربت من الباب الأمامي وتوقفت.
رحلتنا الصباحية إلى مدرسة ابنتي متعبة بعض الشيء، نحاول كسر حدتها بالحديث الجاد أحياناً، بالقبلات الهوائية، الأحضان الدافئة، أو “توضيب مقلب” جديد يكون كافياً لأن تخرج من زوجتي ضحكة عالية بعض الشيء تفقدها –لثوان– بعضاً من وقارها المتزن.
في العام الدراسي الأول لها، كانت الأمور تسير وفق ما أرى، نلحق بـ”مترو مزدحم”، أحملها فوق كتفي، أترك شنطتها لجاري في المقعد، أمنحها قبلة على استحياء، أودعها بهدوء أمام باب فصلها الدراسي، وأحصي الساعات المتبقية حتى ميعاد الخروج، لتبدأ رحلة العودة الصامتة، فهي تفضل استعادة ساعات نومها المهدورة بـ”فعل مواعيد المدرسة”، وأنا أمارس دور المانيكان الصامت، أتركها تلعب مع الملائكة وأتابع حجم انتفاخ جفونها والهالات السوداء التي بدأت تظهر تحت عيونها.
في إحدى الزيارات المتكررة لطبيبها، أخبرني أنها تعاني من نقص بعض العناصر، أوصى بـ”عسل أسود”، ووجبة إفطار جيدة، والتأكد من حصولها على أكثر من 9 ساعات نوم متواصلة، تعليمات نفذتها حرفياً، إلا الأخيرة، لم أسمح لها بالساعات المتواصلة من الغياب، أوقظها خلالها أكثر من مرة، أهمس لها في أذنها بأنني أحبها، فترد على اعترافي هذا بصوت طفولي ناعس “وأنا كمان”.. وتعود لملائكتها الذين يلهون معها في حديقة الرب.
لم أتوقف عن تناول العسل الأسود معها يوماً.. لم تكن تحبه -فأنا لم أكن أحبه- لكن الغريب أن الهالات السوداء لا تزال واضحة لـ”عين أمها”، ونضارة طبيبها، في حين انشغلت أنا بمتابعة عملية وضعها لـ”زبدة الكاكاو الحمراء” كل صباح باحتراف.. كنت أتدخل في البداية بمنديل ورقي لتهذيب اللون الذي تمرد عن مساره، وتحديداً في شفتها العليا، ومع الأيام أتقنت هي وضع “زبدة الكاكاو”، واكتفيت من جانبي بـ”منديل قديم” أحتفظ به في محفظتي عليه آثار أحمر شفاه امرأتي المفضلة.
مذهلة ابنتي في تفاصيلها.. جرجرتني إلى العربة المتهالكة تلك، لأطالع وجه رجل عجوز، في السبعين من عمره، فتح لها الباب المجاور له، ومنحها ابتسامة رائقة.. وتركني معلقا بـعبارة”اتفضل يا ابني”.
عود “ريحان” استقر بين يديها بعدما نجح العجوز في المحاولة الثالثة من تشغيل موتور سيارته العجوز.. منحها تحية الصباح بطريقته، ورمى بـ”خيط الحكاية” بين يدي، قال:
“إحنا فى شهر اتناشر ولسه الشتاء مجاش”.
أحب الشتاء كثيراً، لكن محبتي تلك، تتوقف عند شاشة التلفزيون، عندما أتابع ندف الثلج تتساقط على رأس “أنجلينا جولي”، ممثلتي المفضلة، وأقدامها تزداد روعة في “البوت الأسود”، وفخذاها يتذمران من البنطلون الضيق.. أكره الشتاء في بلادي، فلا توجد ندف ثلج، ولا أشغل بالي بمتابعة ألوان “البوت”، ولا أعطي لأمر البنطلونات –أيا كانت الألوان- أي اهتمام، فابنتي تراقب كل نظراتي..!
“عارف يا أستاذ”.. قالها وصمت ثواني لمتابعة الأرقام الخضراء التى تعلو شاشة إشارة المرور، “زمان كنا بنلبس بلوفر كت من نص تسعة، والشتاء كان ذمته مظبوطة، كانت المطرة مش بتبطل .. دي خير .. اوعى تكون زي الناس اللي بتقول دي شر”.
ألقيت عينيّ خارج حاجز السيارة، بعدما دفعت بأنفي –قدر المستطاع- خارجها، فرائحة السولار المسيطرة على الموقف تصيبني بصداع مزعج.. اصطدمت عيوني بنيل “كوبري الجلاء”، تساءلت ابنتي: “ليه شكل الميه بُني”.. قبل أن أُلحق ابنتي بالمدرسة الحكومية تلك، كانت تتحدث الإنجليزية أفضل، كانت تقول “براون”، لكن عاماً واحداً فقط في مدارس بلدي أعادها لـ”البُني”.. ابتلعت خيبتي في صمت، وحكيت لها عن “مياه السيول”، والأزمة التي حدثت هناك في مناطق قريبة من بلدنا في الصعيد، ولم أنتبه إلى العجوز وحديثه، إلا عندما زغدني برفق في جانبي وقال: “جيرانا التلاتة ضحكوا عليا أنا والمدام.. كنا فاكرينهم جايين يشكرونا.. بس بهدلونا بالأدب”.
بيد مرتعشة التقط صفحة قديمة من صحيفة أقدم، قدمها لي، وقال: “ده اللي حصل”.. صورته كانت هنا أجمل، الألوان لم تظهر سنوات عمره على حقيقتها، يجلس على طرف “فوتيه”، وبجواره تجلس امرأة يبدو أنها تصغره فى السن بسنوات عشر .. تضبط حجابها، المصور التقط لها الصورة على هذا الوضع، ركزت في ملامح المرأة كثيراً.. مريحة جداً كانت نظرة عيونها.. يدها ثابتة في الصورة، تمنيت لحظتها أن أمتلك المقدرة على تثبيت كل الأيدي المرتعشة بـ”تكة زرار الكاميرا”.. لا يهم سأمتلك يوماً كاميرا، وأمنح الجميع صورة بالألوان، جميلة.. ثابتة.. ومبهجة أيضاً.
عيوني قفزت فوق السطور، اكتشفت أن زوجته وجدت نصف مليون جنيه في كيس أسود أثناء رحلة تسوقها الصباحية، لم تشأ أن تخبره حتى لا يترك دوره في السيارات المنتظرة أمام محطة مترو الأوبرا، فهاتفت ابنها، وأخبرته بالحكاية على مهل.. الابن الأكبر كان كأبيه، أخبرها أن تبقى حيث هي.. خلال ساعة كانت تتأبط ذراعه أمام بوابة قسم شرطة العجوزة، وقتها.. اكتشفا أن الشنطة البلاستيكية بها هاتف بجوار الفلوس، رنة رتيبة أوقفتهما.. جاءهما صوت متهدج من الجانب الآخر، دون أية مقدمات، قدم الشكر لمجرد أنهما ضغطا على زر استقبال المكالمة، وأكمل حديثه دون انتظار رد “والله الفلوس دي بتاعت شغل.. وأنا مستعد أديكم النسبة اللي تطلبوها بالقانون”.
“إحنا فى قسم العجوزة.. تعال استلم فلوسك هناك”.. جملة واحدة قالها الابن، وأغلق الهاتف، دقائق عشر مرت، ودخل القسم رجل خمسينى، عرف المرأة وابنها من أول وهلة، قدم لهما الشكر، منحته الكيس الأسود والتليفون ذا الرنة الرتيبة، ورفضت أن تأخذ منه شيئاً.. تخلى الرجل عن وقاره.. انحنى نصف انحناءة منح يدها المهتزة قبلة طويلة.. ورحل.
أسبوع كامل مر، لم تسحبني ابنتي إلى السيارة العجوز تلك، كانت دائماً منشغلة بمراجعة الأحرف الجديدة التى أضافتها لها مدرسة العربي، تكرر بنعومة لا تتناسب مع الألمانية معنى كلمة “أتوبيس”، في البداية كنت أمنحها قبلة عندما تقول ” Bus بوس”.. وعندما اكتشفت الملعونة أنني أطالبها بمعرفة معنى أتوبيس بالألمانية لألمس خدها المتورد، اكتفت بأن تتلو على مسامعي ماذا يعني قرد (Affe) وكتاب (Buch) وشجرة (Baum) وتفاحة (Apfel) بالألمانية، وعندما يأتي ذكر الـ “Bus بوس”، تقولها وتنفلت مسرعة من بين يدي قبل أن أصيبها بقبلاتي الطفولية وتدغدها شعيرات ذقني المزعجة.
صباح الثلاثاء.. لمحته أنا هناك.. توقفت عند الدرجة الأخيرة من سلم المترو، ألقيت نظرة مسرعة ناحية ابنتي، لم تلمح طيف السيارة حتى الآن، مشغولة كانت بالاطمئنان على بقاء “اللون الأحمر” فوق شفتيها، والتأكد من نظافة “الباليرينة” التي تولت عملية تنظيفها هي، سحبتها برقة إلى السيارة، تخطيت الرجل العجوز، لم يلمحني ولم يحرر يديه من عجلة القيادة، التزم بنظرته المنضبطة للأمام، من الوهلة الأولى لمطالعة النظرة تلك من الممكن أن تفكر أنها دقائقه الأخيرة في العالم، تجاوزت مقدمة السيارة.. ابنتي تضبط وشاحها الوردي، تركت الباب الأمامي خلفي، ابنتي لا تزال خارج إطار الصورة، وعندما ارتكنت بيدي على “شنطة العربية”، عُدت.. فتحت الباب الخلفي، ألقيت بالشنطة المدرسية في هدوء.. ألقيت السلام، وتركت مسؤولية فتح الباب الأمامي لابنتي بعدما لمحت “أعواد الياسمين” تتراقص “فوق التابلوه”.
*****
خاص بأوكسجين