سويس آرمي مان.. حول الكبت والعزلة
العدد 206 | 07 شباط 2017
عمرو عاصم أديب


سيبدو هذا الفيلمُ للكثيرينَ غريبًا، غير مفهومٍ.. ومقرفًا. غير أنّه للمتعمّق جيدًا فيه وفي تفاصيله، سيبدو فيلمًا سيكولوجيًّا عظيمًا.. ذا طرحٍ مكثّفٍ وأفكارٍ فذّةٍ ومضيئة.

يقول الفيلمُ من حيث المغزى:

في النّهايةِ، من سينقذكَ فعلًا هو الكائنُ البدائيّ الحبيسُ فيك، هو ذلك الجسد الضّخمُ المخلوقُ من آلاف الرّغبات والدّوافع والضرورات اليومية والصّرخات السجينة والمشاهدِ المستحيلة والخيالات المستغرَبة.. التي اعتدتَ قتلَها كلّ لحظةٍ وكلّ يومٍ ثمّ الزّجَّ بها في أعتم أعماقك.

لقد أفرزت ظروفُ اجتماع القِشَر المخيّة البشرية كمًّا مرعبًا من القواعد والأحكام، وفرضت تعقيدًا حديديًّا على معظم الضرورات البيولوجية.. الأمرُ الذي أنتج آلية “الكبت” لدى الكائن البشريّ، وجعل منها شيئًا أساسيًا. لكنّ هذه الآلية الدخيلة – ومع تقدم العجلة الحضارية يومًا بعد يوم – استحالت إلى حاجزٍ رهيبٍ.. إلى سجّانٍ مفزعٍ مهمّتُهُ زجرُ الملحّات والحوافز اليومية ورميُها في ظلام اللاوعي.

ما يقولهُ الفيلم – بسورياليّةٍ صادمة – إنّ تلك الرّغباتِ العديدةَ المكبوتةَ هي في الحقيقة الأملُ الأخيرُ للإنسان، الإنسان الوحيد.. العاري.. التّائه.. واليائس.

فحين خذلتِ الحضارةُ هانك (بول دانو).. وألقت به بعيدًا في متاهة الوحدة والضياع (المُرمّز إليها بالجزيرة) بلا غذاء، بلا قوة، بلا أمل، حين أوشك على شنق نفسه بدافعٍ من اليأس والخيبة.. كانت جثة ماني (دانييل رادكليف) هي بارقةُ الأمل الوحيدة والأخيرة، وماني ما هو إلا جسد كل رغبات هانك وبدائياته وحيوانيته.. هو كل مشاهده المقموعة والمكبوتة.. هو ممثّل كلّ حوافز هانك وضروراته اليومية التي خبأها وقتلها.

عمِل هانك على إحياء ماني، ثمّ تعايش معه وتآلف، أصبح صديقَه الحميم ومع الوقت كسب ثقته وتحوّلا إلى ثنائيٍّ رائع.

عاش هذا الثنائي أجمل الأوقات في جزيرة الوحدة تلك، وجاء حلم الحسناء “سارا” (المقموع في أعماق هانك نتيجة الخوف والكبت) ليشكّل المنتهى الذي اتفقا على الصمود والكفاح في سبيله.

تُصاغُ ضمن سياقِ قصّةِ “سارا” الكثيرُ من المشاهدِ التي يتخيل فيها هانك أنه استطاع التحرر من خوفه وتحدّث إلى “سارا” أخيرًا.. ويُبرز السيناريو هنا ما ينطلق به ماني/البدائي غير عابئٍ بسطوة الأنا العليا وكيفَ يقمع هانك/المروّض جيدًا تلك الانطلاقات بخوفٍ وحذرٍ بالغَين.

في آخر الأمر استطاع هذا الثنائيّ أن يتغلب على الضياع والعزلة ويتوصل إلى بر الأمان، ولم يكن هذا ليحدث أبدًا لولا خوارق ماني، التي تعمّد الفيلم غرائبيتها الشديدة وأدهشنا بكوميديتها الفظّة في بعض الأحيان.

واجه مكبوتاتِك وتصالح معها، كي تتغلب على وحدتك وضياعك. هذا ما قاله الفيلم، برمزيّةٍ وإدهاشٍ متقنين..

ينضمُّ هذا الفيلم بجدارة إلى قائمة الأعمال التي استعملت السكيزوفرينيا للتعبير عن أفكارٍ وجوديةٍ عميقة ونجحت في ذلك نجاحًا مبهرًا.. وعلى رأسها fight club.

و لا بدّ لي من الإشارة إلى أن التقنيات الفجة الغريبة التي استخدمها الفيلم للتعبير عن فكرته – والتي ستبدو مضحكةً وسخيفةً للوهلة الأولى – كانت هي الطريقة الأفضل للتعبير عن فكرةٍ بذلك العمق.. ودونها كان الفيلم ليبدو ضعيفًا وناقصًا. لقد كانت تلك التقنيات، جوهريّةً كما الفكرة بحد ذاتها.

ختامًا، ربما كان ما قاله هانك لماني / ممثل مكبوتاتِه في بداية الفيلم هو الأكثر معادلةً لمضمون الفيلم وفكرته:

– ” أتعلم؟ تخيلتُ دومًا أنني قبيل موتي، سوف تومض حياتي كلها أمام عيني.. وسوف أرى أشياءً رائعة. حياةً مليئة بالحفلات والأصدقاء، وكيف تعلمت العزف على الچيتار مثلًا.. وربما ستكون هنالك فتاةٌ حتى. ولكن، عندما كنتُ على وشك الموت منذ قليل، لم أرَ شيئًا من كل ذلك.. بل رأيتُك.. رأيتُك أنت.

*****

خاص بأوكسجين