كنت وقتها مدمناً على مشاهدة أفلام الكاوبوي وكنت أظن أن كلَّ شيء في الحياة واضح وأنَّ لكل مشكلةٍ حلاً. لذلك فحينما أخبرني الرجل الهرم بـ”سرّ الصاد” لم أعره ما يكفي من الاهتمام. وكدت أن أنهض وأتركه يتكلم لوحده عندما سمعته يقول كان قد صرف عشرين عاماً من حياته محاولاً حلّ اللغز ولكن من دون جدوى.
أي مسألة هناك تحتاج إلى عشرين عاماً بل وعشرة أعوام وتبقى من دون حلّ؟ أي مجنون هذا! قلتُ لنفسي وكدت أتولى عنه ولكن الحياء منعني. فلبثت جالساً أتصنّع الاهتمام.
– نعم! لقد قضيت عشرين عاماً محاولاً اكتشاف سرّ الصاد. مضى الرجل الخائب الحظ قائلاً: “قرأت كتباً وزرت مدناً عريقة وقابلت علماء ورجال دين. قرأت العديد من المجلدات، عشرات من الكتب أوحت لي بأن باطنها ينطوي على سرّ الصاد.”
طبعاً أنت لا تعرف مضمون الكتاب إن لم تقرأه بتمعن. في الكتاب، أي كتاب، ولا أقصد بذلك الصفحات المطبوعة للكتاب وحسب، لا في الكتاب ككون، الكون الذي يثيره في مخيلتك، كتاب القارىء. ولعل هذه هي المشكلة بالتحديد. أقصد مصدر فشلي في النهاية..
ولكن ما فائدة الإصغاء إلى قصة تنتهي بالفشل؟ قلت لنفسي وتمنيت لو أن الجرأة تواتيني وأقول للرجل بأنه إنسان فاشل. ويبدو وكأن الرجل قد لاحظ ضيقي فقد سارع إلى القول:
“أرجوك دعني أكمل الحكاية.”
دعه يكمل! قلت لنفسي: “أكمل، أكمل يا صاحبي!”
-كنت أقول كتاب القارىء. نعم القارىء والكتاب. ولكل قارىء كتاب يختلف عن كتاب القارىء حتى وإن كان في الحقيقة الكتاب نفسه. لهذا فالواحد يحتاج الى قراءة الكتاب نفسه في أطوار مختلفة من حياته: يقرأه اليوم وقد يكون من الأجدى قراءته بعد عام أو عامين أو أكثر. لربما اكتشفت بأنك كان يجب أن تقرأه من قبل. الخلاصة أنه إذا لم تقرأ الكتاب في الوقت المناسب، أي في الوقت الذي يتوجب عليك قراءته، فإنك ستفوّت على نفسك فرصة الفوز بالمعنى الذي تطلب. ولكن كيف ستعرف متى ينبغي أن تقرأ هذا الكتاب أو ذاك من دون أن تقرأه؟
– سرّ الصاد؟ أحقاً هذا ما أنفقت عشرين عاماً محاولاً معرفته؟ قاطعته محاولاً أن أضع حداً لما بدا لي بأنه بمثابة مونولوج طويل. وقلت في سري: يا لك من أحمق! قصدته هو طبعاً ولكن للوهلة أحسست وكأنني أقصد نفسي. وفجأة أحسست بأن الأمور ليست واضحة أبداً، بل أنها غامضة جداً وأن من النادر حلّ أية مشكلة تنظر إليها نظرة سطحية فحسب. الحل الذي ستقدمه سيكون حلاً سطحياً، حلاً مؤقتاً فحسب. “يا لك من أحمق!” عدت أقول ولكن بصوت مسموع هذه المرة.
– ماذا تقصد؟ سألني الرجل وبدا مصدوماً لوقاحتي تلك.
– الصّاد هي الصمت والصبر. وجدتني أقول بصوت شخص يتكلم إلى نفسه: “أن نتعلم الصمت والصبر. أن نعرف متى نصمت ومتى نصبر؟”
– وكيف السبيل الى معرفة ذلك يا سيدي؟
– بالتجربة. لو كنت قضيت هذه العشرين عاماً تجرب الصمت والصبر لكنت تبيّنت الوقت المناسب لكل منهما.
– ماذا تقول؟
– أقول بأنك رجل مغفل.
– أنت لا تفهم الأمر! دعني أكمل، أرجوك!
– أكمل! قلت بنفاذ صبر.
– وهكذا قضيت الأعوام أقرأ المجلدات نفسها وكل مرة بمعانٍ مختلفة. ولكن أن أكتشف سرّ الصاد، أن أصل! لا.. ولم تكفِ الكتب. كثرت المعاني، ولكن كثرة المعاني كقلتها لا تقدم اجابات شافية. وشرعت في السفر. سافرت إلى مدن قديمة، مدن يعود وجودها الى ألف أو حتى ألفي عام. مدن قطنها علماء وحكماء ومرّ بها أنبياء، وفيها التقيت بناسٍ كثيرين من أصحاب عميق الحكمة وطائش الفكرة. أخبرني البعض قصصاً وأفشى البعض الآخر أسراراً، وأطلعني ثالثهم على مخطوطات نادرة عُثر عليها في صناديق مقفلة. غير أن أحداً منهم لم يعرف سرَّ الصّاد. بل والبعض منهم لم يسمع بسرِّ كهذا.
زرت مدناً والتقيت بشراً وقرأت مجلدات كبيرة ومخطوطات نادرة.. لكن لبث السرُّ سراً. وفي طريق عودتي خالي الوفاض خائب الرجاء التقيت بمتصوّف هندي. سألني عن أمري فأخبرته. وبدا العجب على وجهه: ألست بمسلم؟
أجبت بالايحاب.
– فلِمَ لا تقرأ القرآن؟ وسأل وقد أوشكت علامات الاعجاب على وجهه تتحويل تقطيبة غضب.
– قرأته وأنا صغير لكنني نسيت أغلبه الآن.
– ولِمَ لا تقرأه الآن؟ لِمَ لم تقرأه من جديد لعلك تجد السرّ الذي تبحث عنه في طواياه؟
– وهل أقرأه الآن؟ هل أقرأ كتاباً يتبعه جيراني الأغبياء وأقاربي المنافقين والشيوخ المتعصبين؟
– لا ذنب للكتاب بمن يتبعه. ثم ما أدراك بأن الكتاب الذي ستقرأه من جديد هو نفسه الذي قرأته من قبل أو الذي يقرأه كل من ذكرت؟
وتذكرت على الفور.
– ماذا تذكرت؟ “سورة ص”؟
-لا تذكرت كلمة صبي. كنت صبياً حينما قرأت القرآن. وتذكرت بأنني خلال العشرين عاماً التي قضيتها قد أهملت زوجتي وإبني، الصبي. اللغز هو الصبي ولم أعثر عليه بعد..
.. والآن فهمت لماذا تريثت لكي أسمع هذه القصة. هذه القصة التي كان ينبغي أن أقرأها الآن.
– ولا تعرف مصيره؟ أقصد الصبي؟
– لا أعرف مصير ذلك الصبي!
– لا بد وأنه رجل في منتصف العقد الثالث من العمر؟
هزّ الرجل الهرم رأسه وقد طفرت الدموع من عينيه.
– بل أنت السرّ!
– ماذا تقصد؟
لم أحرّ جواباً . . “إذا هذا هو الأحمق الذي هجرنا أنا ووالدتي ومضى باحثاً عن الحقيقة!” قلت لنفسي وجعلت أفكر بطريقة مناسبة للانتقام منه.
*****
خاص بأوكسجين