سرّ الشرّ
العدد 248 | 04 تشرين الأول 2019
روبرتو بولانيو


 

 

كولونيا ليندا فيستا

 

عندما وصلنا إلى المكسيك في العام 1968، نزلنا ضيوفاً على أحد أصدقاء أمي في الأيام القليلة الأولى. استأجرنا بعد ذلك شقة في كولونيا ليندا فيستا. لم أعد أذكر اسم الشارع الذي أقمنا فيه. أظن أنه يحمل اسم أورورا، لكن ربما اختلط علي الأمر، إذ أنني أقمت بضع سنوات في مدينة بلانس في إحدى الشقق في شارع يدعى أورورا أيضاً، لذا بدا من غير المعقول أن أكون قد أقمت في شارع آخر يحمل الاسم نفسه في المكسيك، رغم أن الاسم بحد ذاته لم يكن فريد زمانه، فكثيرة هي المدن التي تضم شارعاً يحمل هذا الاسم نفسه. وبالمناسبة ذلك الشارع المسمى أورورا في بلانس لم يتعدَ طوله العشرين ياردة، وهو أقرب إلى الزقاق منه إلى الشارع. أما ذاك الذي في كولونيا ليندا فيستا، في حال أن اسمه فعلاً أورورا، فقد كان ضيقاً لكن طويلاً ويضم أربعة مجمعات سكنية، وقد أقمنا هناك في العام الأول من إقامتنا المديدة في المكسيك.

 

المرأة التي استأجرنا الشقة منها كانت تُدعى يولاليا مارتينيز، وهي أرملة لها من البنات ثلاث ومن البنين واحد. شغلت الدور الأول من المبنى… مبنى بدا لي عادياً في ذلك الوقت، لكنني عندما أتذكره الآن أراه كتلةً من الشذوذ والأخطاء العجيبة الغريبة، فالدور الثاني، الذي يمكن بلوغه عبر ارتقاء سلم خارجي، والدور الثالث، الذي يمكن بلوغه عبر سُلّم معدني، أضيفا إلى المبنى بعد تشييده بوقت طويل، ومن دون تراخيص بناء على الأرجح. وهكذا بدت الفروقات صادمة، الشقة في الدور الأول تتميز بأسقف مرتفعة وفيها مسحة من وقار إذا جاز التعبير، وبالرغم من أنها قبيحة المنظر لكنها على الأقل بُنيت حسب مخططات عمرانية. الدوران الثاني والثالث كانا ثمرة التفاعلات الآنية بين حس يولاليا مارتينيز الجمالي ومهارات عامل بناء من أصدقائها. لم يكن السبب الكامن وراء هذه الجريمة العمرانية توفير شقق للإيجار وجني عائدات مالية منها وحسب، فقد حظيت مالكة شقتنا بأربعة أبناء، والشقق الأربع التي بُنيت في الدورين الإضافيين كانت بغرض تأمين سكن لهم لكي يقيموا بالقرب من أمهم عندما يتزوجون.

 

على أي حال، عندما وصلنا إلى هناك، كانت الشقة الوحيدة المأهولة في المبنى هي تلك التي فوقنا تماماً. بنات يولاليا مارتينيز الثلاث كنّ عزباوات ويعشن مع أمهن في الدور الأول. أما الابن، بيبي، آخر العنقود، فهو الوحيد المتزوج من ذريتها، ويقيم في الشقة التي فوقنا مع زوجته لوبيتا. كان بيبي وزوجته أكثر الجيران المقربين إلينا في تلك الفترة.

 

 

ليس هناك الكثير لأضيفه عن السيدة يولاليا، فهي امرأة قوية الإرادة حالفها الكثير من الحظ في الحياة، ولم يكن اللطف أو الدماثة من صفاتها، فأنا بالكاد عرفت شيئاً عن بناتها اللواتي حملن وسم “عوانس” حسب تقاليد وأعراف تلك الأزمنة الغابرة الرديئة، وتقبلن مصيرهن في الحياة بكل ما لديهن من رفعة وكياسة، وللحق لم يحتكمن على الشيء الكثيرمنهما… في أحسن الأحوال يمكن القول إنهن كن يتصرفن بطريقة توحي بإذعان قذر صبغ كل الأشياء التي تحيط بهن بصبغة مقيته، أو هكذا أتذكر تلك الأشياء بعدما تلاشت الآن من الوجود. فما من أحدٍ رأى البنات العوانس إلا في ما ندر، أو على الأقل لم أرهن سوى لماماً… كن يقضين جل وقتهن في مشاهدة المسلسلات التلفزيونية وفي القيل والقال والثرثرة بحقد على بقية نساء الحي اللواتي يصادفنهن عند البقال أو في ذلك المدخل المظلم حيث تبيع امرأة هندية هزيلة كهيكل عظمي تورتيلا الذرة.

 

بيبي وزوجته لوبيتا كانا مختلفين.

أمي وأبي، اللذان كانا أصغر بثلاث أو أربع سنوات مما أنا عليه الآن، أصبحا صديقيهما فور انتقالنا إلى المبنى تقريباً. أثار بيبي اهتمامي كثيراً، ودرج  صبية الحي على مناداته بـ “الطيار” لكونه طياراً في سلاح الجو المكسيكي. لوبيتا لم تكن سوى ربّة منزل، عملت قبل أن تتزوج سكرتيرة أو موظفة في إحدى المؤسسات الحكومية، واتسم كليهما بالمودة والروح المضيافة، أو ربما سعيا لذلك. كان والدَيّ يصعدان أحياناً إلى شقتهما ويمكثان هناك لبعض الوقت يستمعان إلى التسجيلات الموسيقية ويحتسيان بعض كؤوس الشراب. والدَيّ أكبر عمراً من بيبي ولوبيتا، لكنهما من تشيلي، وفي تلك الفترة كان شعب تشيلي يرى نفسه مثالاً للحداثة وروح العصر، على الأقل في أمريكا اللاتينية. فارق العمر بينهم عوضته تلك الروح الشبابية التي تسري في جسدَي من جلباني إلى هذه الدنيا.

 

أنا أيضاً كنت أصعد إلى شقتهما لكن في مناسبات قليلة. غرفة المعيشة (التي نسميها ليفينج) كانت عصرية إلى حد ما، إذ امتلك بيبي مشغّل أسطوانات من  الواضح أنه قد اقتناه حديثاً،  وعلى جدران وأخونة غرفة السُفرة عُلقت صور له مع لوبيتا، وصور للطائرات التي حلق بها، وهذا هو أكثر ما أثار اهتمامي لديه، إلا أنه فضّل عدم التحدث عن عمله، وكأنه يقوم بحماية أسرار عسكرية. معلومات سرية، كما يقولون في البرامج التلفزيونية في أمريكا الشمالية. أسرار سلاح الجو المكسيكي التي، وبكل صراحة، لم تكن تؤرق نوم أحد، ما عدا بيبي الذي سكنه إحساس مبالغ به بالواجب وشعور مفرط بالمسؤولية.

 

شيئاً فشيئاً، ومن خلال الأحاديث التي تدور على مائدة الطعام أو عبر تلك التي استرقت السمع إليها وأنا أحضّر دروسي، بدأت أكون صوّرة عن حقيقة الحياة التي يعيشها جارانا، فهما متزوجين منذ خمس سنوات وإلى الآن لم يُرزقا بأطفال، كما أنهما  يترددان بشكل منتظم على طبيب التوليد والأمراض النسائية، وبحسب الطبيب، فإن لوبيتا قادرة تماماً على الحمل والإنجاب. كما أظهرت التحاليل والفحوصات أن بيبي أيضاً لا يشكو من أي علّة تمنعه من التخصيب والإنجاب. العلّة، بحسب الطبيب، ذهنية. ومع مرور الوقت، بدأت والدة بيبي تمتعض وتتأفف لأن لوبيتا لم تمنحها أحفاداً بعد. ذات مرة فتحت لوبيتا قلبها لأمي وأخبرتها أن المشكلة تكمن في الشقة… لكونها قريبة جداً من حماتها. لو أنهما ذهبا للسكن في مكان آخر، على حد زعمها، لحبلت على الفور ربما.   

 

أعتقد أن لوبيتا على حق.

وثمة شيء آخر: بيبي ولوبيتا قصيرَا القامة، فأنا أطول قامة من بيبي ولم أكن حينها قد تجاوزت السابعة عشر من عمري. لذا أظن أن طول قامته لم يكن يزيد على 5.9 قدم، أما لوبيتا فلم تزد على 5.2 قدم.

كان بيبي داكن البشرة، له شعر أسود فاحم، ويرتسم على وجهه تعبير من لا يكف عن التفكير والتأمل، وكأن ثمة دائماً ما يعتمل في رأسه، فهو يمضي كل صباح إلى عمله مرتدياً الزي الرسمي لسلاح الجو،  أنيقاً مهندماً لا يشوب مظهره شائبة، ما عدا أيام العطل الأسبوعية، حيث يرتدي قميصاً رياضياً وسروالاً من الجينز ولا يحلق ذقنه. أما لوبيتا فقد كان لها بشرة فاتحة، وشعر مصبوغ بالأشقر، دائماً ما تراه مجعداً ، وهو شيء يتطلب الذهاب إلى مصفف الشعر للحصول عليه، أو أن تقوم به بنفسها بمعونة صندوق صغير، جلبه بيبي معه من الولايات المتحدة الأمريكية، يحتوي على كل ما يلزم لشعر المرأة من مستحضرات وأدوات. كان من عادتها أن تبتسم عندما تلقي التحية. في بعض الأحيان كنت أتمكن من سماعهما وهما يمارسان الجنس. كان هذا في الفترة نفسها التي بدأت أُظهر فيها اهتماماً جاداً بالكتابة وأبقى ساهراً لوقت متأخر جداً من الليل. بدت حياتي حينها مملة جداً بالنسبة إلي. في الواقع كنت مستاءً من كل ما يمت لحياتي بصلة. اعتدت مواصلة الكتابة لغاية الثانية أو الثالثة صباحاً، وعندها كانت تندلع التأوهات والأنات فجأة في الشقة العلوية.

 

في البداية بدا كل هذا عادياً. إذا كان بيبي ولوبيتا يرغبان في الإنجاب فمن البديهي أن يتنايكا. لكنني بعد ذلك سألت نفسي، لماذا يشرعان بذلك في وقت متأخر جداً من الليل؟ لماذا لا أسمع أي صوت يذكر قبل أن تبدأ التأوهات؟ طبعاً من نافل القول ان أذكر لكم أن معلوماتي الجنسية في تلك الفترة انحصرت بما أتلقفه من أفلام البورنو وما أتلقطه من مجلات السيكس. بمعنى آخر، كنت لا أعرف إلا المبادئ الأساسية، بل الحد الأدنى منها. لكن ما أعرفه كان كافياً لأدرك أنه ثمة شيء غريب يحدث في الشقة العلوية. بدأت أبهرح وأزخرف حياة بيبي ولوبيتا الجنسية في مخيلتي بإيحاءات غامضة وحركات مبهمة، وكأن ثمة مشاهد سادية مازوشية تجري أحداثها في الشقة العلوية… مشاهد ما كان بمقدوري أن أتخيلها بصورة كاملة، كما لم تكن قائمة على الأفعال المرتكبة لإثارة الألم أو المتعة، بل على حركات تمثيلية مبالغ بها يؤديها كل من بيبي ولوبيتا رغماً عنهما، حركات تسبب لهما تدريجياً بعض التشوش والاضطراب.

 

لم يكن شيء من هذا واضحاً للمراقب الخارجي. وتوصلت في الحال إلى نتيجة لا تخلو من الغرور مفادها أن لا أحد غيري قد لاحظ هذا. أمي، صديقة لوبيتا وبيت أسرارها إلى حد ما، أعتقدت أن كلّ مشاكل الزوجين يمكن حلها بالانتقال للسكن في مكان آخر. أما أبي فلم يبدِ أي رأي في الموضوع. بما أننا وصلنا حديثاً إلى المكسيك، فقد كنا منهمكين في استيعاب تلك الأشياء الجديدة التي تذهلنا كل يوم، ولم يكن لدينا الوقت لحل ألغاز حياة جيراننا السرية. عندما أفكر الآن في تلك الأيام، أرى والدَيّ وأختي، ومن ثم أرى نفسي، والمجموعة الصغيرة التي نشكلها عبارة عن شخصيات كئيبة حتى العظم.

 

على بعد ستة أحياء من منزلنا كان هناك سوبر ماركت ضخم اعتدنا أن نذهب إليه كل يوم سبت لنبتاع حاجيات تكفي منزلنا الأسبوع كله. وهذا شيء يمكنني أن أتذكره بكل تفاصيله. كما أذكر أيضاً أنني قد أُرسلت إلى إحدى مدارس Opus Dei “حبرية الصليب المقدس”. استغرقني الأمر أكثر من عام لأدرك أي مكان شيطاني هي تلك المدرسة. مدرّس مادة الأخلاقيات مثلاً كان نازياً لا يخفي انتماءه، الأمر الذي كان مستغرباً بالنسبة إلي، فهو رجل ضئيل من ولاية تشياباس له ملامح تفضح أصله، وقد ابتعث للدراسة في إيطاليا – شخص أحمق وفي جوهره لطيف، كان النازيون الحقيقيون سيحكمون عليه بالشنق خنقاً بالغاز بلا تردد لو أنه وقع في أيديهم– وآمن مدرّس مادة المنطق بالإرادة الحديدية لخوسيه أنطونيو (بعد ذلك بعدة سنوات انتهى بي المطاف بالعيش في جادة خوسيه انطونيو في إسبانيا). ولكن في البداية، مثلي مثل والدَيّ، لم أكن أعرف ما الذي يحدث في المدرسة.

 

بيبي ولوبيتا هما الشخصين الوحيدين اللذين أثارا اهتمامي… هما وأحد أصدقاء بيبي، أو بالأحرى صديقه الوحيد، وهو شاب أشقر الشعر، ويحمل لقب الطيار الأفضل في العام الذي أمضاه في الأكاديمية. شاب طويل نحيل تعرض إلى إصابة إثر تحطم طائرته الحربية، و تلك الإصابة قد منعته من الطيران إلى الأبد. كان يأتي لزيارته كل عطلة نهاية أسبوع تقريباً، وبعد أن يلقي التحية على والدة بيبي وأخواته، المتيمات به، يصعد إلى شقة صديقه ويمكث هناك يحتسي الشراب ويشاهد التلفاز بينما تقوم لوبيتا بإعداد العشاء. كان في بعض الأحيان يأتي في منتصف الأسبوع، وحينها يأتي مرتدياً زيه العسكري، وهو ما أجد صعوبة في تذكر تفاصيله الآن. يمكنني القول إنه أزرق اللون، ولكنني قد أكون مخطئاً، فإذا أغمضت عينَي وحاولت أن أستحضر صورة بيبي وصديقه أشقر الشعر، أراهما يرتديان زياً أخضر اللون، أخضر فاتحاً على وجه التحديد… طياران أنيقان وبجانبهما لوبيتا التي ترتدي بلوزة بيضاء وتنورة زرقاء (هي من كان يرتدي الأزرق إذاً!)

 

في بعض الأحيان كان الشاب أشقر الشعر يبقى لتناول العشاء. وتبقى الموسيقى تصدح في الأعلى بينما يغط والدي بالنوم، وأنا لوحدي أبقى ساهراً في شقتنا، فقد اعتدت أن أبدأ الكتابة في ذلك الوقت. وبطريقة أو بأخرى كانت الموسيقى الصادرة من الأعلى تؤنس وحدتي. حوالى الثانية صباحاً، تتوقف الموسيقى والأصوات ويحل صمت غريب يسكن المبنى كله، ليس شقة بيبي فقط، بل شقتنا والشقة التي تسكن فيها أمه، تلك التي تحمل على كاهلها توسع المبنى وتصدر صوتاً كالصرير في ذلك الوقت من الليل، وكأن وزن الدورين الإضافيين يفوق قدرتها على التحمل. وحينها لم يكن بإمكاني إن أسمع سوى صوت الريح… رياح ليل مدينة مكسيكو، ووقع خطوات الشاب أشقر الشعر وهو يتجه إلى الباب تصاحبه خطوات بيبي، ومن ثم وقع خطواته وحده وهو يهبط درجات السلّم… يطأ عتبة بيتنا، ويهبط طبقة السلم التالية ويصبح في الدور الأرضي، بعد ذلك أسمع صوت البوابة الحديدية الذي يعقبه صوت وقع الخطوات الذي يحتضر ويبتلعه شارع أورورا شيئاً فشيئاً إلى أن يتلاشى تماماً. كنت أتوقف عن الكتابة بعد ذلك (لا اتذكر الآن ما الذي كنت أكتبه، شيء تافه على الأغلب، ولكنه على الأرجح نص طويل يبقيني مستغرقاً فيه) وأصيخ السمع لألتقط الأصوات التي لم تعد تصدر من شقة بيبي، وكأن كل شيء هناك في الأعلى، بما في ذلك بيبي ولوبيتا، قد تجمد فجأة بعد مغادرة الشاب أشقر الشعر .

 

سرّ الشرّ

 

هذه القصة بسيطة جداً، لكن لها أن تكون بالغة التعقيد. هي أيضاً قصة غير مكتملة، لأن قصص كهذه لا تحتمل النهاية. ليلة من ليالي باريس، نرى صحفياً من شمال أمريكا نائماً. فجأة يرن جرس الهاتف، شخص ما يسأل باللغة الإنجليزية، وبلهجة لا يمكن تحديد أصل صاحبها، عن جو إي كيلسو. جو معك، يرد الصحفي وينظر بعد ذلك إلى ساعته. إنها الرابعة صباحاً، ولم يكن قد غفا سوى ثلاث ساعات ويشعر بالتعب. يقول الصوت على الطرف الآخر من الهاتف، يجب أن أراك لأطلعك على بعض المعلومات. يسأله الصحفي عن طبيعة هذه المعلومات. وكما هي العادة في هذا النوع من المكالمات، لا يُفصح الصوت عن أي شيء. يطلب منه الصحفي أن يعطيه رؤوس أقلام على الأقل. بلغة إنجليزية متقنة لا تشوبها شائبة، وعلى عكس لغة كيلسو، يقول الصوت إنه يفضل أن يلتقي به وجهاً لوجه قبل أن يُفصح عن أي معلومة. ويقول بعد ذلك مباشرة، ليس لدينا وقت نضيعه. أين نلتقي؟ يسأل كيلسو. يشير الصوت إلى أحد الجسور القائمة فوق نهر السين، ويضيف، يمكنك الوصول إلى هناك سيراً على الأقدام خلال عشرين دقيقة. الصحفي، الذي قد مر عليه مئات الاجتماعات الشبيهة بهذا، يقول إنه سيكون هناك خلال نصف ساعة. يرتدي ملابسه وهو يفكر في أن هذا الذي يحدث سيناريو غبي وطريقة سخيفة لقضاء الليل، إلا أنه يدرك بالرغم من ذلك، وببعض الدهشة، أنه لم يعد يشعر بالنعاس، وأن تلك المكالمة، بالرغم من سهولة التكهن بنتيجتها، قد تركته صاحياً تماماً. عندما يصل إلى الجسر متأخراً خمس دقائق عن الموعد المتفق عليه، لا يرى شيئاً هناك سوى السيارات. يقف لبعض الوقت جامداً في مكانه على أحد جانبي الجسر. يعبر بعدها إلى الجانب الآخر من الجسر، الذي لا يزال مهجوراً، وبعد فترة من الانتظار استمرت بضع دقائق على الجانب الآخر، يعود مرة أخرى ليعبر إلى الجانب الذي أتى منه ويقرر أن يترك القصة برمتها ويعود إلى منزله ودفء سريره. وبينما يسير عائداً إلى المنزل، يفكر في أصل صاحب الصوت، بالتأكيد ليس من شمال أمريكا، وأغلب الظن ليس بريطانياً، بالرغم من أنه غير واثق تمام الثقة من هذا الآن. من الممكن أن يكون من جنوب إفريقيا أو من أستراليا، يفكر، أو ربما هولندياً، أو قد يكون صاحبه من أوروبا الشمالية ممن تعلّموا اللغة الإنجليزية في المدرسة وأتقنوا استخدامهم لها في عدة بلاد ناطقة بالإنجليزية. أثناء عبوره الشارع يسمع أحداً يناديه باسمه: سيد كيلسو. يدرك في الحال أن الصوت صادر من أحد المداخل المظلمة وهو صوت الرجل نفسه الذي رتب للّقاء به على الجسر.  كيلسو على وشك أن يتوقف، لكن الصوت يأمره بمواصلة السير. عندما يصل إلى المنعطف التالي يستدير ليكتشف أن ما من أحد يتبعه. تغريه فكرة أن يعود أدراجه، لكن بعد لحظة من التردد يقرر أنه من الأفضل أن يكمل طريقه. فجأة يظهر الرجل من شارع جانبي ويلقي عليه التحية. يرد كيلسو له التحية. يمد الرجل يده، ساشا بينسكي، يقول. يصافحه كيلسو ويعرّف عن نفسه. يربّت بينسكي على ظهره ويسأله إذا كان يرغب في تناول كأس من الويسكي. قليل من الويسكي، هذا ما قاله على وجه الدقة. يسأل كيلسو إذا كان يشعر بالجوع. يؤكد الرجل الغريب للصحفي أنه يعرف مقهى يمكنهما أن يحصلا فيه على فطائر كرواسان خارجة لتوها من الفرن. ينظر كيلسو إلى وجه محدّثه. بالرغم من أن بينسكي يرتدي قبعة على رأسه، يستطيع رؤية أن وجهه أبيض شاحباً وكأنه أمضى سنوات طويلة وهو حبيس أربعة جدران. ولكن أين؟ يتساءل كيلسو. في سجن أم في مصحة للأمراض العقلية؟ على أي حال، فات أوان التراجع الآن، ولن يضير كيلسو تناول فطيرة كرواسان طازجة في هذا الليل. المقهى يحمل اسم «شي بان»، وبالرغم من أنه موجود في الحي الذي يقيم فيه (في شارع جانبي ضيق بطبيعة الحال)، إلا أنها المرة الأولى التي تطأه قدماه، وربما المرة الأولى التي يراه فيها، فهو غالباً ما يتردد على الأماكن التي تحمل أجواؤها مسحة غامضة وأسطورية في مونبارناس: المكان الذي تناول فيه سكوت فيتزجيرالد طعامه ذات مرة، مكان كان جويس وبيكيت قد شربا الويسكي الأيرلندي فيه ذات يوم، المشرب الذي كان يفضله همنغواي ودوس باسوس وترومان كابوتي وتينيسي ويليامز. كان بينسكي محقاً بخصوص الكرواسان في «شي بان»، فهي شهية وخارجة من الفرن لتوها، والقهوة أيضاً لا بأس بها. وهو الأمر الذي يجعل كيلسو يفكر… لا بد وأن يكون هذا الشخص من أبناء المنطقة، من أبناء الحي، من الجيران… فكرة تدب الرعب في قلبه. وبمجرد أن تراوده هذه الفكرة، تنتابه رجفة تهز كيانه. أهو مجرد شخص مزعج وممل، أم ذهاني يعيش في أوهامه، أم مجنون فاقد عقله، أم متربص ما من أحد يتربص به، أم شخص علقة سيصعب التخلص منه بسهولة؟ لا يعلم! وفي النهاية يفتح فاه ويقول، كلي آذان صاغية. الرجل الشاحب، الذي يرتشف قهوته من دون أن يتناول معها شيئاً، ينظر إليه ويبتسم. ثمة شيء بالغ الحزن في ابتسامته، شيء من التعب الشديد أيضاً، وكأن تلك الابتسامة هي الأسلوب الوحيد الذي سمح لنفسه باستخدامه للتعبير عن تعبه وإرهاقه وأرقه. لكن بمجرد أن توقف عن الابتسام، استعادت ملامحه برودها وخلوها من التعبير.

—————–

القصتان من مجموعة قصصية بعنوان “سر الشر” The Secret of Evil 

 

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: