“سالينجر” ..نجومية العزلة والكتابة في الخفاء
العدد 171 | 19 نيسان 2015
زياد عبدالله


لأربعين سنة لم ينشرجيروم دايفيد سالينجر (1919 – 2010) شيئاً من كتاباته، رغم أنه لم يتوقف عن الكتابة يوماً، وليتضح لنا الآن أن ما كتبه في تلك السنوات أراد له أن ينشر بعد وفاته ابتداءً من عام2015 كما يطالعنا بذلك الفيلم الوثائقي “سالينجر” في نهايته وهو يشير إلى آلية نشر عدد من الأعمال أوصى بنشرها عبر مصدرين، وهكذا سيكون العالم حيال عاصفة أدبية استثنائية تبدأ من أميركا ولا نعرف أين تنتهي، هذا إن كان لها من نهاية.

يمكن القول عند مشاهدة الفيلم الوثائقي “سالينجر” Salinger 2013 إخراج شين سالرنو، إن الغياب هو الأكثر حضوراً في الأذهان، وربما يمكن تبني ذلك قبل مشاهدة الفيلم طالما أنه توثيق لحياة أشهر كتّاب أميركا في القرن العشرين، والذي شكّل لغزاً عصياً على آلة النجومية الأميركية، بحيث كان التقاط صورة له أمراً يستدعي مرابطة مصور أمام بيته المعزول في غابات “نيوهامشير” لثلاثة أيام.

طبعاً يمكن الحديث عن الغياب الذي يمسي حضوراً، حين يكون للغياب أثر ما، وذلك في مجتمعات تقدّس الإبداع والمبدعين، مضافاً إلى ذلك تحوّل عزلة سالينجر وهروبه التام من الأضواء فعل مناهضة لكل ما تأسست عليه الحياة الحديثة، ضارباً عرض الحائط بآلة التسويق والاستهلاك والأضواء التي تطحن كل شيء، وليكون كما هولدن كولفيلد في روايته الوحيدة “كاتشر إن ذا راي” (الحارس في حقل الشوفان) بحساسيته تماماً التي تتأمل هذا العالم الذي يخذله على الدوام، فلا يدع له أن يلحق به أي هزيمة وهو جالس إلى طاولته في كوخ عزلته في “نيو هامبشير”.

فيلم سالرنو وثيقة هامة جداً عن حياة هذا الكاتب، ويمكن وصفه بأنه أفضل ما يمكن صنعه عنه، وهذا آت من ندرة المادة الأرشيفية، فهو كاتب لم يجر مقابلة في حياته، وهو لا يظهر في الفيلم أبداً، وهذا لا علاقة له بما إذا كان سالينجر حياً أم ميتاً أثناء إعداد الفيلم، فهو لن يظهر أبداً وهو يتحدث، وهكذا سيجري تجميع كل ما هو متاح من مادة بصرية يظهر فيها سالينجر، والتي لن تتجاوز أكثر من عشر صور فوتوغرافية من بينها بورتريه مرسوم له حين تصدر غلاف “التايمز” عام 1961، بينما لن تتجاوز مقاطع الفيديو الاثنين، الأول يظهر فيه بروفيل وجهه وهو يتحدث مع امرأة فرنسية بعد تحرير فرنسا من النازية عام 1945، وهو مقطع صامت، كما هو الحال في مقطع الفيديو الثاني وهو يستقل سيارة رفقة امرأة بعد تفقده زيارته مكتب البريد النشاط الوحيد الذي كان يمارسه ويخرجه من كوخ عزلته.

يشكّل الفيلم سيرة ذاتية لسالينجر وقد صدر ككتاب من تأليف المخرج نفسه، وهو يحتوي على شهادات عديدة لأصدقاء الكاتب وعشيقاته، مروراً بعدد من النقّاد والكتاب والمحررين مثل غور فيدال وآخرين، إضافة لممثلين مثل سيمور هوفمان ومارتن شين وإدوارد نورتن،ومن خلالهم تتشكّل بيوغرافيا سالينجر.

سيحمل الفيلم التواريخ المفصلية في حياة سالينجر، وهي على ارتباط وثيق بثلاثة مفاصل، الأول تمثله الحرب العالمية الثانية، بينما سيكون ما عداها متواصلاً ومستمراً أي الأدب والنساء. فسالينجر تطوع في الجيش الأميركي ومضى إلى النورماندي حيث كان ضمن وحدة مكافحة التجسس، وهناك حسب الفيلم تبلورت موهبته، وللدقة بدأ بكتابة “كاتشر إن ذا راي”، والتي لن ينشرها إلا في عام 1951 بعد أن يتلقى الرفض من دار نشر اعتبرت كولفيلد مجنوناً، ومن ثم رفض مجلة “النيويوركر” نشرها ونصح المحرر وليم ماكسويل له بإعادة كتابتها، وقد كان قد سبق لهمنغواي أن قرأها وأبدى إعجابه الشديد بها، وكما يرد في الفيلم فإن هذه الرواية باعت أكثر من 60 مليون نسخة منذ صدورها، وتبيع في كل عام أكثر من 250 ألف نسخة.

الحرب العالمية الثانية ستكون مسرحاً أيضاً للتعرف على أول حب موثق ومعروف وقع فيه سالينجر، وهو قصة حبه لأونا أونيل (ابنة يوجين أونيل) التي كتب لها رسائل مطولة أثناء الحرب، وقد توقفت عن حبه وهو هناك، حين أصبحت على علاقة مع تشارلي شابلن الذي سيتزوجها، هي التي كانت على علاقة مع المخرج أورسون ويلز قبل سالينجر. 

سيتزوج سالينجر الابن لأب يهودي  وأم كاثوليكية للمرة الأولى عند نهاية الحرب من سيلفيا الألمانية النازية، وهذا لافت جداً وإن كان زواجاً لن يعمر أشهراً معدودات. على كل لن تخلو عزلة سالينجر التي تلي الحرب من النساء، وهناك الكثير من القصص على اتصال بذلك، وهو على شيء من “عقدة لوليتا” لكنه لا يطيق العذراوات، الأمر الذي سيتضح من خلال أعمار من عشق وأحب، ومنهن جين ميلر التي سيهجرها بمجرد أن يعرف بأنها عذراء كما ستروي بنفسها، وصولاً إلى زواجه من كلير دوغلاس التي ستنجب له ابنته وابنه، وهو بالكاد يراهم منعزلا في كوخه المجاور لبيته، الزواج الذي سيفشل في النهاية.

الفيلم حافل بالقصص عن سالينجر، وبالتأكيد لن يجري استعراضها ها هنا كاملة، لكن لابد من إيراد أن من اغتال جون لينون كان يحمل نسخة من “كاتشر إن ذا راي” عندما أقدم على فعلته واستخدم وصف Phony “متصنع أو متكلف” في وصفه للينون توصيف كولفيلد الشهير لمن يصادفهم، كذلك الأمر بالنسبة لمن حاول اغتيال رونالد ريغان، أمور ندع لكم التعرف عليها من خلال مشاهدة الفيلم. 

ختاماً علي ذكر أن قصة سالينجر “أنا مجنون” التي يحملها هذا العدد بترجمة شادي خرماشو، هي أول قصة نشرها بعد عودته من الحرب، وفيها الكثير من ملامح تشكل “كاتشر إن ذا راي”.

ها هو رابط لمشاهدة الفيلم كاملاً:

https://www.youtube.com/watch?v=MqPWWYYGYHE

___________________________________

الصورة من أعمال الفوتوغرافي الإيطالي أمبرتو فيردوليفا Umberto Verdoliva

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.